نحو استراتيجية فلسطينية اخرى

نحو إستراتيجية فلسطينية أخرى

(في ظل الاعتراف بدولة فلسطين)

صبري جريس

   حدثان مهمان وغير مسبوقين وقعا خلال شهر تشرين الثاني 2012 على صعيد القضية الفلسطينية؛ أولهما الاعتراف بفلسطين دولة من قِبَل الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وإن كانت غير عضو في المنظمة الدولية، إذ منحت لها صفة المراقب فقط. أما ثانيهما فيتمثل في دحر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، إثر مقاومة باسلة وناجعة أجبرت المعتدي الإسرائيلي على طلب وقف إطلاق النار والمسارعة إلى القبول به وفق شروط اعتاد سابقاً رفضها.

   لقد تم الاعتراف بفلسطين دولة ضمن حدود 1967، لتضم الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، يوم 29 من الشهر، أي بعد مرور 65 سنة بالضبط على اليوم نفسه من سنة 1947، عندما صوتت المنظمة نفسها على القرار 181 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دوليتين، عربية ويهودية. وبذلك يبدو أن للتصويت الأخير دلالة رمزية لها معانيها، من حيث اعتباره نوعاً من الإنصاف، وإن كان جزئياً وجاء متأخراً، للفلسطينيين وإعادة جزء، على الأقل، من حقوقهم لهم. وتجدر الإشارة إلى أن قرار الاعتراف بدولة غير عضو في الأمم المتحدة لا ينتقص من مكانتها كثيراً، إذ جل ما يعنيه هو أن مثل تلك الدولة لا يحق لها التصويت على مشاريع القرارات في الأمم المتحدة؛ وهي ميزة يمكن العيش بدونها.

   ويلاحظ كذلك أن قرار الاعتراف حاز على تأييد أكثرية كبيرة من أعضاء المنظمة الدولية، إذ صوتت إلى جانبه 138 دولة، أي أكثر من ثلثي الأعضاء (نحو 70%)، بينما عارضته 9 دول، من بينها إسرائيل، وبالطبع، و”وكيلتها”– حاميتها الولايات المتحدة، فيما امتنعت 41 دولة عن التصويت وغابت 5 دول عن حضور الجلسة. وبذلك يكتسب قرار الاعتراف هذا، عدا عن أبعاده السياسية، مكانة أدبية وتاريخية مرموقة، ولاشك أنه ستكون له أبعاده الواضحة في إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، شرط أن تتم متابعة كافة نواحيه وأبعاده وتفعيله كرافعة للتقدم على طريق تحقيق الاستقلال الكامل والحقيقي.

   ولا يمكن، للأسف، اعتبار مثل هذا الاتجاه وكأنه أمر مضمون وحتمي، في ضوء الممارسات الخاطئة والمترددة التي شاهدناها خلال عقود طويلة؛ إذ يمكن، ببساطة لا يقدر عليها إلاّ بعض الفلسطينيين، ترك هذا القرار وشأنه، أي الإبقاء عليه حبراً على ورق وعدم استغلاله وتفعيله، بأبعاده المختلفة، بل حتى إساءَة استعماله، كما حدث في الماضي مع العديد من قرارات المنظمة الدولية والهيئات المماثلة. ومن هنا يؤسس هذا القرار لحقبة جديدة يفترض أن ينشط فيها الوطنيون الفلسطينيون، من أحزاب وتنظيمات ومؤسسات وأفراد، على اختلاف اتجاهاتهم، للعمل على تنفيذ ذلك القرار وما يترتب عليه أو، على الأقل، المساهمة في ذلك، وليس ترك الأمر للزعامات الفلسطينية وحدها لتفعل، أو ربما لا تفعل، ما تشاء.

الواقع المر يفرض نفسه

   ليس في ما ذهبنا إليه ما يمكن اعتباره نوعا من التجني على احد كائناً ما كان. فمن الواضح للغاية أن الاتجاه إلى الأم المتحدة، وانتهاج طرق المسارات الدولية كوسيلة لحل القضية الفلسطينية، بعد أن سدت الطرق وضاقت الأفق أمام أي حل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لم يكن تخطيطاً استراتيجياً فلسطينياً عظيماً قامت به الزعامات الفلسطينية، بل كان اتجاهاً فرض عليها نتيجة للأوضاع الحرجة التي راحت القضية الفلسطينية تمر فيها، بعد أن تم تهميشها من قِبَل المحتل الإسرائيلي، على كل صعيد، ليس نتيجة لسياسته العدوانية التوسعية فقط، بل أيضاً كانعكاس للتخاذل الفلسطيني في التعاطي مع الاحتلال والتصدي لمخططاته.

   ففي خطابه السابق في الأمم المتحدة، مثلاً، يوم 27/9/2012، إثر افتتاح الدورة الحالية للجمعية العمومية، رسم الرئيس محمود عباس صورة مأساوية وقاتمة، وحقيقية، للأوضاع في فلسطين، في أكثر من مجال، نتيجة خضوع البلد لـ”نظام الاستيطان العنصري الإسرائيلي”، القائم “على سياسة حكومية تعتبر تشجيع الاستيطان والمستوطنين وإرضاءَهم أولويتها المطلقة”.

   ويمضي عباس في وصف الإجراءَات والممارسات الإسرائيلية في إطار هذه السياسة موضحاً أن سلطات الاحتلال تواصل “تشديد الحصار وفرض القيود الصارمة على التنقل ومنع … تنفيذ مشاريع البنية التحتية”، إضافة إلى “المشاريع الزراعية والصناعية والسياحية والإسكانية”، بل أنها تعمد حتى إلى تدمير ما تبنيه السلطة؛ مشيراً، مثلاً، إلى هدم 510 منشآت وتشريد 770 مواطناً من أماكن إقامتهم خلال السنة الماضية فقط. كما أنها، مثلاً أيضاً، تغض الطرف عن الاعتداءات الإرهابية لميليشيات المستوطنين وتدعم توجهاتهم بسلسلة من القوانين العنصرية ضد الفلسطينيين وتواصل حملتها الاستيطانية على القدس ومحيطها وحصارها الخانق على قطاع غزة وتصر على اعتقال نحو خمسة آلاف من أسرى الحرية الفلسطينيين في سجونها. ويلخص الرئيس الفلسطيني وجهة نظره في الأهداف التي يسعى الاحتلال إلى تحقيقها قائلاً “إن الحكومة الإسرائيلية تريد مواصلة احتلالها للقدس الشرقية وضم مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية إليها ومواصلة احتلال نسبة كبيرة أخرى منها تحت مسميات مختلفة”. كما أنها “ترفض البحث الجدي في قضية اللاجئين الفلسطينيين وتريد مواصلة احتلال أحواض المياه الفلسطينية … وسيطرتها على أخصب أراضينا الزراعية وعلى أجوائنا وهوائنا وحدودنا”. و”الحل” الذي يسعى إليه الاحتلال، من خلال ممارسات كهذه، هو “خلق معازل فلسطينية صغيرة محاصرة بالكتل الاستيطانية الضخمة وبالجدران والحواجز والمناطق الأمنية الواسعة والطرق المخصصة للمستوطنين، وستكون بالتالي خاضعة للهيمنة الكاملة لاحتلال عسكري استيطاني يعاد إنتاجه بمسميات جديدة، كالخطة أحادية الجانب لإقامة ما يسمى الدولة ذات الحدود المؤقتة”. وخلاصة كل هذه الأنشطة والممارسات، بحسب تعبير عباس، هي “أن إسرائيل تعد الشعب الفلسطيني بنكبة جديدة”.

   وما كانت هناك حاجة لاقتباس كل ما قدمناه من خطاب الرئيس الفلسطيني لولا ضرورة الإشارة إلى أن هذا التحليل يأتي على لسان أحد أكبر “مهندسي” أوسلو على الجانب الفلسطيني، إن لم يكن “المهندس الأكبر”، مع أل التعريف مرتين، على الإطلاق. وليس في ذلك إلاّ دليلاً آخر نهائياً، لمن قد يحتاج لمثل هذا الدليل، على انتهاء مسار أوسلو بفشل ذريع، على كل ما تضمنه من مفاوضات أو ترتيبات.

   وللقفز عن هذا الفشل ومحاولة رسم طريق جديد لتحقيق التطلعات الفلسطينية، يكمل عباس بيانه بقوله أننا “سنواصل مساعينا للحصول على عضوية كاملة لفلسطين في الأمم المتحدة” وهو ما بدأ باستصدار قرار الاعتراف المذكور من الجمعية العمومية باعتبار فلسطين دولة، وإن كانت غير عضو في الأمم المتحدة؛ لتحصل على العضوية الكاملة عندما تحين الفرصة لذلك.

   في هذا الصدد قلنا، وقال العديد غيرنا، منذ ما يقارب من سنتين أنه، في ضوء الأوضاع الدولية والإقليمية وكذلك التعقيدات غير المنتهية التي تجابه القضية الفلسطينية، ليس هناك من طريق لمتابعتها، بصورة قد تكون ناجعة، إلاً انتهاج المسار الدولي. وهذا يعني بالتالي نقل الصراع إلى المحافل الدولية، وعلى أن يبدأ ذلك بالعمل على الاعتراف بفلسطين دولة، وإن كانت غير عضو في الأمم المتحدة، بل مراقباً فقط؛ إذ لا يمكن تحقيق العضوية الكاملة حالياً نظراً للمعارضة الشرسة التي يبديها الإمبرياليون الأميركيون لذلك.

   وقد كان بالإمكان حقاً متابعة مثل هذا المسار خلال دورة السنة الماضية (2011) للجمعية العمومية والحصول على الاعتراف بفلسطين، تماماً كما حصل عند قبولها عضواً في اليونسكو يوم 31/10/2011. إلاّ أن القيادة الفلسطينية، لأسباب خاصة بها، ارتأت عكس ذلك وفضلت دق رأسها في الحائط، وذلك بالاتجاه رأساً إلى طلب العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، مع أنه كان واضحاً للغاية، سلفاً، أن مثل هذا المسعى سيمنى بالفشل، إذ لن يستطيع الفلسطينيون الحصول على الأصوات الكافية الضرورية في مجلس الأمن لتأييد ذلك الطلب، نظراً لمعارضة الإمبرياليين الأميركيين. وحتى إن تم ذلك فهناك الفيتو الأميركي الذي سيحول دونه. ولكن رغم ذلك أصرت تلك القيادة على سلوك هذا الطريق، بل أنها بذلت فعلاً جهوداً كبيرة لإقناع دول عديدة بتبني المسعى الفلسطيني. إلاّ أن ذلك كله انتهى إلى فشل. وبذلك خسر الفلسطينيون سنة كاملة من متابعة ذلك المسار الدولي ومحاولة الإفادة منه.

   وعلى اعتبار أن بعض الظن ليس إثماً لابد من الإشارة إلى أن تلك القيادة بمتابعتها مساراً كان من الواضح، سلفاً، أنه سيفشل، قد أخطأت التقدير السياسي، إذا افترضنا حسن النية لديها، أو أنها كانت تمارس نوعا من المزاح ثقيل الظل بهدف إلهاء الجماهير عن القضايا المصيرية التي تواجهها. وبذلك تستمر في تشبثها بلعبة المفاوضات القديمة، آملةً أن يؤدي مجرد التحرك في الأمم المتحدة إلى دفع نوع جديد من المفاوضات، أكثر جدية، وهو افتراض ساذج لم يكن في محله أيضاً. وبالتالي لم تسفر تلك المحاولات عن أية نتيجة تذكر، إن لم تكن قد أضرت بالمصالح الفلسطينية.

