انتخابات الكنيست العشرين كمرآة لأزمة النظام الصهيوني

انتخابات الكنيست العشرين

كمرآة لأزمة النظام الصهيوني

صبري جريس

 عُقدت في إسرائيل، في 17/3/2015، الانتخابات النيابية العامة للكنيست العشرين، وذلك في موعد مبكر بما يزيد عن السنتين على الموعد الذي كان مفترضاً أصلاً لأجرائها في أواخر 2017. وليست هذه، في أي حال، هي المرة الأولى التي تجري فيها انتخابات مبكرة في إسرائيل؛ فهكذا حدث، مثلاً، في انتخابات 1984 و1999 و2006 و2009. والمألوف، سياسياً ودستورياً، هو أن يلجأ النظام الصهيوني إلى إجراء انتخابات مبكرة عندما تفقد الحكومات الإسرائيلية، التي كانت دائماً وأبداً ائتلافية، تستند إلى تأييد اكثر من حرب، ثقة الأكثرية في الكنيست، أو تستفحل الخلافات بين مركباتها بحيث تصبح غير قادرة على الحكم. وهذا ما حدث، أيضاً، هذه المرة.‏

وكالعادة، وكما جرى في كافة الانتخابات العامة السابقة، شارك في الانتخابات عدد كبير، نسبياً، من القوائم الانتخابية، فقد تسجلت لخوض هذه الانتخابات 26 قائمة، قامت واحدة منها بأبطال تسجيلها (ولم يمنع ذلك 58 شخصاً من التصويت لها)، فيما خاضت الـ 25 الباقية الانتخابات. ومن بين تلك القوائم نجحت عشرة وفازت بمقاعد في الكنيست الجديد (انظر الجدول)، بينما فشلت الـ 15 الباقية في تجاوز نسبة الحسم، التي رفعت من 2% إلى 3.25% في الكنيست الحالي، وبالتالي لم تحصل على أي تمثيل. وليس في هذا، أيضاً، أي جديد، فكثرة القوائم الانتخابية، في كل انتخابات الكنيست، ظاهرة مألوفة منذ قيام اسرائيل، وتعود اسبابها الرئيسية إلى كثرة “القبائل” اليهودية داخل الكيان الصهيوني، التي لا تنفك عن التناحر مع بعضها البعض، فيما يسعى كل منها إلى تثبيت وتقوية كيانه الخاص به، سواء كان أولئك اشكناز غربيين أو سفاراديم شرقيين، أو متدينين أو علمانيين، أو يمين متطرف أو وسط أو مستوطنين موتورين، الخ. كذلك ساعد على ارتفاع عدد القوائم النظام الانتخابي الإسرائيلي، الذي يقدم “تسهيلات” جمة لذلك. فوفقاً لهذا النظام تعتبر اسرائيل بأكملها منطقة انتخابية واحدة، يتم  التصويت فيها على أساس قوائم انتخابية تضم اسماء المرشحين فيها، وليس على اساس شخصي. وبعد انتهاء الانتخابات تجمع كل الأحداث، التي حصلت عليها أية قائمة في أي مكان في اسرائيل، وتسجل لصالحها. والقائمة التي يتجاوز عدد الأحداث التي حصلت عليها نسبة الحسم تشارك في توزيع المقاعد في الكنيست، وفق أولوية مرشحيها داخل القائمة. وهذا وضع يغري الكثيرين على تجميع قواهم، أياً كان مكان سكنهم، وتشكيل قائمة خاصة بهم، علَّ الحظ يحالفهم ويحصلوا على تمثيل ما في الكنيست.‏‏

مكانك عد

كان من المتوقع، استناداً إلى استطلاعات رأي عام عديدة ومتواصلة، وإلى قراءات وآراء مختلفة، أن تسفر الانتخابات عما يشبه “انقلاباً” في مراكز القوى في اسرائيل، بحيث يفقد الليكود مع حلفائه “الطبيعيين” الأكثرية التي كانت حتى اليوم من نصيبهم ويخسروا الحكم، ليحل مكانهم حزب العمل والحلفاء الذين يستطيع جمعهم لتأييده.‏

وقد كان لهذه الاستطلاعات والتوقعات ما يدعمها، موضوعياً، فنتنياهو قضى حتى الآن 6 سنوات متواصلة (2009-2015) في رئاسة حكومة اسرائيل (وذلك عدا عن رئاسته الأولى للحكومة خلال السنوات 1996-1999). وخلال فترات الحكم هذه، الطويلة نسبياً، لم يقم الرجل بأي عمل مفيد يمكن أن يجذب الإسرائيليين إليه أو يدفعهم إلى استمرار التصويت له أو لحزبه، بل أنه، وعلى العكس من ذلك، لم يترك خطأ إلا وارتكبه، ما دفع إلى الافتراض أن أكثرية الناخبين نفرت منه وراحت تتجه إلى تأييد غيره.‏

