فلسطينيو الداخل والعار السوري

فلسطينيو الداخل والعار السوري

 جريس جريس (ابو سامر)

   من المؤسف، بل من المذهل والمؤلم والمفجع معا، ذلك التأثير والتعاطف مع النظام السوري برئاسة المجرم السفاح بشار الاسد، الذي تبديه قطاعات واسعة من الفلسطينيين في داخل اسرائيل، سواء في اوساط القوى السياسية الرئيسية الثلاث، “الجبهة” و”التجمع” و”الحركة الاسلامية”، او في اوساط عدد من وسائل الاعلام، او في صفوف جمهور لا يستهان به من رجال الفكر والثقافة. اذ يفترض بهذا الجمهور، بحكم موقعه في مركز الاحداث منذ ما يقارب نصف القرن، وتعرضه لشتى صفوف الاضطهاد والتفرقة والمعاناة، ان يكون اكثر وعيا وادراكا، واعمق فهما، لما يجري حوله من تطورات تمس حياته ومصيره واحلامه وامانيه.

   فهذا النظام الفاشي، ومنذ اغتصابه للسلطة عبر انقلاب عسكري قبل ما يقرب من نصف قرن، يمارس اخطر وابشع وافدح الجرائم ليس فقط ضد الشعب السوري الذي نكب به، والذي يتعرض لكل وسائل البطش والقتل والتدمير والمذابح اليومية، التي يندر ايجاد مثيل لها؛ بل ايضا ضد الامة العربية عموما والشعبين الفلسطيني واللبناني خصوصا.

   وفي سبيل تنفيذ مآربه واهدافه تستر هذا النظام خلف شعارات جذابة، طنانة ورنانة، مارس ولا زال يمارس العكس منها تماما. فقد رفع شعار “وحدة، حرية اشتراكية”، و”امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، ونقشه حتى على كل مؤسسات الدولة المدنية والسياسية والعسكرية والتعليمية، لكنه كان وما يزال المسؤول الاول عن توجيه الطعنات القاتلة لاماني واحلام الامة العربية في الوحدة والتحرر. فهو الذي ألغى التجربة الوحدوية الاولى بين مصر وسوريا في اوائل الستينات، ثم ما لبث ان عقد وحدة اخرى مع العراق في اعقاب وصول شقه الثاني، اي البعث العراقي، الى سدة الحكم هناك عن طريق انقلاب عسكري هو الآخر، ولكنه سرعان ما قام بالغائها لتتلاشى هذه الاحلام والاماني وتحل محلها سياسة الانشقاقات والانقسامات والحروب المحلية والطائفية والعرقية والجهوية والقبلية في كافة ارجاء الوطن العربي.

   ومع مرور الوقت تحول البعث من حزب قومي وحدوي اشتراكي مؤمن بالحرية – كما يدعي – الى حزب ديكتاتوري فاشي طائفي عائلي، بل فردي، فاصبح حكم حافظ الاسد وحكم ابنه ووريثه بشار بمثابة حكم الطغاة، ان لم يكن اكثر بطشا ووحشية، وجعل من سوريا ما يشبه المزرعة الخاصة للطاغية، مسخرا طاقاتها وامكاناتها وجيشها وكل اجهزتها الامنية وغير الامنية لخدمة السفاح وحمايته. ولم يسلم احد من المعارضة او السلطة او من الحزب الحاكم، او حتى من عائلة الرئيس، اذا تجرأ ولو همسا بالتعبير عن اي خلاف مع الطاغية.