   ويبدو أن مثل هذه “الفهلوة” لا تزال كنه “الإستراتيجية” السياسية الكبرى لبعض الزعامات الفلسطينية، إن لم يكن معظمها، إذ لا نزال نسمع، بين الفينة والأخرى، تصريحات من هنا وهناك، حول النية للعودة إلى المفاوضات مع إسرائيل، بعد الحصول على الاعتراف بفلسطين، على اعتبار أن الوضع الجديد سيحسن موقف الفلسطينيين التفاوضي. ولا يمكن اعتبار مثل هذا الاتجاه أيضاً، استناداً إلى تجارب الماضي، العميقة والطويلة والمريرة، إلاّ نوعاً من الهراء والضحك على الذقون والقفز في الفراغ. لقد ضربت اسرائيل عرض الحائط بالعشرات، إن لم يكن المئات، من قرارات المنظمة الدولية، خلال عقود طويلة؛ فدرجت عادة على قبول ما هو مفيد لها منها، وأهملت الباقي. وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد أن موقفها من قرار الاعتراف بفلسطين سيكون هذه المرة مختلفاً؛ إلاّ إذا أرغمت على ذلك.

للاعتراف بالدولة أسنان وأظافر

   ليس من السهل، كما هو معروف، حمل إسرائيل على تغيير سياساتها تجاه الفلسطينيين وقضيتهم؛ إلاّ إن ذلك ليس مستحيلاً أيضاً. والأمر متوقف، إلى مدى غير قليل، على الفلسطينيين أنفسهم، قبل غيرهم.

   إن الاعتراف ألأممي بدولة فلسطين، حتى وإن كانت – حتى الآن – غير عضو في الأمم المتحدة، إنجاز تاريخي ومهم للغاية يمثل نقلة نوعية لا عودة عنها في المسار الفلسطيني نحو الاستقلال والحرية. فهو، من جهة، يضع حداً للفذلكة الصهيونية – الإمبريالية بأن الأراضي الفلسطينية المحتلة هي مناطق “متنازع عليها”، إذ يحوّلها دولياً وقانونياً إلى دولة واقعة تحت الاحتلال؛ ومن جهة ثانية يمنح الفلسطينيين وسائل ناجعة للتعامل مع الاحتلال والقفز فوق مخططاته والتصدي لها، بما لا يخلو من نجاعة، ومن ثم أبطالها.

   وفي هذا الصدد، إن شئنا الاتجاه نحو التنفيذ، يتوجب، أولاً، على المسؤولين الفلسطينيين المسارعة إلى استكمال ذلك الاعتراف والبناء عليه، وذلك بتقديم الطلبات الضرورية، اليوم قبل الغد، للانضمام إلى المؤسسات الدولية، التي يسمح وضع فلسطين الجديد بها. وهي على سبيل المثال فقط، لا الحصر، التالية:

   * المحكمة الجنائية الدولية، حيث يمكن مقاضاة المسؤولين الإسرائيليين عن الاستيطان أو المستوطنين الذين يقومون بالاعتداء على سيادة فلسطين ومصالح سكانها.

   * محكمة العدل الدولية، حيث يمكن مقاضاة إسرائيل وإجبارها على رفع حصارها الجائر عن غزة.

   * معاهدة قوانين البحار، حيث يمكن أن تحصل فلسطين على حصتها العادلة من حقول الغاز المقابلة لشواطئ غزة، بحيث تضمن بالتالي دخلاً قد يكفيها لإدارة شؤونها المالية ذاتياً، دون الحاجة إلى استجداء المساعدات من أحد.

   * اتفاقية جنيف الرابعة بشأن قوانين الحرب وأعرافها، التي تضمن للمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وضع أسرى حرب على ما لذلك من مزايا، بدلاً من اعتبارهم سجناء جنائيين.

   * المنظمة العالمية للطيران المدني، حيث يمكن استعادة السيادة والسيطرة القانونية على المجال الجوي الفلسطيني.

   * الاتحاد العالمي للمواصلات اللاسلكية، حيث يمكن استعادة السيطرة على الموجات الإذاعية، بما في ذلك تلك المخصصة للهواتف النقالة.

   إن للانضمام إلى المؤسسات الدولية المذكورة وغيرها، كما هو واضح، فوائد عملية جمة على أكثر من صعيد، تصب كلها في خانة تثبيت استقلال فلسطين وتقويته. ولذلك لا مجال للتلكؤ أو التباطؤ في التقدم بمثل هذه الطلبات، بل ينبغي ألا يُسمح بذلك أو يتم التسامح معه. لقد سمعت هنا وهناك اقتراحات أو طلبات بضرورة تأجيل متابعة هذا الاتجاه، وذلك “حرصاً” على استمرار “مسار السلام”، وكذلك “المفاوضات” بالطبع. إلاً أن هذا ليس إلاً كلاماً فارغاً يراد به باطلا، إذ أنه أشبه بعقد زواج مع وقف التنفيذ؛ ولن يعني إلاّ إعادة فرض القيود على فلسطين من الشباك بعد أن طردها الاعتراف من الباب. فـ”السلام”، إن حل يوماً، لا يقوم على الانتقاص من حقوق فلسطين بل، على العكس، من خلال استرجاعها، كاملة غير منقوصة. ويقيناً أن المثابرة على إتباع مثل هذا المسار واستثمار مزاياه، دون تردد أو وجل، هو المعيار الرئيسي لمدى الجدية التي تعلقها الزعامات الفلسطينية على ذلك الإنجاز السياسي الكبير الذي حققته فلسطين بالاعتراف بها. ومن ناحية أخرى، إن حدث العكس من هذا، فلن يكون في ذلك إلاً تمهيد الطريق أمام كوارث جديدة تحل بالفلسطينيين جميعاً، وتصيب زعاماتهم المتقاعسة أولاً.

   وهناك فعلاً ما يدعو إلى التحسب من مثل هذا الاتجاه والتحذير من نتائجه المدمرة في ضوء تجارب الماضي، على التخاذل الذي بان خلالها، أكثر من مرة، عند الوصول إلى المفاصل المعقدة والصعبة. فقبل بضعة سنوات مثلاً، قضت محكمة العدل الدولية بعدم شرعية جدار الفصل العنصري، الذي تقيمه إسرائيل على حدود الضفة. إلاّ أن هذا القرار، على أهميته، لم يُستغل بصورة ناجعة، دولياً أو محلياً، وبقي عملياً حبراً على ورق. والسكان الفلسطينيون المتضررون مباشرة منه يقومون بالمظاهرات الأسبوعية ضده، دون أن يحرك الأمر ساكناً. وبعد ذلك بعدة سنوات صدر، مثلاً أيضاً، تقرير غولدستون إثر التحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، خلال حرب 2007، على ما تضمنه من إدانة دامغة للممارسات والسياسات وجرائم الحرب الإسرائيلية. وقد تمت متابعة هذا القرار في المحافل الدولية، في حينه، إلاّ أنه لم يمض إلاّ وقت قصير حتى اتضح أن مواصلة البحث به “تأجلت”، بناءً على طلب قيادي فلسطيني. ولما قامت الضجة حول ذلك أوضحت إسرائيل أن التأجيل تم من خلال صفقة منحت بموجبها مؤسسة فلسطينية معينة حق تشغيل شبكة هواتف نقالة جديدة في الضفة، وذلك لقاء وضع التقرير على الرف وعدم متابعته فلسطينياً. وعلى الأثر شكلت لجنة تحقيق فلسطينية في وقائع هذا الحدث، إلاً أن تلك اللجنة لم تصدر أي بيان عن أعمالها حتى الآن، بينما لا يزال البحث في تقرير غولدستون مؤجلاً حتى الآن أيضاً.

   والواضح أن هذا الأداء البائس لا يعود بنفع على الفلسطينيين، كما أنه لا يتماشى مع تصرفات من يسعون إلى إقامة دولة، بل يقوي العدوانية الإسرائيلية، ويؤدي إلى توسيع مداها، على الأضرار المدمرة التي تنجم عن ذلك. فإذا كان الفلسطينيون – هكذا يقول المنطق الإسرائيلي – على استعداد، من خلال ممارسة ضغوط خفيفة عليهم أو تقديم بعض الرشاوى لهم، للتنازل عن قضاياهم الكبرى أو “تأجيل” البحث فيها، فليس هناك ما يفرض على إسرائيل أن تخشاه منهم ومن ضجيجهم؛ ففي النهاية يمكن “تنفيس” أكبر المشاكل التي قد يواجهها الإسرائيليون والقفز عنها. وليس في تقييم كهذا ما يدفع الصهيونيين إلى أخذ القيادات الفلسطينية على محمل الجد أو الخوف منها أو مراعاة خاطرها. وعليه تبقى الأوضاع على ما هي عليه والممارسات الإسرائيلية على حالها، إن لم تصبح أكثر سوءاً. ولن يؤثر كثيراً، في هذا الصدد، الاعتراف بالدولة من عدمه.

   ولا حاجة للتنويه إلى أن مثل هذا الأداء ينبغي أن يتوقف ويتغير، دون لبس أو غموض أو تردد. فالأمر يتعلق بمصير الوطن والشعب، ولا يتحمل المزيد من المزاح والسخف والتواني. ولا شك أن التحديات القادمة ستكشف كنه المواقف القيادية في هذا الصدد، ولن تترك مجالاً كبيراً للتلطي وراء الشعارات الطنانة الفارغة. وهناك، في هذا المضمار، أيضاً مجرد مثل، قضيتان ساخنتان على المحك؛ أولهما اغتيال الشهيد عرفات، وثانيهما الجرائم الاستيطانية التي يصر الكيان الصهيوني على تنفيذها، حتى بعد صدور قرار الاعتراف بفلسطين.

   وفيما يتعلق بجريمة اغتيال عرفات يبدو، مما رشح من أنباء حتى الآن، أن القيادة الفلسطينية ومعها عائلة عرفات كانوا على علم يوم وفاته، أو ربما قبل ذلك، أن الرجل مات مسموماً. فقد أدلى مؤخراً أحد الأطباء المتخصصين في التحاليل الإشعاعية المخبرية في المستشفى الفرنسي العسكري، الذي توفي عرفات فيه، أن الرجل مات مسموماً، “دون شك” بحسب تعبيره؛ أي ما معناه أن المستشفى كان على علم بذلك ولا شك أنه أبلغ المعنيين على الجانب الفلسطيني به. إلاً أن الأمر بقى طي الكتمان، كما يبدو نتيجة لحالة الهلع واصطكاك الركب التي سيطرت على المعنيين الفلسطينيين، خوفاً من ردود الفعل إذا انتشر السر. بل كان من الممكن أن يبقى هذا الأمر طي الكتمان إلى ما لا نهاية لولا أن فضائية “الجزيرة” قامت بفضحه في تقرير علمي مصور لا لبس فيه. ولذلك لم يعد هناك مناص من فتح قبر الرئيس الشهيد ورفع عينات منه وإجراء الفحوص المخبرية الدقيقة، بمعرفة وإشراف خبراء دوليين من أكثر من دولة، وكذلك قضاة؛ وهو ما تم فعلاً. إن نتائج هذا الفحص تكاد تكون معروفة قبل أن تنشر رسمياً، كما أن القاتل أو القتلة معرفون جيداً. وبقى أن نعرف إلى أي مدى ستكون القيادات والأجهزة الفلسطينية المعروفة على استعداد لمتابعة هذا الموضوع حتى نهايته واستنفاذ كافة الإجراءات العدلية بحق الجناة. ومما وقفنا عليه حتى الآن من مستوى الأداء البائس في مثل هذه الحالات لا ينبغي أن نستبعد اتجاه المعنيين إلى “مطمطة” أي تقرير يصدر في هذا الصدد، خوفاً من المحتلين الصهاينة؛ وهو ما يتطلب من الآن التفتيش عن جهات وأجهزة وآليات بديلة لمتابعة هذا الأمر.