فعدا عن الجمود السياسي، فيما يتعلق بالموقف من الفلسطينيين اساساً وسبل التعاطي معهم، وهو ما لا يقض مفاجع الإسرائيليين عموماً، في أي حال، لم يترك نتنياهو، خلال ولايته الثانية، أرثاً يعتز به أو “انجازات” يستطيع التفاخر بها. فخلال حكمه، مثلاً، ارتفعت معدلات غلاء المعيشة وازدادت الضرائب وتفشى الفقر وتفاقمت ازمة الاسكان وتضعضع نظام التعليم واستفحل الاستيطان، بتحويل ميزانيات ضخمة له على حساب تلك التي كانت من المفترض أن تُخصص لغايات اجتماعية أخرى، يمكن أن تساهم في تحسين مستوى المعيشة. وبالإضافة إلى ذلك تصرف الرجل الخاضع لنزوات زوجته سارة، التي لا تتصف بكياسة ملحوظة، بنرجسيته المعروفة ودكتاتوريته المقنّعة، بصورة أبعدت أكثر من زعيم ناشئ في الليكود من بين صفوفه، وذلك خوفاً من مزاحمتهم له ومن ثم انتصارهم عليه. وكان من بين أبرز أولئك موشيه كحلون، رئيس قائمة “كلنا” التي حصلت على 10 مقاعد في الكنيست الحالي، معظمها من مؤيدي اليمين من اليهود الشرقيين. وكان كحلون، عندما تقلد منصب وزير الاتصال في حكومة نتنياهو قد قام بثورة حقيقية في عالم الاتصالات، وخصوصاً في مجال الهواتف المحمولة، بعد أن قضى على الاحتكار في ذلك المجال وفتح باب المنافسة في هذا القطاع على مصراعيه، بحيث بات حالياً من الممكن، مثلاً، الاشتراك في خطوط الهاتف المحمول بـ 37 شيكل شهرياً للخط الأول وشيكلين اثنين للخط الثاني. وقد منح ذلك كحلون شعبية كبيرة أثارت غيرة نتنياهو ودفعته إلى ابعاده عن الحكم ( ثم فعل الشيء نفسه مع وزير الداخلية جدعون ساعار). وكانت النتيجة أن يعود الرجل إلى الكنيست ومعه عدد لا بأس به من النواب، ويقال أنه قد يحصل على منصب وزير المالية في الحكومة المقبلة. وكان كحلون قد أعلن، في أولى خطوات حملته الانتخابية، أن الليكود الأصلي قد “فقد الطريق”، وأنه ينتمي إلى ذلك الليكود “الذي يعرف كيف يتنازل عن مناطق [محتلة]”.‏‏

أما على صعيد السياسة الخارجية فلم يكن لدى نتنياهو من عمل إلا التحذير من مخاطر إيران النووية، ومحاولة تحجيمها، ولأجل ذلك دخل في صراعات مع الإدارة الأميركية، فيما بدا كأنه محاولات “كسر عظم”، لم تسفر عن نتيجة تذكر في نهاية الأمر. ويبدوا أن الرجل أخطأ في حسابات بافتراضه  أن بإمكانه حمل الولايات المتحدة على تغليب مصالح اسرائيل، بمفهوم نتنياهو لها، على مصالح أميركا ذاتها. وأثار هذا الاتجاه حفيظة الكثيرين من الأمنيين الإسرائيليين الذين رأوا في الخلاف مع الولايات المتحدة اتجاهاً قد يعرّض مصالح اسرائيل الاستراتيجية للخطر، ولذلك وقف العديد منهم ضد نتنياهو مطالبين بتغييره.

نتائج الانتخابات للكنيست، 2009 2015

الحزب/القائمة (ورئيسها)

عدد المقاعد

الكنيست

الثامن عشر

الكنيست

التاسع عشر

الكنيست

العشرون

2009

2013

2015

الليكود (1)    (نتنياهو)

27

19

30

حزب العمل (2)   (هرتسوغ)

13

15

24

القائمة المشتركة (3)   (عوده)

(11)

(11)

13

يوجد مستقبل  (لابيد)

19

11

كلنا  (كحلون)

10

البيت اليهودي (4)   (بينيت)

3

12

8

شاس (5)   (درعي)

11

11

7

يهود التوراة (6)   (ليتسمان)

5

7

6

اسرائيل بيتنا (1)   (ليبرمان)

15

12

6

ميرتس  (غلئون)

3

6

5

الحركة (2)

6

كديماه (7)

28

2

ياحد (5)   (يشاي)

الاتحاد القومي (4)

4

المجموع

120

120

120

       (1) خلال انتخابات 2013 شكل حزبا الليكود واسرائيل بيتنا قائمة موحدة حصلت على 31 مقعدا، ثم افصلا عن بعضهما البعض بعد الانتخابات الى كتلتين مستقلتين.

