صبري جريس – ثنك تانك

صبري جريس “ثنك ثانك

 حسن البطل

صنو محمود درويش في الشعر.. ليس إلا المؤرخ-الباحث- كاتب المقالة المحامي صبري جريس، ابن قرية فسوطة الجليلية. لماذا؟

هو مثله، متعدد الأبعاد والرؤى والأمكنة أيضاً. عاش فلسطين الاسرائيلية، وفلسطين الثورية، وفلسطين السلطوية. ان كان “يوم الارض” عماد الايام الفلسطينية، فقد قام هذا اليوم الطويل، مبكراً، بين 1959-1968 على مناكب أربعة من الدعاة: حبيب قهوجي، منصور كردوش، صبري جريس.. وصالح برانسي.

 أصدرت هذه الزمرة الطليعية ستة أعداد من نشرة غير دورية. “نداء الأرض”، “شذى الأرض”… الخ، وحوكمت “حركة الأرض” 1964، وحلها رئيس الوزراء ليفي اشكول، وفي العام 1965 نافست باسم “القائمة الاشتراكية” في انتخابات العام 1965.. وأخيراً، نفي قهوجي وجريس للشام وبيروت.

 أصدر قهوجي من دمشق نشرة “الأرض” نصف الشهرية، وأدار جريس مركز الابحاث-م.ت.ف في بيروت ونيقوسيا، وعن المركز صدرت شهرية “شؤون فلسطينية” الفكرية-البحثية-السياسية، وأبرز مطبوعات م.ت.ف

 يسجّل للمحامي صبري جريس، خريج الجامعة العبرية، إضافات وشروحات وتعديلات على القانون الاسرائيلي، لكن يسجل له الاسرائيليون واحداً من أفضل المراجع عن “تاريخ الصهيونية” معتمداً، لمرة أولى، مصادر عبرية، وانكليزية وعربية، وصدر من هذا المؤلف الضخم جزءان.

 بأناة المؤرخ، وموضوعية الباحث، ورصانة كاتب المقالة، يُعتبر صبري جريس علماً من أعلام هذه المجالات، وعن معرفة شخصية ينطبق عليه قول الشاعر توفيق زياد: “برودة الجليد في أعصابنا/وفي قلوبنا جهنم حمرا..”

 إن تحدثنا عن “الانتلجنسيا” الفلسطينية، فإن صبري واحد في المقدمة، بل ويستحق بجدارة تبوؤ مكانة في طبقة المفكرين النخبة “ثنك-ثانك”.

 هذا التعريف قد يكون ضرورياً للجيل الصاعد في فلسطين السلطوية، وأما للمفكرين والبحاثة “والعائدين” فإن صبري: المؤرخ والباحث والكاتب مثل “نار على علم”.  هذه خلفية شخصية-تاريخية-فكرية لمقالته الأولى في “الأيام” أمس، بعنوان “المسار الدولي هو الأمثل”. ليس مثله من يعرف اسرائيل وفلسطين، والصراع متعدد الأشكال والمجالات بينهما.

 التأييد الدولي لقضية فلسطين في ذروته، والتقوقع الاسرائيلي في حضيضه، والنظام السياسي والقيادة الاسرائيلية يبدوان غير قادرين، في الأفق المنظور، على التعامل الإيجابي مع ابسط متطلبات الحل العادل.

 في مثل هكذا وضع ومعطيات، لا تبدو فائدة في الرهان على الولايات المتحدة (معركة أميركا) لكن الفائدة في الرهان على الدور الأوروبي (معركة أوروبا) وقد كسبها الفلسطينيون بدءاً من “بيان البندقية” أواخر سبعينيات القرن المنصرم.. فإلى البيان الثلاثي: الفرنسي، البريطاني، الألماني حول الحل والدولة والسلام، وهو بيان تدعمه روسيا والأمم المتحدة.

 اميركا تشاغل وتعيق اوروبا وروسيا والأمم المتحدة في “الرباعية”، بينما تبدو السلطة الفلسطينية مستعدة لتبعات “مناطحة اميركا” في عرين الشرعيات الدولية (لاهاي، الجمعية العامة، مجلس الأمن).. اسرائيل لا غنى لها عن أميركا، لكن فلسطين في غنى عن الرهان على أميركا!

 لكن، ما الذي يشاغل الفلسطينيين؟ يقول صبري جريس: ابتعدوا عن ترهات السياسة الفلسطينية المحلية، وألاعيب بعض هواة العمل السياسي، مثل تعليق التقدم في المجال الدولي على تحقيق ما يسمى الوحدة الوطنية من جهة، أو الانتفاضة الثالثة من جهة أخرى.

 الوحدة الفلسطينية غير قابلة للتحقق في مجتمع تعددي كالمجتمع الفلسطيني، كما أن الدعوة لانتفاضة “شبابية” ليست إلا ضرباً من العبث.. الانظار والجهود ينبغي أن تتركز على الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

 لماذا؟ لأنها – كما أرى – نقلة نوعية في الصراع الوجودي-الدولاني، وباتجاه إنجاز حق تقرير المصير، باعتبار الشعب الفلسطيني آخر الشعوب في نوال مثل هذا الحق الطبيعي.  قد أضيف الى مقالة صبري، والى سؤال محرر في “لوموند دبلوماتيك” : لماذا لا يثور الفلسطينيون، وهم من بدأ “الانتفاضة” وأدخلوها القاموس السياسي الدولي!

 ماذا أقول: تتلقى فلسطين وطأة صعود وانهيار أربع ايدولوجيات: العروبية، اليهودية-الصهيونية والاسلامية.. وأخيراً الوطنية الفلسطينية. هذا عبء جسيم الوطأة. مجال التحرك المتاح هو إلحاق هزيمة بـِ “التقوقع” الاسرائيلي-و”بالثور الامبريالي المترهل”. قادرون على “عزل” اسرائيل دولياً، وشل اسطورة الولايات المتحدة سياسياً. بأناة المؤرخ، وموضوعية الباحث ورصانة كاتب المقالة.. والمعرفة العميقة باسرائيل وفلسطين، يدلنا صبري جريس على الطريق السليم: في الأرض الفلسطينية دولة فلسطينية.

[ نشر في جريدة “الايام” (رام الله)، 10/4/2011 ]
الأرشيف