   وتكاد الاعتبارات نفسها تنطبق على الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الغاشم، الذي ينهش أرض فلسطين ومصالح أهلها، ويمهد لقيام الإمبراطورية الصهيونية، وإن كانت وستبقى قزمية الأحجام. لقد كان الاستيطان منذ نشوء الحركة الصهيونية الاستعمارية، رأس الحربة فكراً وعملاً في مشاريعها الهادفة للسيطرة على فلسطين وشعبها وربما بعض الجوار أيضاً. وأساليب البلطجة، من غش واحتيال وخداع وما شابه، ناهيك عن استعمال القوة، التي لجأ إليها الصهيونيون لنشر استيطانهم في فلسطين هنا وهناك، منذ بداية نشاطهم في البلد، مع أواخر القرن التاسع عشر، تكاد تكون شبيهة بتلك التي تلجأ إليها أكبر تنظيمات المافيا العالمية. إلاً أن هذه المشاريع الاستيطانية الواسعة، أي كل ما يقع منها داخل دولة فلسطين، تلقت ضربة مميتة بعد الاعتراف العالمي بدولة فلسطين. وبقي فقط أن نجد هناك من سيتولى القيام بعملية دفنها.

   إن الاستيطان الإسرائيلي في دولة فلسطين المحتلة أصبح، منذ الاعتراف بها، جريمة حرب بامتياز تعاقب عليها القوانين الدولية المرعية. ففي أعقاب ترحيل السكان الأصليين من بلادهم، التي قام بها النازيون الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، في البلدان التي احتلوها من أوروبا آنذاك، ومن ثم توطين ألمان بدلاً منهم في بعض تلك المناطق، توافق العالم المتمدن، بعد انتهاء تلك الحرب، على اعتبار مثل تلك الممارسات جريمة حرب تستوجب العقاب ولا تسقط بالتقادم. وهذا التعريف ينطبق بالضبط على الاستيطان الصهيوني في فلسطين، من حيث أنه يسعى إلى ترحيل السكان الفلسطينيين الأصليين من أماكن سكنهم وإحلال المستوطنين اليهود محلهم.

   وفي أعقاب الاعتراف الدولي بفلسطين عادت حليمة إلى عادتها القديمة. فأعلنت حكومة إسرائيل، كما اعتادت أن تفعل في كل مرة تتجه فيها إلى “معاقبة” الفلسطينيين، عن هجمة استيطانية جديدة تزمع تنفيذها في أراضي فلسطين المحتلة. وردت القيادة الفلسطينية على ذلك باتخاذ قرار بالتقدم بالشكوى إلى مجلس الأمن في هذا الصدد. وليس في هذا أي ضير مبدئيا، إلاّ أنه يشك في جدوى أي شكوى من هذا النوع، إذ سيتصدى لها حماة إسرائيل من الإمبرياليين الأميركيين ويحبطون مفعولها؛ وقد فعلوا ذلك أكثر من مرة، رغم أنهم لا يتوقفون عن التشدق بمعارضتهم الرسمية للاستيطان الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية المحتلة، ولا ينفكون عن المجاهرة، بموقفهم هذا. ولا شك أنهم سيجدون من خلال منطقهم الأعوج وطرق تفكيرهم الملتوية المبررات العديدة لذلك.

   ولا يعني هذا بالطبع التوقف عن تقديم مثل هذه الشكاوى أو متابعتها، بل أن ما نرمي إليه بصورة أكثر دقة هو القول أن الساحة الملائمة للتعامل مع النشاط الاستيطاني الإجرامي هي المحكمة الجنائية الدولية قبل أي مؤسسة أخرى. فهناك يمكن أن يوضع كافة المسؤولين الإسرائيليين، ممن لهم علاقة بالأنشطة الاستيطانية، وهم كثر، في قفص الاتهام. إن أي مستوطن إسرائيلي في فلسطين المحتلة يعتبر، رسمياً وقانونياً، مجرم حرب ينبغي اقتياده إلى المحكمة الدولية ومحاسبته هناك. وقد لا تكون هناك، في أي حال، جدوى كبيرة من مثل هذه الممارسات على نطاق واسع أو ربما كانت غير عملية أو ممكنة. إلاً أنها، من ناحية ثانية إن نفذت بشكل انتقائي في التعامل مع زعماء المستوطنين، مثل رؤساء البلديات والمجالس المحلية اليهودية في فلسطين المحتلة، وبعض كبار الشخصيات الذين يسكنون المستوطنات بشكل دائم، مثل العنصري العلماني ليبرمان والعنصري الآخر المتدين نفتالي بينيت، الزعيم الجديد لحزب “البيت اليهودي”، ونوعام سولبرغ، القاضي في المحكمة العليا الإسرائيلية وغيرهم. ويكفي أن يصدر أمر تحقيق أو جلب من قِبَل المحكمة الدولية بحق أي شخص أو مجموعة أشخاص لهم علاقة مباشرة بالأنشطة الصهيونية الاستيطانية ليعيد بعض الإسرائيليين إلى رشدهم ويهز ثقة العديد منهم في الجدوى من الاستيطان ويزرع الرعب في قلوبهم، فيشكل بالتالي قوة كابحة لحمى الاستيطان.

   وغني عن القول أن التعاطي مع الاحتلال، من خلال إدارة معركة واسعة ومركزة ضد الاستيطان ومتابعته قبل غيره من القضايا، يشكل، لا استراتيجياً فقط بل تكتيكياً أيضاً، اتجاهاً سليماً وناجعاً يمكن من خلاله عملياً متابعة كافة نواحي القضية الفلسطينية. فالاستيطان لا يحظى بتأييد أحد، أي كان، في العالم وليس هناك من يدافع عنه عدا حكام إسرائيل. ولذلك فإن التركيز في النشاط على تحجيمه أو تجميده يمكن أن يتحول إلى أداة فعالة للتصدي لمجمل السياسات الإسرائيلية. وإن تم عرقلة النشاط الاستيطاني بصورة فعالة أو إيقافه ليس من المستبعد أن يؤثر ذلك على مجمل سياسات إسرائيل ومواقفها من القضية الفلسطينية بحيث تضطر إلى إعادة النظر في الكثير منها.

   ومن حسن الحظ أن الإجراءات لدى المحكمة الجنائية الدولية ليست معقدة؛ فالمطلوب هو تقديم طلب انضمام رسمي إليها ينص على الالتزام بميثاقها وأعرافها. كما أن الإمبرياليين الأميركيين ليسوا أعضاء فيها، ولا يملكون قدرة في التأثير عليها. وإن حدث وتم انضمام فلسطين إليها يمكن لأكثر من جهة دولية أو إقليمية، وليس فقط السلطة الفلسطينية وحدها، التقدم بالشكاوى إليها. والمطلوب، إذن، هو فقط تقديم طلب الانضمام؛ وبعدها لكل حادث حديث.

   إن للاعتراف الدولي بفلسطين أسنانه وأظافره، التي يمكن أن تعض و”تخرمش” وتؤلم؛ ولا يستحسن التردد كثيراً في اللجوء إليها.

التنازلات المجانية القاتلة

   تقتضي أيضاً المكانة الدولية التي حصلت عليها فلسطين، إثر الاعتراف بها، انتهاج تصرفات تليق بالدولة والقائمين على شؤونها سوية، من حيث التصرف على الصعيد الدولي من جهة والتعامل مع الاحتلال الصهيوني من جهة أخرى. فلم تعد هناك “مناطق متنازع عليها” ولا “سلطة” ذات صلاحيات محدودة ولا شعب لا حول له ولا قوة. بل أن هناك دولة، وإن كانت تحت الاحتلال، معترف بها دولياً، رسمياً وقانونياً، وهو اعتراف ثابت وملزم، شاء من شاء وأبى من أبى.

   ومن هنا يفترض بالزعامات الفلسطينية ومن لف لفها، وكما يقول بعض كتابها ودعاتها، “الارتقاء إلى مستوى الحدث” وتحمل المسؤوليات الكبرى التي يفرضها والتصرف على هذا الأساس. وأولى المجالات التي يفترض أن تطبق عليها مثل هذه القاعدة هي مسألة المفاوضات بين إسرائيل وفلسطين، إذ رغم الوضع الجديد الذي نشأ في أعقاب الاعتراف هناك العديد من القضايا والمشاكل التي تبلورت خلال سنوات الاحتلال الطويلة، وليس من طريق أكثر نجاعة لحلها غير المفاوضات بشأنها والاتفاق حولها. غير أنه ينبغي أن يكون واضحاً أن الأسس والمنطق والمنطلقات الفكرية والعملية لإدارة مثل هذه المفاوضات بعد اليوم يجب أن تختلف، بصورة واضحة، عما عهدناه حتى الآن. إن المفاوضات ينبغي أن ترتكز، من الآن فصاعداً، على تنفيذ قرار الاعتراف، وإقامة دولة فلسطين فعلاً على الأرض، دون الدخول في متاهات أخرى؛ وكذلك دون العودة إلى تقديم اقتراحات التنازلات المجانية السخية للصهيونيين من خلال المحاباة والخنوع والتزلف و”الوجهنة” لهم، على أمل أن تحن قلوبهم، وهو ما لم يسفر حتى الآن عن أية نتيجة إيجابية، بل لا يبدو أنه سيؤدي إلى ذلك في المستقبل.

   ولعل بعض الأمثلة، المتعلقة بعدد من المجالات المهمة، كافية للدلالة على بؤس الأداء الفلسطيني الرسمي بشأنها، على ما يجره ذلك من أضرار.

   ففي ما يتعلق بمجال المفاوضات، مثلا،ً سارع “المفاوض” الفلسطيني، في مساعيه الدائمة لاسترضاء الإسرائيليين وعلى أمل كسب موافقتهم على المقترحات الفلسطينية، إلى الإعلان مبكراً عن استعداده لمبادلة أراضٍ بين فلسطين وإسرائيل، بحيث يمكن ضم الكتل الاستيطانية للكيان الصهيوني، مقابل تعويض الفلسطينيين عنها بأراضٍ مماثلة في المساحة والجودة من تلك المحتلة سنة 1948. وقد حظيت هذه الفكرة بـ”إعجاب” الإسرائيليين، الذين اتجهوا فوراً إلى “تطويرها” بإقامة مشاريع استيطانية في أراضٍ جديدة، قرروا سلفاً من جانبهم لوحدهم أنها ستكون جزءاً من دولتهم في نهاية الأمر؛ بل راحوا يجابهون الاعتراضات والتنديد في كافة أنحاء العالم استناداً إلى تلك الادعاءَات. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل نُسب لبعض المسؤولين الفلسطينيين، في عهد عرفات، استعدادهم للتنازل عن الحي اليهودي في القدس القديمة تسهيلاً للـ”تسوية”، ثم أتبعوا ذلك بتنازل آخر عن الحي ألأرمني في المدينة. وسجّلت إسرائيل هذا لديها وانطلقت منه بعد ذلك للسعي إلى التهام القدس بأسرها، بل ما يحيط بها أيضاً.

   وتكاد القواعد نفسها تنطبق على مجال آخر، لا يقل خطورة، هو المجال الأمني. فقد قرأ أحدهم مرة أن هناك بنداً في خارطة الطريق لسنة 2002 يقضي بضمان استقرار الأوضاع الأمنية كأساس لإطلاق أية عملية سياسية جديدة. وعلى الأثر إندفع الفلسطينيون لإقامة أجهزة أمن “جديدة” و”عصرية”، بمساعدة كبيرة من قِبَل الأميركيين في التمويل وغيره، أدت في نهاية الأمر إلى إقامة ما يسميه بعضهم “كتائب دايتون”، أي أجهزة الأمن الفلسطينية “الجديدة”. وقد أُغرفت هذه الأجهزة، بناءً على تعليمات قيادية بالطبع، في “التنسيق” مع إسرائيل للحفاظ على أمنها وأمن مستوطنيها. ووصل هذا “التنسيق” حداً، في نهاية الأمر، راحت معه إسرائيل، كما يقول أحد كبار مغاوير المفاوضين الفلسطينيين، تعتبر السلطة لا أكثر من أداة لحفظ الأمن الصهيوني وكذلك دفع الرواتب، أو ما تيسر منها، كل شهر. وهذا الوصف، للأسف، صحيح جداً؛ وهو ما زاد من وقاحة المحتل في التعامل مع فلسطين وأهلها.