       (2) أنضمت الحركة برئاسة تسيبي ليفني الى حزب العمل.

       (3) القائمة العربية الموحدة لفلسطيني الداخل (وتضم عضوا يهوديا). وقد تشكلت من 3 قوائم عربية (ومن انفصل عنها)، هي الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والقائمة العربية الموحدة والتجمع الوطني الديمقراطي، التي كان كل منها قد حصل في كل من الانتخابين السابقين على 4 و4 و3 مقاعد على التوالي. وقد شاركت في هذه الانتخابات أيضا، كما في السابقة، قائمتان عربيتان جديدتان، إلا أن أي منهما لم تتجاوز نسبة الحسم.

       (4) انضم الاتحاد القومي الى الحزب الديني القومي (مفدال) وأنشأوا حزب البيت اليهودي.

       (5) يهود متدينون شرقيون. وقد انشقت ياحد، برئاسة ايلي يشاي، عن شاس، برئاسة ارييه درعي؛ الا انها لم تتجاوز نسبة الحسم في الانتخابات، وبالتالي لم تحصل على أي مقعد في الكنيست.

(6) يهود متدينون غربيون.

(7) اضمحلت كديماه ولم تشارك في الانتخابات الاخيرة.

 أما حليف نتنياهو الأساسي، العنصري الفج ليبرمان، والذي وصل به الغرور مرة إلى حد الأعلان أنه سيكون رئيس حكومة المقبل، ثم “تواضع” وأوضح أنه “يكتفي” بمنصب وزير الدفاع، فقد وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه. فقبيل بداية المعركة الانتخابية شنت الشرطة الإسرائيلية حملات من التحقيق والاعتقالات طالت أكثر من شخصية، ومن بينهم مسؤولون حكوميون كبار، محسوبين على ليبرمان وحزبه، بتهم الفساد واختلاس الأموال العامة. ويستفاد من نتائج التحقيقات الأولية، التي نشرتها وسائل الإعلام في هذا الصدد، أن مافيا حزب ليبرمان، اسرائيل بيتنا، المنتشرة في الدوائر الحكومية والكنيست، وخصوصاً لجنته المالية، تآمرت فيما بينها على تحويل مبالغ طائلة من أموال الدولة كـ “مساعدات” للاستيطان في الضفة الغربية، فيما كان القيّمون على النشاط الاستيطاني هناك يقومون، من جهتهم، بإعادة ضخ نسب لا بأس بها من تلك الأموال إلى جيوب المافيا التي عملت على تحويلها إليهم. ونتيجة لكشف هذه الفضائح استقالت أكثر من شخصية من نواب اسرائيل بيتنا وتضعضع مركز الحزب وساءت سمعته، التي لم تكن طيبة أصلاً، مما ساهم بصورة واضحة في انفضاض الناخبين من حوله. ونتيجة لذلك فقد حزب ليبرمان فعلا نصف مقاعده، التي انخفضت من 12 في الكنيست السابق إلى 6 في الحالي (انظر الجدول).‏

بقيت تقديرات خسارة نتنياهو الانتخابات سائدة حتى الساعات الأولى من صباح يوم الانتخابات نفسه، حيث بدا أن الرجل راح يشعر بالخطر الحقيقي على مصيره. ولذلك سارع إلى تنفيذ عملية هجوم غوغائي مضاد، لم تخلو من التهويل والتخويف أو تحريض عنصري واضح ضد العرب؛ وذلك من خلال التشديد على مواقفه المتزمتة أكثر فأكثر، وهو ما يبدو أنه أعاد قطاعات واسعة من الناخبين إلى تأييده. ففي الساعات الأولى من صباح ذلك اليوم راح نتنياهو يندب حظ اسرائيل، لأن الناخبين العرب يتجهون بـ “كميات” ضخمة إلى صناديق الاقتراع، وهو ما لم يكن صحيحاً في أي حال، مما قد يساعد على تشكيل حكومة “يسارية” قد تمس بطابع اسرائيل الصهيوني. كما أمعن في توضيح سياسته اليمينية المتشددة موضحاً أنه إذا أعيد انتخابه رئيساً لحكومة اسرائيل مرة أخرى فلن تقوم دولة فلسطينية خلال فترة ولايته (وأدت هذه التصريحات إلى إطلاق أكثر من احتجاج من قبل أكثر من مسؤول أميراكي، فيما أعلن أن أوباما اتصل بنتنياهو وأبلغه أن أميركا  قد “تعيد النظر” في موقفها في النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، القائم على مبدأ حل الدولتين). ويبدو أن نداءات الاستغاثه والجزع هذه، بما انطوت عليه من محاولات تخويف الإسرائليين واللعب على عقدة الأمن لديهم قد فعلت فعلها، فقد لوحظ ارتفاع ملحوظ في نسبة التصويت خلال ساعات مساء يوم الانتخابات بين اليهود، بحيث ارتفعت نسبة التصويت عامة في هذه الاتنخابات بنحو 5% عن الانتخابات السابقة، بينما راحت مجموعات من مؤيدي الأحزاب الصغيرة تنقل تأييدها إلى الليكود وتصوّت له مباشرة. وبذلك ارتفع عدد مقاعد الليكود على حساب مقاعد الأحزاب اليمينية الصغيرة الأخرى (انظر الجدول).‏