   ولا يعرف احد عدد الذين فروا او سجنوا او اختفوا او اعدموا، وتكفي الاشارة هنا الى مصير بعض كبار البعثيين، ومن ابرز هؤلاء وعلى رأسهم مؤسس الحزب ميشيل عفلق الذي فر الى العراق وبقي هناك الى ان توفاه الله هناك وصلاح البيطار الرجل الثاني في الحزب الذي هرب الى باريس فلحقت به يد الغدر والاجرام لتغتاله هناك. ثم فرار نائب الرئيس عبد الحليم خدام الى باريس هو الاخر، بل وحتى فرار شقيق الرئيس رفعت الاسد الى لندن. وذلك عدا الذين بقوا في السجون حتى وافتهم المنية وابرزهم الرئيس الذي انقبلوا عليه نور الدين الاتاسي والرجل القومي في الحزب آنذاك صلاح حيدر. وفي سبيل الحفاظ على الذات وتوسيع المكاسب والثروات الشخصية باع هذا النظام نفسه لكل من يشتري وعلى رأسهم اعداء الامة العربية من الاميركيين والصهاينة علاوة على السوفيات – الى ان انهاروا – ثم الروس الصينيين والايرانيين. كما راح هذا النظام يرفع الشعارات وينتهج السياسات المضللة القائمة على المزايدة والتبجح والمشاكسة والمنافكة الهادفة الى تمزيق وحدة الامة العربية، والهائها بالاوهام الفارغة.

   ففي اعقاب نكسة حزيران 1967 ومع بروز تيار المقاومة، رفع النظام السوري شعار حرب التحرير الشعبية طويلة الامد وتظاهر بدعم المقاومة الفلسطينية، بل وانشأ لهذا الغرض منظمة فدائية خاصة به، اطلق عليها كالعادة اجمل التسميات وهي “طلائع حرب التحرير الشعبية- قوات الصاعقة”، التي لم تطلق ولو طلقة واحدة باتجاه العدو المحتل. وبدلا من ذلك قام باقفال الحدود اقفالا محكما امام بقية فصائل المقاومة ووضع القيود الخانقة على تحركاتها وانشطتها داخل سوريا وخارجها، حيثما امكنه، ناسيا متناسيا حتى هضبة الجولان المحتلة، لتصبح الحدود مع اسرائيل اكثر هدوءا وامنا واستقرارا من الحدود السويسرية الفرنسية، مثلا. وسرعان ما تبين ان انشاء قوات الصاعقة، ودعم النظام كما سمي في حينه فصائل الرفض الفلسطينية، ثم دعمه لحركة حماس، على الرغم من عدائه المرير لكل الحركات الاسلامية ومطاردتها حيثما أمكنه، مثل مجزرة حماة سنة 1982، لم يكن الا لشق وحدة الصف الفلسطينية وشله وبلبلته ليملك النظام ما يكفي من الاوراق لاحباط اي مسار لا يتجانس مع مصالحه الطائفية العائلية الضيقة ومصالح اسياده الاميركيين والاسرائيليين.

   ولم تكتشف خطورة هذا النظام وعمالته امام الكثير من القوى الوطنية والتقدمية حتى سنة 1976 عندما دخلت قواته، بضوء اخضر اميركي- اسرائيلي، الى لبنان لانقاذ قوات اليمين الطائفي المرتبط علنا ومصيريا باميركا واسرائيل، والتي كانت على وشك الانهيار آنذاك امام ضربات القوى الوطنية اللبنانية المدعومة من فصائل المقاومة الفلسطينية. واستخدم النظام لهذا الغرض عشرات الآلاف من الجنود مزودين بكل انواع الاسلحة بما في ذلك سلاح الجو، وهو الذي ما كان ليجرؤ على تحريك ولو جندي واحد باتجاه لبنان دون موافقة ومباركة اميركية-اسرائيلية ، خصوصا وان القادة الاسرائيليين آنذاك لم يتركوا مناسبة للتذكير بان اي تغيير في الوضع القائم لدخول قوات عراقية الى الاردن او قوات سورية الى لبنان يعتبر خرقا لاهم ركائز نظرية الامن الاسرائيلية وسببا موجبا للحرب.

   واستمر الاحتلال السوري للبنان لمدة تزيد عن الثلاثين عاما دون ان يحقق اي نوع من الاستقرار هناك، بعكس المهمة التي ادعى ان دخوله الى لبنان كان من اجلها. بل، مع مرور الوقت، اصبح التواجد السوري هناك بمثابة الخنجر في خاصرة الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، من خلال الحرص على بقاء جذوة الحرب الاهلية مشتعلة بالقدر الذي يتناسب فيه مع مصالح اسياده ومصالحه مستخدما كل وسائل التآمر والبطش والاجرام من اغتيال واعتقال وخطف، والتي يصعب تعدادها او حصرها. وقد شملت تلك الوسائل اغتيال قادة احزاب ورؤساء حكومات ونواب واعلاميين، وكل من اعتقد النظام السوري انه يشكل حجر عثرة امام مصالحه المتمثلة ببقاء هيمنته في لبنان ليواصل النهب والسلب والتهريب وحماية زراعة المخدرات والاتجار بها.