   وإنه لما يثير الغضب والإحباط أن تسمع الرئيس عباس، مثلاً، يقسم أغلظ الأيمان بأنه لن يهدأ إلاّ إذا تم إطلاق سراح كافة المعتقلين الفلسطينيين وتوقفت أيضاً الاعتداءات العنصرية على الفلسطينيين، مع العلم أن سياساته وتعليماته، هو ولا أحد غيره، قد ساهمت كثيراً في ذلك وهي المسؤولة، إلى حد كبير، عن هذا الخلل. يمكن، بالطبع، فهم ضرورة التنسيق الأمني بين أي طرفين، خصوصاً في ظروف الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي المعقدة، إلا أن مثل هذا التنسيق، يفترض، على الأقل، أن يكون متبادلاً. فلا يجوز، مثلاً، الحفاظ على أمن إسرائيل ومواطنيها فيما تغض هي الطرف عن عربدة مستوطنيها وتغولهم. ولا يجوز أيضاً السماح لأية دورية إسرائيلية بالدخول إلى المناطق “أ”، المفروض أنها خاضعة لسيادة فلسطينية كاملة، واعتقال من تشاء أو الاعتداء على أية مؤسسة تمارس أي نشاط سياسي علني مشروع، حتى وإن لم يكن يعجب السادة الإسرائيليين. ففي أوضاع كهذه يمكن، وهذا أضعف الإيمان، تعليق التنسيق الأمني أو إيقافه مؤقتاً و”ترك العجل على أمه”. ولا حاجة للتنويه إلى أن الإسرائيليين يتحسبون فعلاً من نتائج قطع العلاقات الأمنية معهم ومن ثم ترك الأمور على غواربها، ويلجأون عادة في وضع كهذا إلى إعادة النظر في سياساتهم.

   إن حدوتة “التنسيق” الأمني مع إسرائيل، بالصيغة التي عهدناها حتى الآن، يجب أن تتغير وبصورة لا لبس فيها ولا غموض، في عهد الدولة المعترف بها، وإن كانت محتلة. فالممارسات و”التفاهمات” السابقة لم تعد مقبولة ولا ينبغي السماح بها بعد الآن. وعلى سبيل المثال، لا يجوز السماح، بعد اليوم لأية دورية إسرائيلية بالدخول إلى المناطق السيادية الفلسطينية واعتقال أحد أو ممارسة أي نوع من النشاط هناك. وإن حاولت ذلك ينبغي التصدي لها بقوة، بل واعتقال أفرادها، من خلال تعاون بين الأجهزة الأمنية والشعب إذا دعت الضرورة لذلك. ومعارضة ذلك بمحاولة الادعاء أن إسرائيل، في حالة كهذه، قد تلجأ إلى استعمال القوة المفرطة ليس صحيحاً ولا في محله. إن مثل هذا الإجراء قد يكون مبررا إذا حدث اعتداء على شكل هجوم على إسرائيل في الضفة، وهذا ليس وارداً. كما أن القوات الإسرائيلية تهاب التعامل مع التجمعات السكانية الفلسطينية الكبرى، إذ جرت العادة أن لا يؤدي مثل هذا التورط إلاّ إلى إلحاق الأذى بها.

   لقد وصل التعاون “الأمني” مع إسرائيل إلى حد السخف، وكفى المعنيون ابتذالاً في هذا الصدد. فقبيل التصويت على الاعتراف بدولة فلسطين عقد، فعلاً، اجتماع “تنسيقي” بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لضبط الأوضاع وضمان عدم توجه متظاهرين فلسطينيين، إن وقعت تظاهرات، إلى المواقع الإسرائيلية أو المستوطنات. ويلاحظ أن مثل هذه الاجتماعات “التنسيقية” تعقد كلما لاحت إمكانية القيام بمظاهرات، في أعقاب هذه المناسبة أو تلك. وإن كان الأمر كذلك فما هي الفائدة منه؟ وما هو المنطق الذي يحكمه؟ ولماذا هذا الحرص الكبير على أمن المستوطنين وراحة بالهم؟ ثم كيف ستطلق أو تتبلور مقاومة شعبية، وهو ما يدعو إليه الكثيرون، ويبدو أنه لابد من اللجوء إليه، عاجلاً أو آجلاً، كإحدى الوسائل المكملة لجهود دحر الاحتلال، عندما تتولى أجهزة الأمن الفلسطينية “تقنين” الأنشطة أو المظاهرات الاحتجاجية؟

   إن النظام الفلسطيني، بإغراقه في ممارسات “التنسيق” الأمني مع إسرائيل، يشبه من يقطع بهدوء الغصن الذي يجلس عليه بمنشار دقيق؛ وإن استمر في ذلك لن يكون بعيداً اليوم الذي سيسقط فيه على الأرض محطماً كلتا ساقيه وإحدى يديه، بل ربما رقبته.

   والواضح أن القيادات الفلسطينية تدرك جيداً الآثار السيئة التي انعكست على القضية الفلسطينية نتيجة لسياسات التهاون التي اتبعتها، والتي لم تثمر إلاّ المزيد من المواقف الإسرائيلية المتعصبة والاستخفاف بكل ما يسمى تحركات سياسية سلمية. ففي مقابلة للرئيس الفلسطيني، جرت مؤخراً مع إحدى محطات التلفزة الإسرائيلية اشتكى عباس لمحاوره من أن الإسرائيليين، كما أبلغه بعضهم، يميلون إلى الاهتمام بأسعار الكوتج، وهو منتج من الألبان ذا طعم أشكنازي مقزز، أكثر من اهتمامهم بالقضية الفلسطينية. وهذا القول، في أي حال غير صحيح تماماً، بل أنه منافي الواقع ويعرض على هذه الصورة لغاية في نفس يعقوب. فالإسرائيليون، وخاصة زعماؤهم، يهتمون كثيراً بالقضية الفلسطينية ويخافون من تطوراتها ويتحسبون منها، بدلالة الحروب التي يشنونها على الفلسطينيين هنا وهناك وإجراءات القمع والاستيطان التي يلجأون إليها وإصرارهم على ممارسات الاحتلال والتوسع للحفاظ على أمنهم. وما لا يهمهم كثيراً ليس القضية الفلسطينية، بل القيادات الفلسطينية، من منظمة أو سلطة أو حكومة، بأدائها البائس الذي يبدو معها وكأنهم في جيبها. ومن المفيد تعريف الواقع وتشخيصه بمحتوياته الحقيقية.

والتنازلات على حساب الآخرين

   لا تقف، للأسف، مسيرة التنازلات المجانية الفلسطينية عند هذا الحد، بل أنها حتى تتطور مع الوقت، ماضية في التزلف للإسرائيليين، رغم ما اتضح من انعدام جدوى هذا الاتجاه، ثم تتسع لتشمل تنازلات على حساب الغير أيضاً.

   فبعد التصويت على الاعتراف بفلسطين نقلت، مثلاً، إحدى الصحف الإسرائيلية نبأً – لم تكذبه أية جهة فلسطينية رسمية – مفاده أن مسؤولا فلسطينيا كبيرا عرض على الإسرائيليين “صفقة” يتم بموجبها اعترافهم باستقلال فلسطين مقابل سعي فلسطيني إلى تأمين اعتراف 57 دولة إسلامية، لا أقل، بإسرائيل. ولأول وهلة يكاد المرء يصاب بالذهول لسماعه مثل هذه المقترحات، التي لا تدل على حنكة سياسية عظيمة ولا قدرة كبيرة على قراءة الواقع جيداً واستخلاص النتائج الصحيحة منه. فإسرائيل، أساساً، لا تهتم كثيراً بالدول الإسلامية ولا يعنيها أمرها، إذا ببساطة لا مصالح تذكر لها هناك ولا تتوقع أن يكون لها كذلك في المستقبل المنظور. بل أن معظم مصالحها تتركز في أوروبا، ومن ثم أميركا، مع امتدادات غير واضحة في جنوب شرق آسيا وأفريقيا، وكلها مع دول غير إسلامية. ولذلك فإن مثل هذه العروض لا تهمها كثيراً، بل أنها تراها برهاناً آخر على مدى الضائقة السياسية التي يمر فيها مطلقوها.

   كذلك يصعب، من ناحية أخرى، الوقوف على مدى الحنكة السياسية في إطلاق مثل هذه التصريحات، التي يمكن أن يفهم منها وكأن الاعتراف بدولة فلسطين، بما بقى من البلد في الضفة الغربية وقطاع غزة، يعتبر خاتمة سعيدة وحلاً مطلقاً لقضية فلسطين وشعبها؛ والأمر ليس كذلك أبداً. ففي إطار اتفاقات أوسلو المعهودة تم، مثلاً، “بيع” عرب الداخل في مناطق الـ 48، وكذلك تقنين حقوق اللاجئين الفلسطينيين بصورة جائرة ومزرية. وهذان القطاعان من الشعب الفلسطيني يشكلان عملياً أكثرية أبناء هذا الشعب، إذ يزيد عدد أفرادهما على نصف عدد الفلسطينيين في العالم؛ وليس من المفترض أن يتنازلوا عن حقوقهم أو يتخلوا عن تحسن أوضاعهم فقط لأن جهابذة أوسلو ارتأوا ذلك. وعليه سواءً تم الاعتراف بالدولة ورسخت أركانها أو لم يتم فإن هناك معارك وصراعات بالانتظار يتوجب على الكثير من الفلسطينيين خوضها. ومن هنا ليست هناك أية حكمة في التنازل عن أي دعم خارجي لهم، خصوصاً من قِبَل الدول الإسلامية. بل يمكن القول أن مثل هذا التنازل أو مجرد الدعوة إليه، ولو ضمناً، يعتبر نوعاً من الطعن في ظهر أي نضال فلسطيني مستقبلي؛ وهو ما لا يجدر بأي مسؤول فلسطيني كائناً من كان، أن يلطخ نفسه به.

   وقد رأينا مثل هذا الدعم من قِبَل بعض الدول الإسلامية، وإن كان معنوياً فقط، قبل فترة قصيرة للغاية. ففي الجلسة التي عقدت يوم 29،11،2012 للجمعية العمومية وتم خلالها الاعتراف بدولة فلسطين كان مندوب أندونيسيا هو من افتتح النقاش، بينما اختتمه وزير خارجية تركيا بكلمة تشفي الغليل من رده القوي على “خراريف” مندوب إسرائيل والسموم التي حاولت مندوبة الإمبريالية الأميركية بثها. أما السادة وزراء الخارجية العرب فقد تخلفوا جميعاً حتى عن حضور الجلسة، بعد أن نصح بعضهم حتى بعدم تقديم طلب الاعتراف أو السعي للتصويت عليه، إذ توقعوا فشله، استناداً إلى معلوماتهم “الموثوقة” وتحليلاتهم “العميقة”.

   والأنكى من ذلك أن مثل تلك الممارسات قد حدثت مرة، دون أن ينتبه أحد إلى نتائجها بعيدة السلبية. فعلى سبيل التذكير فقط تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل، التي كانت تعاني عند توقيع اتفاقيات أوسلو من عزلة دولية شديدة، تشبه هذه التي تعاني منها الآن، قد اشترطت ضمن أطر الاتفاق إسقاط المعارضة الفلسطينية للاعتراف بها من قِبَل عدد من الدول الصديقة للفلسطينيين؛ وكان لها ما أرادت. وعلى الأثر قام عدد لا بأس به من الدول في مختلف أنحاء العالم بالاعتراف بإسرائيل، وكان من بينها الصين والهند، وذلك لكي يصبحوا “مؤهلين” للمشاركة في “عملية السلام” في المنطقة. ثم راحت هذه العملية تدور في انحرافات حادة إلى أن انقلبت وبالاً على الفلسطينيين، فكان أن أكلت إسرائيل الطعم ثم “عملتها” على الصنارة، بحيث حفّفت الضغوط الدولية عليها في حين شدّدت قيودها على الفلسطينيين. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أن القزم الصهيوني راح حتى يتدخل بين العملاقين الصيني والهندي، محاولاً استغلال التناقضات الجانبية بينهما لصالحه.

   ويبدو، للأسف أنه ليس هناك حد للمطبات التي يقع فيها أهل القيادات الفلسطينية. إذ تفيد الأنباء ومرة أخرى مثلاً، أن أمير قطر اقترح، خلال اجتماعات لجنة المتابعة العربية، التي عقدت في الدوحة بعد صدور قرار الاعتراف بفلسطين، إعادة النظر في مشروع السلام العربي مع إسرائيل الذي كان قد أطلق سنة 2002، ولم يأخذ به الكيان الصهيوني أو يعيره أية أهمية تذكر منذ ذلك الوقت، على أي حال. إلاّ أن المسؤول الفلسطيني الكبير الذي حضر ذلك الاجتماع – هكذا تفيد الأنباء – عارض ذلك لأنه يعني، بحسب رأيه، الحرب، دون أن يوضح الحيثيات التي دعته إلى مثل هذا الاستنتاج، والذي لا يبدو صحيحاً، في أي حال. والحقيقة أن موقف أمير قطر في هذا الصدد هو الصحيح، وغيره هم المخطئون. فالمشروع العربي للسلام، وينبغي أن لا ننسى أن أي مشروع عربي جماعي يتعلق بإسرائيل لا يمر دون موافقة الفلسطينيين، وفي هذه الحالة بالذات منحت الموافقة من قِبَل الراحل عرفات، آية في “الكرم” العربي المجاني المتسرع، وهناك فعلاً ما يدعو إلى إعادة النظر فيه أو في بعض جوانبه على الأقل. إن المشروع يعرض اعترافاً عربياً بإسرائيل بطابعها الصهيوني الاستعماري الاستيطاني التوسعي القائم حالياً؛ وهو ما لا ينبغي التعهد به عربياً. فقد سارعت “المحروسة” يوماً، وبعدها الأردن “المرابط” إلى تقديم اعترافات كهذه بالكيان الصهيوني، دون أن تنجم عن ذلك فائدة تذكر للأمة العربية. وفي وضع كهذا ليس هناك ما يبرر الاقتداء بهم. إن أي مشروع عربي لسلام قد يكون شاملاً مع إسرائيل ينبغي أن يشترط إحداث تغيير جذري في بنية إٍسرائيل الصهيونية، بحيث تتنازل عن أطماعها التوسعية فتتوقف عن اعتبار نفسها قلعة ووكيلة للإمبرياليين في المشرق العربي وتسعى إلى العيش بسلام مع جيرانها، دون تهديد أو وعيد لهم، وتعمد فعلاً إلى الاندماج في المنطقة بما يتلاءَم وحجمها الحقيقي، وذلك بعد أن ترسم حدودها النهائية الواضحة. وبدون ذلك ليس هناك ما يضطر الأمة العربية إلى الاعتراف بها. ومن هنا يبدو أن هناك أسباباً وجيهة للغاية لإعادة النظر في ذلك المشروع، ولن تؤدي مثل هذه العملية إلى أي حرب.

   وكل ما قدمناه في هذا الصدد، وهو لا يعدو كونه مجرد أمثلة مختارة على تصرفات تكاد تتحكم بصورة عامة في الأداء الفلسطيني المتعلق بالصراع مع إسرائيل، لا يشير إلاّ إلى عبرة كبيرة واحدة، مفادها أن تقديم التنازلات المجانية، فعلاً كانت أو لفظاً فقط، ليست إلاّ عملية خاسرة، فارغة ومؤلمة، لا تعود إلاّ بالضرر على المصالح الفلسطينية عامة. وبالتالي يتوجب الإقلاع عنها مبكراً، وعلى الصعَد “القيادية” قبل غيرها.

   قديماً قيل أن السياسة هي فن الممكن؛ ويبدو أن هناك من لا يستطيع تذوق مثل هذا الفن ولا تقدير حدود الممكن.

العدو يتكلم الإنكليزية

   إن التغيير “النفسي” المطلوب إدخاله على قواعد التعامل مع المحتل الصهيوني، قولاً وفعلاً، ينبغي أن يتوسع ويتطور ليشمل أيضاً الممارسة والإجراءات العملية، بكافة أبعادها، إذ لا جدوى في تغيير هذا دون ذاك.

   فمنذ نحو 10 سنوات تأطرت مساعي “مسار السلام” بين الفلسطينيين وإسرائيل وأصبحت حكراً على الرباعية الدولية، المؤلفة من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. ومنذ ذلك الوقت، سارع الإمبرياليون الأميركيون إلى السيطرة على أعمال هذه اللجنة، فاحتكروا أنشطتها وأخضعوها لوجهة نظرهم ومفاهيمهم، وكذلك للإملاءَات التي تفرض عليهم من قِبَل اللوبي الصهيوني وحكام إسرائيل، وكانت النتيجة أن اختفى “السلام” من “المسار” الذي بقي وحيداً.

   لقد أثبتت الممارسة، بالبراهين الدامغة، أنه لا فائدة ترجى من التعامل مع الإمبرياليين الأميركيين ولا الاتكال عليهم أو خطب ودهم. ولعل التجربة التي مر بها الفلسطينيون مع الرئيس الأميركي الحالي أوباما خير دليل على ذلك. ففي بداية طريقه بدا الرجل وكأنه أكثر الرؤساء الأميركيين تفهماً للقضايا العربية، وعلى رأسها قضية فلسطين، وتعاطفاً معها. بل كاد يظهر كأنه يسعى فعلاً إلى حل ما للصراع الفلسطيني–الصهيوني. غير أنه لم يمض إلاّ وقت غير طويل، وخصوصاً بعد أن اتضح أن الرجل بحاجة إلى أصوات اليهود وأموالهم لإعادة انتخابه رئيساً لولاية ثانية، حتى قام اليهود بتوجيه ما يكفي من الضغوط عليه لإجباره على تغيير مواقفه العلنية، على الأقل، 180 درجة. وفي خطابه أمام مؤتمر اللوبي الصهيوني قبل الأخير في أميركا، الايباك، ألقى الرجل خطاباً لا يخجل حتى نتنياهو أو أكثر زعماء اليمين الصهيوني تشدداً من إلقائه، إذ تبنى أكثر الطروحات الصهيونية تشدداً ورمى بالمصالح الفلسطينية عرض الحائط، بصورة جبانة ومزرية متنكرا لكل مواقفه السابقة. وكل ذلك ليكسب رضى الصهيونيين الأميركيين وتأييدهم له في حملته الانتخابية. إلاّ أنه حتى بعد نجاح تلك الحملة، وبعد أن اتضح أنه كان سيفوز في الانتخابات حتى دون تأييد اليهود، لم يطرأ أي تغيير ملحوظ على سياسات هذا الرئيس أو اتجاهاتها. فالخطاب الذي ألقته المندوبة الأميركية سوزان رايس في الأمم المتحدة، مثلاً، بعد التصويت على الاعتراف بفلسطين، يكاد يكون آية في العداء للفلسطينيين والتحريض عليهم والدس ضدهم، من خلال لي عنق الحقائق وتشويه المواقف والترويج للأفكار الإمبريالية البائدة. وكنه الموقف الأميركي، كما يظهر من هذا الخطاب وغيره، كان ولا يزال أنه لا حل إلاّ بالمفاوضات “المباشرة وغير المشروطة” بين الفلسطينيين وإسرائيل، الذين يستطيعون وحدهم حل مشاكلهم؛ وهو ما لا يمكن عملياً تحقيقه في ظل الاحتلال الجاثم على صدر الأرض والبشر. والمعنى الدقيق والعملي لذلك هو تمكين الإسرائيليين من فرض رغباتهم ومخططاتهم على فلسطين وأهلها، من خلال “التفاهم” بين الطرفين، أي عملياً القبول بالإملاءَات الإسرائيلية، التي لا حول للفلسطينيين، منعزلين لوحدهم، على التصدي لها.

   لقد تم إضاعة الكثير من الوقت والجهد والتفكير في متابعة العبث الأميركي باسم الرباعية الدولية وفي ظلها، والسعي الفارغ نحو الحلول. فخلال فترة طويلة علقت آمال كبيرة على المساعي الأميركية “السلمية”، وبذلت عناية فائقة بزيارات “مبعوثي السلام” الإمبرياليين إلى المنطقة، بل كدت تشعر أحياناً أن أهل المقاطعة، وربما جدرانها أيضاً، تطير فرحاً عندما يُعلن أن أحد أولئك المبعوثين قادم في زيارة إلى المنطقة. ولكن كل تلك الزيارات اتضحت، المرة بعد الأخرى، أنها كانت جميعاً ودون استثناء عديمة الجدوى؛ ولم تؤدِ عملياً إلاّ إلى تعميق الصلف الإسرائيلي وتقوية عملية نهش حقوق الفلسطينيين. لقد كان الأميركيون معنيون عملياً، ولا زالوا، بإدارة الصراع فقط وليس حله. وكان هذا هو كنه موقفهم دائماً، تماماً كما كان يفعل الانتداب البريطاني في فلسطين في الأيام الغابرة. إن عدو الفلسطينيين الذي مكن الصهيونيين من الوصول إلى ما وصلوا إليه، قبل إقامة إسرائيل وبعد ذلك، كان دائماً يتكلم الانكليزية.

   وفي أي حال لقد وصلت هذه الممارسات والاتجاهات إلى نهايتها مع صدور قرار الاعتراف بدولة فلسطين، ولم يعد بالإمكان الأخذ بتلك الأطر أو العمل ضمنها؛ بل إن اتجاهاً كهذا، إن تجرأ أحد على التفكير به أو الترويج له، أي العودة إلى الأساليب القديمة سيعتبر محاولة للالتفاف على قرار الاعتراف وبالتالي طعناً في ظهر فلسطين وقضيتها، وهو ما لا يجوز قبوله أو السماح به. لقد ماتت الرباعية الدولية موتاً سريرياً ولم يعد بالإمكان بعث الحياة فيها. ولذلك لابد من السعي إلى إيجاد آليات وأجهزة دولية أخرى تتولى تنفيذ قرار الاعتراف والمساهمة في إقامة دولة فلسطين فعلاً على الأرض.

   إن الآلية التي مهدت لصدور قرار الاعتراف بفلسطين تضم في ثناياها الأسس والركائز الضرورية لمتابعة تنفيذه. فقد صدر ذلك القرار إثر عملية حشد ضخمة تم خلالها ضمان تأييد مجموعات دولية كبيرة له، مثل المجموعة العربية ودول عدم الانحياز والمؤتمر الإسلامي وغيرها من المتعاطفين مع فلسطين أو المعترفين بها سلفاً. ولهذا تبدو طريقة وآليات تنفيذه واضحة للغاية، وذلك بتشكيل لجنة متابعة دولية من بين أعضاء الدول التي ساندت المسعى الفلسطيني وعملت على تحقيقه. وفي لجنة متابعة كهذه ينبغي مراعاة تمثيل ملائم للتكتلات السياسية العالمية بواسطة دول لها مكانتها ونفوذها، وذلك إضافة إلى تمثيل لمجس الأمن. وفي هذا الصدد ينبغي معارضة منح أي دور تنفيذي مباشر للدول التي صوّتت ضد قرار الاعتراف، وعلى رأسها الولايات المتحدة وكندا وألمانيا بالذات، إذ من لا يعترف بالوضع الجديد الناشئ عن الاعتراف بفلسطين لابد وأن يعمل في الدفع نحو الوضع السابق، الذي كان قائماً قبل الاعتراف، وهو ما لا ينبغي أن يكون في الحسبان ولا يجوز إضاعة الوقت فيه. وإن قال قائل أنه لا يمكن الوصول إلى حل بدون الولايات المتحدة فيمكن إجابته بأنه، على العكس من ذلك، لا يمكن الوصول إلى حل معها؛ إذ قد جربت خلال فترة طويلة في هذا المضمار ولم تفلح إلاّ بالتسبب في المماطلة والتأجيل وإلحاق الضرر بكل ما يسمى عملية حل أو سلام دائمين.