   وبلغت عمالة هذا النظام واجرامه اوجها ابان حرب لبنان الاولى سنة 1982 عندما تراجعت قواته امام القوات الاسرائيلية الغازية، مثلما تراجعت في الجولان اثناء حرب 1967 بما يشبه الانسحاب الكيفي، دون مقاومة تذكر لكنها لم تسلم في الحالتين من بطش القوات الاسرائيلية التي دمرت جزءا كبيرا من القوات السورية المنسحبة على طريق بيروت-دمشق. ولم تنسحب القوات السورية من الجنوب اللبناني فحسب، بل ومن بيروت ايضا، وكأنها على علم بالحصار الوشيك للمدينة، والذي حصل فعلا لمدة 88 يوما كانت خلالها تلك القوات تقف موقف المتفرج، بل وتمنع وصول المتطوعين والاسلحة الى القوات المحاصرة وغير المحاصرة على الاراضي اللبنانية.

   وما ان انتهت الحرب باجلاء القوات الفلسطينية المحاصرة في بيروت، الى عدد من الدول العربية، في اطار اتفاق دولي، وانسحاب القوات الاسرائيلية، الى ما وراء نهر الليطاني في جنوب لبنان، حتى “استيقظت” القوات السورية واخذت تحل محل القوات الاسرائيلية المنسحبة، في اطار تفاهم اسرائيلي-اميركي-سوري على ذلك ، بالطبع، اذ من المستحيل على القوات السورية القيام بمثل هذه الخطوة دون تفاهم كهذا، وذلك بهدف منع اي انتشار فلسطيني في تلك المناطق. وفي الوقت نفسه بدأ النظام السوري بالعمل على شق حركة “فتح”، كبرى المنظمات الفلسطينية وتقديم الدعم للمنشقين بقيادة ضابطين من قوات فتح هما ابو موسى وابو خالد العملة اسميا حركتهما “فتح الانتفاضة” التي سمح لها النظام بالنشاط في لبنان وسوريا، لكنها سرعان ما تلاشت ولم نعد نسمع بوجودها بعد ان “انجزت” مهمتها. ولم تكتف قوات النظام السوري بذلك، بل شرعت بشن هجوم عسكري شامل ضد ما تبقى من الوجود الفلسطيني في سهل البقاع وشمال لبنان، لاتمام المهمة التي بدأها شارون، وبشكل لا يقل وحشية عن شارون نفسه، حيث انتهت هذه الحملة بآلاف القتلى والجرحى والمخطوفين والمفقودين. وكان من بين المغتالين العميد سعد صايل القائد العسكري لفتح. كمل ارتكب النظام السوري سلسلة من المذابح على الطراز الاسرائيلي، كان ابرزها المذبحتان الشهيرتان في مخيمي البداوي ونهر البارد الفلسطينيين شمالي لبنان .

   بهذا اصبحت القوات السورية العنصر المهيمن والمقرر لمجريات الامور في لبنان، اضافة الى النفوذ الاسرائيلي هناك، فأمعنت في تقطيع اوصال هذا البلد؛ ثم قامت، بالتنسيق مع اسرائيل، بمنعه من تحقيق اي وفاق وطني، واخذت تؤلب طرفا على آخر لضمان بقائها هناك، الى ان تجاوزت المهام المحددة لها، او حتى لم تعد لاسيادها حاجة ببقائها هناك، فصدرت اليها الاوامر سنة 2004 عبر مجلس الامن بالانسحاب من هناك فنفذت الاوامر بين ليلة وضحاها.

   ولا حاجة هنا لتقديم ادلة اضافية على عمالة هذا النظام وخيانته، حيث تكفي الاشارة الى ان قوات الاسد سبقت القوات الاميركية في دخول الكويت، وكأن تحرير الجولان وبقية الاراضي العربية المحتلة لا يمر الا عبر الكويت؛ وكل ذلك لانقاذ احدى الدمى الخليجية التي لا يمكن ان يكون لها ايا وجود ولا يمكن ان تملك اي من مقومات الدولة الا بالعمالة والخنوع والتآمر على الامة العربية لاسترضاء الاسياد الاميركيين والتستر تحت مظلتهم .