   لقد وصلت القضية الفلسطينية إلى مرحلة من النضوج يتوجب معها إحداث تغيير جذري في الإستراتيجية الفلسطينية الأساسية، وذلك بالسعي إلى تحجيم الدور الأميركي بأكبر قدر ممكن وصولاً إلى الاستغناء عنه واستبداله بالدور الأوروبي، خصوصاً وأن أوروبا تبدي تفهماً وتعاطفاً ملحوظين مع قضايا الفلسطينيين ولا تعترف بالممارسات الإسرائيلية العدائية ولا تقرها، كما أنها ساحة مفتوحة للنشاط الشعبي المؤيد للفلسطينيين. وعلى عكس الاعتقاد أن أميركا قادرة على الضغط على إسرائيل من المناسب الانتباه إلى أن أوروبا تزيد عنها قدرة في هذا المجال. فالمصالح الإسرائيلية الرئيسية، الاقتصادية والمالية والسياسية والعلمية والثقافية وغيرها موجودة في أوروبا، وهي ما لا تستطيع إسرائيل الاستغناء عنه. ويكفي أن تبدأ، مثلاً، إجراءات لمقاطعة إٍسرائيل، ولو بالحد الأدنى، من جهة أو فرض العقوبات الأوروبية عليها من جهة ثانية، ولو بالحد الأدنى أيضاً، لكي يهتز توازن الكيان الصهيوني ويرتفع صريخ إسرائيل. وإذا أضفنا إلى هذا النشاط في أوروبا الإجراءَات لدى المحكمة الجنائية الدولية، ثم ترك المجال مفتوحاً على الأرض أمام المقاومة الشعبية في ممارسة نشاطها ضد الاحتلال، يمكننا القول أننا أمام مخطط فلسطيني جدير بالمتابعة، وقد يثمر في نهاية الأمر.

   ومن حسن الحظ أن أميركا تبدو، خلال ولاية أوباما الثانية، وكأنها راحت تنأى بنفسها عن التدخل بصورة مباشرة وحادة في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، كما يبدو نتيجة الصدمات التي تلقتها من جهة والصلف ونكران الجميل من قِبَل حكام إسرائيل من جهة ثانية. وهناك من المؤشرات ما يدعم مثل هذا التحليل. فخلال الفترة الحرجة لحملة الانتخابات الأميركية حاول نتنياهو، بغرور واضح، الفرض على الإدارة الأميركية رسم ما سماه “خطاً أحمر” لإيران لمنعها من إنتاج الأسلحة الذرية، مما قد يعني دفع الأميركيين إلى “الالتزام” بشن حرب في المنطقة، قد تفرض عليهم على عكس إرادتهم وما تشير إليه مصالحهم؛ وهو، في أي حال، اتجاه تم صده وإحباطه، بعد أن رفضه، بل سخر منه، كبار المسؤولين العسكريين الأميركيين، وكذلك المتحدثين باسم الحزبين الكبيرين، الديمقراطي والجمهوري. ولكن نتنياهو لم يتعظ من هذا الفشل، بل أمعن في غروره، ليصل حد الصلف والدخول في مغامرات لم يحسب، كما يبدو، عقابها. ففي موازاة سعيه إلى وضع “الخط الأحمر” راح نتنياهو يحاول التدخل في الانتخابات الأميركية، لصالح المرشح المنافس لأوباما، في محاولة واضحة لمنع انتخابه لولاية ثانية، وهو اتجاه معارض لسياسات إسرائيل منذ إنشائها، إذ حرص كل قادتها سابقاً، دائماً وأبداً، على الامتناع عن التدخل في الشؤون الأميركية الداخلية، وخصوصاً الانتخابات. ولكن نتنياهو ارتأى عكس ذلك، بل نشط بصورة فجة في هذا المجال، إذ أن رومني، المرشح المنافس للرئاسة والذي خسر الانتخابات، افتتح باكورة نشاطه الانتخابي بالإعلان عن بداية حملته لجمع التبرعات خلال زيارته لإسرائيل بالذات، حيث قابل نتنياهو، الذي استقبله بحفاوة بالغة ولم يخف تعاطفه معه. كما أن صديق نتنياهو الصدوق، المليونير اليهودي الأميركي ايدلسون، الذي جمع ثروته عن طريق بيوت القّمار الموجودة بمعظمها خارج أميركا، والذي أسس جريدة يومية في إسرائيل، هي “اسرائيل اليوم” توزع حتى مجاناً، ولا هم لها إلا دعم سياسات اليمين الإسرائيلي، كاد يخرج عن طروه في دعم منافس أوباما، ويقال أنه صرف نحو 100 مليون دولار لذلك. لكن هذه الأنشطة كلها، كما هو معلوم، باءَت بالفشل إذ أعيد انتخاب أوباما لولاية ثانية.

   ويبدو أن الرئيس الأميركي قرر، مع بداية ولايته الثانية، رد “الجميل” لنتنياهو على أفعاله، خصوصاً بعد أن ذاق الأمرين من معاملته له خلال السنوات الأربع السابقة. ولذلك قرر – هكذا تفيد الأنباء والتحليلات – مع بداية ولايته الثانية تغيير سياسته السابقة والامتناع عن الصدام مع نتنياهو، بل بدلاً من ذلك إتباع سياسة “تجاهل ناعم” لمسار السلام الإسرائيلي–الفلسطيني، بحيث لن يعرض مشروع سلام جديد، كما لن يعين مبعوثاً أميركياً جديداً لمتابعة المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل، لأن نتنياهو يستغل هذه المفاوضات كأداة زائفة لتخفيف الضغوط الدولية على إسرائيل. وبدلاً من ذلك سيقف الأميركيون جانباً ويتركون العالم يصارع نتنياهو، على أمل أن تعيده العزلة الدولية والضغوط العالمية إلى رشده، بينما يلتزمون، في الوقت ذاته، بمساعدة إسرائيل “أمنياً”.

   وإن صحت هذه التحليلات فإن هذا الموقف الأميركي الجديد هو أحسن ما يمكن للإمبرياليين الأميركيين أن يقدموه، بل ينبغي بذل كل جهد لحملهم على المثابرة على ذلك، والتخلص من شرورهم وتدخلاتهم الفظة التافهة ومنطقهم الأعوج. إن وضعاً كهذا يفتح آفاقاً جديدة، يفترض أن تكون إيجابية النتائج. فالاستطلاعات في إسرائيل تشير إلى أن نتنياهو سيفوز في الانتخابات القادمة ويعود للحكم مرة ثانية. وإن تحقق ذلك، وفي ظل ما يمكن تسميته تخلي الإمبرياليين الأميركيين عنه والإحجام عن تأييد سياساته سينشأ وضع جديد يمكن معه للقوى العالمية الأخرى، ومعظمها مؤيد للفلسطينيين، أن تلعب أدواراً جديدة وفعالة، قد تؤدي إلى إنجازات ملموسة على طريق تغيير الوضع الراهن نحو الأحسن، بل ربما يمكن الوصول إلى حل خلال سنوات أوباما ونتنياهو الأربع القادمة. وبقى فقط أن يوجد هناك في صفوف “القيادات”، وهذه المرة ليست الفلسطينية منها فقط بل العربية أيضاً، من يملك سعة أفق ورؤية إستراتيجية واضحة يمكن معها وضع الخطط والقيام بالتحركات المناسبة لإحداث تغيير إيجابي في الأوضاع الراهنة.

وحدة الهدف قبل وحدة الصف

   أعاد الاعتراف الدولي بفلسطين إلى واجهة الأحداث موضوع المصالحة أو الوحدة الوطنية بين فتح في الضفة وحماس في غزة؛ وهي مسألة لم يتوقف اللغط حولها، على أي حال، منذ فترة غير قصيرة.

   ولا يستطيع أي مهتم بالشأن الفلسطيني معارضة أي اتجاه نحو المصالحة أو عرقلتها، وبالطبع، نظراً لأهمية ذلك في خدمة المصلحة الفلسطينية الوطنية عامة. إلاّ أن مسألة المصالحة أو إعادة الوحدة الوطنية ليست فقط مجرد كلمات وشعارات تطلق في الهواء، بل أن لمثل هذا المسعى شروطه ومتطلباته الضرورية والحاسمة، والتي لا يبدو أنها متوفرة حتى الآن، بل أنها حتى غير متعلقة بإرادة الفلسطينيين وحدهم. إن الرئيس عباس يصر، مثلاً، وبصورة ملحة للغاية على أنه لن تكون هناك مصالحة ما لم تتم الانتخابات العامة قبلها. والقول هذا صحيح نظرياً ولكنه غير ممكن عملياً. إن إجراء الانتخابات للمؤسسات الفلسطينية، ليس خارج فلسطين فقط بل داخلها أيضاً، غير مرهون بالإرادة الفلسطينية وحدها. وفي الضفة الغربية بالذات ينبغي، مثلاً، موافقة إسرائيل على ذلك أو ضمان عدم ممانعتها على الأقل؛ ولا يبدو أنه بالإمكان، في هذا الصدد، إعادة إنتاج “شطارة” انتخابات 2006 وإجراء انتخابات مماثلة، بصورة أو بأخرى. ولذلك فإن الإصرار على إجراء الانتخابات وجعلها شرطاً أساسياً لا يجوز القفز عنه للاتجاه عملياً نحو المصالحة، وإن كان نظرياً صحيحاً فإنه، عملياً، في مواجهة العوائق التي تعترضه، ليس إلاّ كلام حق يراد به تمويهاً، بحيث يستعمل، مثلاً، كذريعة للتقاعس عن المضي قدماً في تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني، بحجة أن المصالحة الميمونة لم تتحقق؛ وهو، كما توضح الأحداث الكبرى ليس صحيحاً في أي حال. فالقول أن المصالحة ضرورية لكي يتجه الفلسطينيون موحدين إلى العالم، في متابعة قضيتهم، غير صحيح؛ إذ اتضح، فعلاً، أن فلسطين حققت الإنجاز الكبير في الاعتراف بها دون أن يهتم أحد بالانقسام القائم حالياً. ولم يقم إلاّ مندوب إسرائيل بمحاولة استغلال هذا الوضع، وهو ما لم يأخذ به أحد، على أي حال.

   وعليه، وإزاء وضع كهذا، قد تقتضى المصلحة عدم ربط أي تحرك وطني بتحقيق المصالحة الكاملة، وكذلك عدم اعتبار مثل هذا الوضع عذراً للتقاعس، بل الإفادة من الوضع القائم حالياً والانطلاق على أساسه، من خلال السعي إلى مصالحة “سلبية”، إن صح التعبير، يخفف بموجبها الطرفان من عدائهما لبعضها البعض ويحاولان العمل معاً، ولو بالحد الأدنى من التنسيق، إلى أن تصبح الظروف جاهزة للاتجاه نحو مصالحة وتعاون كاملين. ويبدو أن شيئاً من هذا القبيل راح ليتحقق على أرض الواقع. فبعد فترة طويلة من العداء المستحكم بين الطرفين لم يتردد خلالها أي منهما عن “مطاردة” الآخر، لوحظ أن فتح حاولت عقد مهرجانً لها في غزة، بينما قامت حماس بأنشطة مماثلة في الضفة. وفي الوقت نفسه خفت حدة التصريحات المعادية والانتقادات الحادة التي اعتاد الطرفان تبادلها. وهذا وضع ممكن، كحد أدنى، التعاون على أساسه والانطلاق منه لتوسيع الإنجازات الفلسطينية التي تم تحقيقها مؤخراً. وهناك فعلاً انجازات تتطلب ذلك وتستحقه.

   لم يحصل الفلسطينيون خلال تشرين الثاني 2012 على الاعتراف بدولتهم فقط، بل حققوا أيضاً إنجازاً آخر مهماً خلال النصف الأول من الشهر نفسه، عندما تمكنت المقاومة في قطاع غزة من دحر آخر الاعتداءات الإسرائيلية عليها، بفعالية لم نعهدها سابقاً، وبصورة تم معها، هذه المرة، ردع إسرائيل قبل غيرها. لقد بدأت إسرائيل اعتداءَها الأخير على غزة باغتيال القائد العسكري البارز في كتائب القسام أحمد الجعبري، وذلك على الرغم من أنه كان يجري مفاوضات معها، بواسطة المصريين، لتمديد مفعول “الهدنة” التي كانت قائمة بين الكيان الصهيوني وحكم حماس في غزة. وسبب ذلك هو أن الإسرائيليين قرروا، بمنطقهم الأعوج ومن خلال اتجاهات الغرور والاستعلاء لديهم، أن استمرار المفاوضات وتمديد فترة الهدنة يمس بقدرة إسرائيل على “الردع”، ولذلك قرروا اغتيال الجعبري غدراً، كعادتهم. إلاّ أنهم أخطأوا الحساب هذه المرة، وجاء رد المقاومة عنيفاً ورادعاً. فبعد تنفيذ عملية الاغتيال بوقت قصير بدأت زخات صورايخ المقاومة تنهمر بكثافة على إسرائيل، في المناطق الجنوبية منها أساساً، ثم راح مداها يتوسع بعد ذلك، ليصل طراز “فجر” منها إلى تل أبيب ومنطقة القدس. وقد كانت إسرائيل على علم بأن في حوزة المقاومة في غزة صورايخ تصل تل أبيب إلاّ أن مسؤوليها قدروا، لسبب ما، وربما لما ينسبونه لأنفسهم من قدرة على الردع، أن مثل تلك الصواريخ لن تطلق عليهم. وعندما خاب ظنهم وأطلقت فعلاً تلك الصواريخ عليهم (وبعضها تم توجيهه إلى مقرات وزراه الدفاع الإسرائيلية على شاطئ تل أبيب، ولكنه سقط بمحاذاتها في البحر) بان للمراقب المعني، وهو يرى المعلقين الإسرائيليين يتحدثون بأفواه فاغرة عن ذلك، أن الردع كان، هذه، المرة، من نصيب إسرائيل. وعندها أصبح واضحاً أن وقف إطلاق النار، وليس وفق شروط إسرائيل بالذات، أصبح مسألة وقت فقط.

   لا شك أن المقاومة في غزة تمكنت خلال العدوان الأخير على القطاع من ردع إسرائيل، ولو نسبياً. فخلال أسبوع من القتال تمكنت المقاومون، رغم الغارات الجوية والقصف البري، من إطلاق ما مجموعه 1506 صواريخ، أي ما يزيد معدله عن 200 صاروخ يومياً. وإذا علمنا، فعلاً، أن حزب الله أطلق على إسرائيل خلال حرب لبنان 2006 ما معدله 100 صاروخ يومياً، وأنه كان يتمتع بظروف مريحة نسبياً مقارنة مع ظروف غزة، إذ كان يعمل من مناطق واسعة في لبنان مقارنة بمساحة القطاع الضيقة، نلمس بوضوح وجود مستوى لا بأس به من التقنية والجاهزية لدى الغازوزة؛ وهو ما لا ينبغي التقليل من أهميته أو التغاضي عنه، بل على العكس من ذلك ينبغي تحسينه وتقويته.

   ومع توقف العدوان الأخير على غزة، إثر التوصل لـ”تفاهمات” لوقف إطلاق النار، عقدت في القطاع احتفالات ضخمة ابتهاجاً بهذا الإنجاز و”الانتصار” على إسرائيل؛ ولا ضير في ذلك على أي حال. إلاّ أن هذا لا ينبغي أن يؤدي إلى السكوت والركون، والاكتفاء بالتغني بالأمجاد السابقة، وهو ما قد يؤدي إلى نكسات أخرى؛ ولنا في هذا المجال “خبرة” طويلة. فمثلاً، نحن في “فتح” أيام زمان، أي قبل أن تكون هناك حماس، وعندما كان الامتناع عن حلاقة الذقن يومياً، ناهيك عن إطلاق اللحية، يعتبر تصرفاً مقززاً، حصلنا على “انتصارات” كثيرة من هذا النوع، ابتداءً من الكرامة 1968، مروراً بأيلول الأسود 1970، ثم عمليات اجتياح الجنوب اللبناني، وانتهاءاً بحصار بيروت 1982. إلاّ أن هذه “الانتصارات” كلها تبخرت مع الوقت ليعود ماؤها ويُقطّر تدريجياً ويصب في … خانة أوسلو. ولذلك بدلاً من الركون إلى الهدوء يتوجب، على العكس من ذلك، العمل على تحصين القطاع وتسليحه جيداً، لكي لا يصبح مؤهلاً لرد الأذى عن نفسه فقط، بل يساهم، عندما تدعو الحاجة لذلك، في تحجيم العدوانية الإسرائيلية وردعها، بحيث تستطيع المقاومة في الجنوب لعب دور شبيه، مثلاً، ومكملاً لما يؤديه حزب الله في الشمال.

   من الواضح أن المقاومة في غزة استفادت من تجربة حزب الله في حربه الصاروخية سنة 2006 وعملت على محاكاتها ونجحت في ذلك نسبياً. وإن كان الأمر كذلك فإن هذا الوضع، في ضوء التحديات المستقبلية المتوقعة، والتي لا شك أنها ستبرز، إن عاجلاً أو آجلاً، يتطلب الاستمرار في تطبيق تجربة ذلك التنظيم بصورة واسعة، وذلك بالاتجاه إلى “صورخة” القطاع على أوسع نطاق؛ والصواريخ هي سلاح المقاتل الفقير والقوى المستضعفة. ولذلك ينبغي على المقاومة الغزاوية، بكل فصائلها، السعي إلى تحديث وتوسيع ترسانتها الصاروخية، لتشمل كافة الأنواع والعيارات من الصواريخ، سواءً تلك منها المضادة للدروع أو الطائرات أو السفن وغيرها، بحيث تضمن الحماية اللازمة للقطاع وأهله، مع فك الحصار عنه، بما في ذلك تدمير أبراج وهوائيات التجسس الإسرائيلية المحيطة به، من جهة، وخلق إمكانية ملموسة للضغط على المحتل الصهيوني عسكرياً عندما يكون ذلك ضرورياً من جهة أخرى.

   ولا يبدو أن اتجاهاً كهذا بعيداً عن متناول اليد، خصوصاً وأن هناك من هو على استعداد للمساعدة في هذا المجال، بل أنه قدمها فعلاً. فصاروخ “فجر” الذي وصل من غزة إلى تل أبيب ومشارف القدس، هو إنتاج غزاوي بيتي، تم صنعه بناءً على مخططات الصاروخ الإيراني الأب، بعد أن قامت إيران بتزويد المقاومة بتقنيات وخرائط التصنيع. ولدي إيران الكثير مما يمكن أن تقدمه في هذا المجال، وهو ما لا ينبغي التهاون في السعي إليه والحصول عليه. فهذا البلد يطلق أقماراً صناعية، مثلاً، ويتدخل إلكترونياً في مسار أحدث طائرات التجسس الأميركية فيحيدها عن مسارها وينزلها سالمة في أراضيه ليسبر غورها ويكشف أسرارها، ثم يفعل الشيء نفسه مع طائرات التجسس المنطلقة من سفن الأسطول الأميركي. بل أنه يرسل طائرة بدون طيار لتحلق لمدة 20 دقيقة فوق منطقة النقب وتبث الصور عن القواعد الإسرائيلية العسكرية الضخمة الموجودة هناك. ولذلك من الواضح أن لديه ما يقدمه في مجال دعم المقاومة تقنياً وعلمياً. والإيرانيون، في نهاية الأمر، فرس وليسوا عرباً.

   إن اتجاهاً كهذا، على افتراض انه قائم أو أن هناك من يفكر به أو يسعى إليه، قد يصطدم – من يدري – بإجراءَات ومتطلبات المصالحة الغرّاء وإنهاء الانقسام، إذ قد يعتبر منافياً لتوجهات أهل أوسلو “السلمية” ويتعارض مع منطقهم وأساليبهم، ولذلك قد يعارضون ذلك، بل ربما يسخرون منه ويحاولون تحقيره. وإن تم ذلك ينبغي التصدي له بعنف ورفضه تماماً، حتى وإن تأخرت المصالحة الميمونة. إن قطاع غزة أرض فلسطينية محررة، تمت استعادة حريتها، ولو نسبياً، نتيجة للمقاومة الباسلة التي انتهجها أهلها جميعاً، وليس فقط حماس وحدها، عندما كانت المنطقة محتلة. ولقد اضطرت إسرائيل إلى الانسحاب منها، كما فعلت قبل ذلك في جنوب لبنان، بعد أن لم تعد قادرة على تثبيت احتلالها وحمايته من جهة، وفقدت المزايا الاقتصادية والإستراتيجية من وجودها، في كلتا المنطقتين، من جهة أخرى. والحصار والقيود الذين فرضا على القطاع، بعد الانسحاب الإسرائيلي منه، جاءا بموافقة أهل السلطة، بعد أن أرغمتها إسرائيل على ذلك، بل راح الجميع “يتفننون” في كيفية إحكام الحصار على المنطقة وجروا أيضاً مصر والأوروبيين للمساهمة في هذه الممارسات الشائنة. ولذلك ليس من حق أحد الاعتراض على اتجاه ذلك الجزء من فلسطين إلى رفع الحصار عنه وضمان الحرية والعيش الكريم والأمان لأبنائه، وفق ما يرتأيه.

   والحقيقة أن اتجاهاً كهذا، لو كان هناك تفكير وتخطيط استراتيجي سليمين، لا ينبغي أن يتعارض أبداً مع السعي إلى حلول سياسية سلمية. فالمصلحة الفلسطينية العليا لن يضيرها أبداً أن يعمل تيار بالطرق السلمية والدولية المألوفة، بينما يسعى الآخر إلى تقوية نفسه عسكرياً. بل أن كلاً من هذين الاتجاهين، لو كانت هناك رؤية إستراتيجية ثابتة، قد يكملان بعضهما البعض. فلن يخسر المفاوض الفلسطيني من وجود تيار يستطيع التعامل، عند الضرورة، بالقوة أو شيء منها، مع المحتل الصهيوني. وعندما تتم الحلول ونصل إلى “السلام” والاعتراف المتبادل، إن تم ذلك يوماً، لكل حادث حديث.

الهيئة الوطنية لتحقيق الاستقلال

   تصلح الإنجازات التي حققها الفلسطينيون، خلال تشرين الثاني 2012، من حيث الاعتراف بدولة فلسطين من جهة وردع إسرائيل، إثر عدوانها على غزة، من جهة أخرى، لأن تكون أرضية لبلورة أفق جديد، وإن كان لا يزال في بداية مخاضه، يمكن معه متابعة النضال الفلسطيني، بطرق ووسائل جديدة للتقدم على طريق تحجيم الاحتلال ودحره والمضي قدماً نحو تحقيق الاستقلال الكامل. ومثل هذا المسعى لن يتحقق تلقائياً، بل لابد أن يكون هناك من يتابعه، على أوسع الصعد وأكثرها شمولية. وفي هذا الصدد لا يمكن، للأسف، الاعتماد فقط على “القيادات” الراهنة، سواءً في السلطة أو فتح أو حماس أو غيرهم من القوى السياسية الناشطة حالياً؛ ولذلك لابد من إشراك قوى أخرى وتفعيلها لهذه الغاية. فما تحقق من تلك الإنجازات يندرج في خانة ردود الفعل، وهو ليس فعلاً بحد ذاته، وليس من الحكمة الافتراض أنه سيتحول إلى ذلك تلقائياً، فتنجم عنه مسارات شاملة لمتابعة القضية الفلسطينية وفق الأصول، ما لم تكن هناك قوى أخرى، وخصوصاً الشعبية منها، مستعدة للعمل في سبيل ذلك.