   وتعتبر السياسات التي انتهجها هذا النظام الاسدى او نادى بها دليلا آخر على خيانته وعمالته، ففي اعقاب حرب اكتوبر 1973 واختلاف العرب حول مسار السلام مع اسرائيل اتخذ النظام السوري موقفا مزايدا يقوم على الرفض العبثي لكل ما يسميه بالحلول الاستسلامية، بعد ان وافق على وقف فوري وشامل لاطلاق النار في اعقاب الانسحاب الكيفي من الجولان للمرة الثانية، واصدر اوامره للقوات العراقية التي كانت طلائعها قد وصلت الى دمشق، لنصرة سوريا والقتال الى جانبها، بالعودة الى العراق. وواصل النظام السوري العمل جاهدا على شق وحدة الصف العربي واشاعة البلبلة واليأس في صفوف الامة العربية معتمدا على المزايدة والتضليل والتبجح الفارغ، فأنشأ في حينه ما سمي بـ”جبهة الصمود والتصدي” التي لم تصمد حتى امام نفسها ولم تتصد الا للثوار والاحرار والمناضلين من ابناء هذه الامة. ولضمان عدم تحقيق مثل هذه الجبهة ناصب هذا النظام، متلا، العداء السافر والدائم للعراق طيلة فترة حكمه الى درجة اغلاق خط انابيب النفط العراقي الذي يمر عبر سوريا.

   وبعد افلاس بدعة الصمود والتصدي اعلن الاسد عن سياسة جديدة اشد مكرا ودهاء وتضليلا وهي تحقيق التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل، وكأنه سيقوم بتحقيق هذا الهدف لوحده، وهو ما عجزت عنه الامة العربية بأكملها ، دون ان يحدد عناصر ومقومات هذا التوازن او الفترة الزمنية المطلوبة لتحقيقه، اي من قبل “عيش يا كديش تيطلع الحشيش”.

   وقد غاب الاسد الاب عن الوجود قبل ان يحقق شيئا من هذا “الحلم” ليحل محله بالوراثة ابنه بشار الذي جاء بدوره هو الآخر ببدعة جديدة اسماها “الممانعة”، متناسيا هو ومن يؤيده ان هذا اقصى ما تحلم به اسرائيل واميركا هو استمرار الجمود والابقاء علی الوضع القائم ليتسنى لها تمرير مشاريعها ومخططاتها وفقا لاحتياجاتها وقدراتها دون ازعاج او مقاومة.

   والغريب في الامر ان بدعة “الممانعة” وكون هذا النظام آخر قلعة في وجه الامبريالية والصهيونية، وان ما يجري من مذابح يومية في سوريا ما هو الا ملاحقة لعناصر ارهابية، تجتذب غالبية المؤيدين والداعمين لهذا النظام الذين يتقبلون ويروجون حججه، الامر الذي لا يصدقه حتى اسياد هذا النظام من الاميركيين والاوروبيين او حلفاؤه القدماء-الجدد من الروس والصينيين ولا اي ذي عقل سليم على وجه هذه الارض.

   والاغرب من ذلك توق اعداد كبيرة من هؤلاء المؤيدين، “المفكر” منهم وغير المفكر، لزيارة الاسد والتبارك بمصافحته والاستنارة بافكاره والتقاط الصور معه، للتفاخر بها وتعزيز مكانتهم القيادية، تماما مثلما تسابقوا في حينه لزيارة سيىئ الذكر القذافي للتبارك بمصافحته والاستلهام بافكاره، وهو الذي – علاوة على كل جرائمه – تنكر صراحة وعلنا لانتمائه العربي واستبدله بانتماء افريقي. وهنا لا يحضرنا الا قول الشاعر:

إن كنت لا تدري فتلك مصيبة           وان كنت تدري فالمصيبة اعظم

 

 نشر في مجلة “كل العرب” (الناصرة)، 13/7/2012
الأرشيف