   إن ترك مقاليد الأمور على الساحة الفلسطينية في أيدي القوى التي تحتل مواقع الصدارة حالياً، سواءً كانت فتح أو حماس، لوحدها ليس اتجاهاً محمود العواقب، في ظل ما عهدناه من أدائها غير الحميد خلال حقب طويلة. وإن كنا قد أشرنا إلى ما فيه الكفاية فيما يتعلق بممارسات أو أداء المنظمة – السلطة – فتح وما تستحقه من “مديح” فإن وضع الفريق الآخر، أي حماس على وجه التحديد وأداءها، ليس أحسن حالاً، إن لم يكن أكثر سوءاً وبؤساً، إذ يبدو من مجمل أفكارها ومواقفها وممارساتها أنها لم تصل بعد مرحلة النضوج السياسي. فالحركة، مثلاً، تبدي اهتماماً بالالتحاق بمنظمة التحرير الفلسطينية أو، بصورة أكثر دقة، السعي إلى السيطرة عليها، ولكنها في الوقت نفسه ليست على استعداد للاعتراف بالتزامات المنظمة، ومنها ما هو ذا طابع دولي لا يمكن القفز عنه. وهي أيضاً على استعداد للمشاركة في الحكومة الفلسطينية، على أن تتولى فتح التغطية عليها عند التعامل مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه تعارض الحركة الاعتراف بإسرائيل، وربما كانت محقة في ذلك، ولكنها على استعداد في الوقت نفسه لعقد هدنة معها، قد تستمر 20 سنة، بصورة لا يبدو معها أنه ستكون خلالها مقاومة فعالة لمشاريع الاستيطان والتوسع الإسرائيلية، مثلاً، مما قد يعني تسهيل ابتلاع إسرائيل للأراضي الفلسطينية التي تحتلها. وهي، في المسار ذاته، تعيب على السلطة، وعن حق هذه المرة، الإغراق في التنسيق الأمني مع إسرائيل، ولكنها تقوم بدورها في التنسيق معهم، بواسطة الإخوانيين المصريين، السمسار الجديد للصهوينيين والامبرياليين، للحفاظ على حكمها في القطاع. ولهذا السبب قام، مثلاً، أحد شيوخ حماس في إطار محاولات الحمساويين إقحام دينهم في السياسة، حتى بإصدار “فتوى”، لا أقل، تحرم خرق وقف إطلاق النار، الذي تم التوصل إليه بين حماس وإسرائيل، في مسعى لضبط المنظمات الأصولية والشعبية التي لا تعبأ كثيراً بمساعي التسوية والتهدئة. بل يقول بعض المعلقين الإسرائيليين، مثلاً أيضاً، أن إسرائيل اغتالت الجعبري لأنه نكث بوعده لهم ولم يستطع السيطرة على كافة القوى في غزة، التي لا تتردد في إطلاق الصواريخ على إسرائيل عند الضرورة. وحتى خلال العدوان الأخير على غزة حاولت حماس الالتزام بضبط النفس وتجنب التصعيد، ولكنها لم تستطع المثابرة على ذلك. فقد كان الجهاد الإسلامي هو أول من أطلق صواريخ “فجر” على إسرائيل، وهو اتجاه لا تستطيع حماس تجاهله خشية المس بمكانتها، فاضطرت إلى القيام بالمثل.

   كما لم يكن لحماس دور يذكر في المسعى الأخير للحصول على الاعتراف بدولة فلسطين، إذ أن جل ما فعلته في هذا المضمار هو أن تكرمت وتعطفت وتلطفت وأعلنت “عدم معارضتها” لهذا التوجه فقط. بل يكاد يبدو أحياناً أنه لا علاقة للحركة بما يسمى وطناً، إذ يلاحظ أن الرايات الخضراء هي الطاغية في مهرجاناتها، ونادراً ما ترى علم فلسطين بينها، تماماً كما يرفع حزب الله في لبنان الرايات الصفراء، دون وجود لعلم الدولة اللبنانية. ويبدو أنه لو فرض على حماس متابعة معركة الاعتراف بفلسطين واستكمالها على الصعيد الدولي لما كان أداؤها، في هذا الصدد، ليختلف كثيراً عن تصرفات ذلك الأعرابي الذي دخل المدينة لأول مرة في حياته. وإذا قدر لها الوصول إلى الحكم واستتب لها الأمر فإن أداءَها لن يختلف كثيراً عن ذلك التخبط الذي يميز، مثلاً، ممارسات رئيس مصر ألإخواني. وليس في هذا ما يحل مشاكل أو يحرر وطناً.

   غير أنه على الرغم من ذلك، ينبغي أن يكون واضحاً، من ناحية أخرى، أن شيخوخة فتح أو مراهقة حماس لا تستطيع التحكم في الأوضاع الفلسطينية طويلاً، إذ لابد للواقع والمصالح الوطنية والمعيشية وما شابهها أن تفرض نفسها، إن عاجلاً أو آجلاً. إن سوء الأوضاع العامة في فلسطين لا تترك خيارات كبيرة أمام أبناء الشعب، خصوصاً وأنه لا بادرة فرج تلوح في الأفق. فليس هناك عملياً أية إمكانية حقيقية لإجراء مفاوضات، تستحق هذا الاسم، مع إسرائيل. بل أن ما لمسناه، خلال السنوات الأربع الماضية، أي منذ وصول نتنياهو إلى الحكم، من انسداد شامل للأفق السياسي هو ما سيسود خلال السنوات القادمة أيضاً، إن لم يصل الوضع حتى إلى أسوأ من ذلك. إن إسرائيل مقبلة على انتخابات عامة جديدة في مطلع 2013؛ ومما يتوفر من معلومات واستطلاعات بشأنها يبدو أن نتنياهو وصحبه سيحصلون على أكثرية المقاعد في الكنيست القادم ويستمرون في الحكم، مع اتجاهات يمينية متطرفة أشد من تلك التي عهدناها حتى الآن. ولن يكون لدى قوى المعارضة الهامشية، بما في ذلك القوائم العربية، ما يمكن أن يؤثر في ذلك بصورة ملحوظة. أما نتنياهو نفسه فيبدو أنه لم يتعلم شيئاً من كافة تجاربه السابقة، كما لم ينس شيئاً من مواقفه، إن لم نقل أنه ازداد تصلباً وتعصباً. ففي أول تعليق له على قرار الاعتراف بفلسطين بدا الرجل وكأنه يمر في حالة من الهذيان، إذ عاب على المنظمة الدولية عدم إلزام الفلسطينيين، في قرارها، الاعتراف بإسرائيل كـ”دولة قومية للشعب اليهودي”، وكذلك مراعاة متطلبات “أمن إسرائيل”. وإن شئنا ترجمة هذه الطلبات إلى كلام بسيط، واضح ومفهوم، فإنه يعني أن على الفلسطينيين أن يعترفوا بشرعية الحركة الصهيونية ومنطلقاتها التلمودية الخرافية، من أن “أرض–إسرائيل” هي “ملك” لما يسميه “الشعب اليهودي”، وهو يحتاج للسيطرة عليها ليس فقط لمصلحة القاطنين فيها من اليهود الآن، بل أيضاً لمصلحة يهود العالم بأسرهم، الذين يحق لهم الهجرة إليها متى شاؤوا. وبالتالي فإن ذلك الاعتراف مطلوب من الفلسطينيين ليصبح إقراراً من قِبَلهم بـ”حق” اليهود في السيطرة على فلسطين، وهي ليست إلاّ “أرض–إسرائيل”، والاستيطان والسكن في أي مكان يشاؤون فيها. أما العرب الفلسطينيون فليس لهم من حق في بلدهم غير السكن فيها، وهم يفقدونه إذا تركوا البلد لأي سبب. أما الإجراءات الأمنية فتتمثل في الاعتراف بالوضع الحالي في الضفة وسيطرة إسرائيل الشاملة عليها، فيما يحشر سكانها في معازل، أو، إن شئنا، زرائب، يعيشون فيها لوحدهم ضمن ما تسمح لهم إسرائيل به. وإن ساد مرة اعتقاد بأن هذه المواقف الصهيونية المتشددة راحت تضمحل تدريجياً في مواجهة الواقع المتغير فإن سياسات نتنياهو وصحبه لا تترك مجالاً للشك في أنهم أعادوها إلى الحياة ثانية ولا هم لهم إلاّ متابعة تنفيذها. ومن هنا ينبع موقفهم الحالي من الفلسطينيين وسعيهم إلى توسيع الاستيطان وتعميقه، غير آبهين بأحد. وإن كان هناك من يعتقد أنه بالإمكان إجراء “مفاوضات” مع إسرائيل على هذه الأسس فهذا شأنه. أما المنطق السليم، فيفترض أنه لا يمكن إجراء أي مفاوضات في أوضاع كهذه، كما أنه لا جدوى منها.

   ومن هنا يبدو واضحاً للغاية أن أي مسعى قد يلجأ إليه “الحكماء”، فلسطينيون كانوا أو غيرهم، في ابتكار أفكار أو استنباط خطط لإحياء ما يسمى مسار المفاوضات السياسي لن يصل بعيداً، إذ سيصطدم خلال فترة غير طويلة بالتعنت الإسرائيلي مؤدياً إلى استمرار انسداد الأفق السياسي ومن ثم الاحتقان. لذلك لن تبقى هناك إلاّ طرق مجابهة المحتل وخططه، عالمياً وإقليمياً ومحلياً – شعبياً، في معركة سياسية شاملة لم نشهد مثلها حتى الآن. ومثل هذا التوجه ضروري، بل قد لا يكون هناك غيره، لدحر الاحتلال واحتوائه ونيل الحرية، وصولاً إلى الاستقلال الحقيقي. ومن الضروري، في هذا الصدد، لأهمية مثل هذه المعركة وشموليتها، ضمان مشاركة أكبر عدد من الفلسطينيين فيها، ليس فقط من بين من يعرفون بإسم القوى الشعبية ونشطائها وإنما أيضاً من المختصين والعلماء والمفكرين وأمثالهم، في إطار “تنظيم” جديد لهذا الهدف، يمكن تسميته الهيئة الوطنية لتحقيق الاستقلال. إن إنشاء مثل هذه الهيئة لا يهدف إلى الحلول مكان المؤسسات والأجهزة القائمة، بل يعمل إلى جانبها وأحياناً بدلاً منها أو يقوم بتجاوزها إذا تقاعست. إن معركة تحقيق الاستقلال واسعة، متشعبة ووعرة المسالك ولها نواحٍ عدة، ليس السياسية فقط، بل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتراثية وغيرها. وبين أبناء الشعب الفلسطيني الكثير من الأدمغة والخبراء، في مختلف المجالات، الذين ينبغي الإفادة من قدراتهم وطاقاتهم في إدارة هذه المعركة للوصول إلى الاستقلال الحقيقي.

   إن الإضرار الناجمة عن اوسلو، خصوصا في المجالين الاقتصادي والأمني، واضحة للعيان. وقد تم ذلك، إلى حد كبير، نتيجة لـ”سلق” الإجراءات والمداولات في هذا الشأن في حينه والتسرع في الموافقة عليها؛ وكذلك لانعدام وجود خبراء من الجانب الفلسطيني لمتابعها. ومثل هذه الممارسات ينبغي ألا تتكرر في أية ترتيبات مستقبلية، ولذلك ينبغي إلا يترك البت بشأنها لحفنة من الأشخاص في غرف مغلقة، بل طرحها وتناولها ومتابعتها من كل جانب وعلى نطاق شعبي واسع. ومتابعات كهذه يمكن القيام بها واغنائها من قبل خبراء مختصين ووطنيين مخلصين غير محسوبين على أي تنظيم سياسي أو سلطوي.

   إن معركة تحقيق الاستقلال قادمة، وهي أكبر من أن يستطيع أي فصيل أو زعيم بعينه إدارتها لوحده؛ ومن المستحسن، بل من الضروري للغاية الإعداد جيداً لإدارتها ومتابعتها بحشد مختلف القوى للعمل ضمن أطرها. والأنسب أن يتم ذلك مبكراً قدر الإمكان، وقبل فوات الأوان.

الأرشيف