وعلى الرغم مما يبدو ظاهرياً وكأنه انتصار ساحق لليكود في هذه الانتخابات فأن الوافع يشير عملياً إلى استمرار تلك الحالة من التوازن بين المعسكر المتشدد ومعسكر الوسط الصهيوني في اسرائيل. وهذه الحالة واضحة منذ “الانقلاب” الانتخابي، سنة 1977، الذي وصل الليكود على أثره إلى الحكم لأول مرة في تاريخ اسرائيل والصهيونية. ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم لا يزال هذا التوازن قائماً، بصورة أو بأخرى، وأن حدث تغيير في المزاج الشعبي ودفع أكثرية الناخبين إلى تأييد معسكر ما بدلاً من الآخر فإن ذلك يتم لاعتبارات اقتصادية معيشية اساساً أو سعياً إلى نظام حكم مريح وأكثر شفافية ونزاهة، ولكن ليس لاعتبارات سياسية، بما في ذلك علاقة اسرائيل بالفلسطينيين وموقفها منهم أو من جيرانها جميعاً، على أهمية هذه النواحي. وهذا ما حدث، أيضاً، هذه المرة.‏

والواضح أن هذا التعادل بقي ساري المفعول في نتائج الانتخابات الأخيرة. فعلى الرغم من الزيادة في عدد مقاعد الليكود فإن من يسمون “حلفاؤه الطبيعيون” قد فقدوا كثيراً من قوتهم، بحيث بقي ميزان القوى بين التكتلات السياسية المختلفة في اسرائيل على حاله. ويمكن عملياً الوقوف على ذلك من حقيقة أنه لو استطاع زعيم حزب العمل هرتسوغ استمالة كحلون فقط، زعيم كتلة “كلنا” الجديدة إلى جانبه وتمكن من اقناعه بالتحالف معه لكان بامكانه تشكيل حكومة اسرائيل بدلاً من نتنياهو (وذلك مع لابيد وميرتس وتأييد النواب العرب من خارج الحكومة، ودون أن ينضموا إليها رسمياً)‏.

أزمة الصهيونية تزداد وضوحاً

تكشف نتائج الانتخابات النيابية العامة الأخيرة في اسرائيل، كما قبلها أيضاً، عمق وتجذّر الأزمة التي تواجه الصهيونيين في مواجهة مشكلتهم الرئيسية، وهي طبيعة علاقاتهم مع الفلسطينيين وموقفهم منهم، أو رؤيتهم وخططهم في هذا الشأن؛ وبالتالي شكل اسرائيل وكيانها المستقبليين وطبيعة تواجدها في المنطقة وعلاقاتها مع جيرانها والعالم العربي عامة. وتكمن هذه الأزمة أساساً في حقيقة أن أي من التيارين الصهيونيين الرئيسيين، سواء كان اليمين أو الوسط، لا يملك في حقيقة الأمر رؤيا واضحة للحل مع الفلسطينيين، وحتى لو كان كذلك فإنه غير قادر بمفرده، نظراً لتفتت القوى السياسية في إسرائيل، على تنفيذها، فيما يبدو أن اتفاق التيارين على حل ما يكاد يكون نوعاً من الخيال.‏

بات موقف الليكود وصحبه من القضية الفلسطينية واضحاً للغاية. ففي عهده، وكما هو معروف، دفعت إسرائيل الفلسطينيين وقضيتهم إلى ممر جانبي وحشرتهم هناك، دون أن تكون لديها أي نية للتعامل الجدي معهم أو الوصول إلى اتفاق في هذا العدد. وبدا واضحا أن الليكود يترك هذه القضية لعامل الزمن، آملاً أن تتأكل وتضمحل، ولهذا توقف ما يسمى “مسار السلام”، ولا يبدو أن سينطلق مجدداً ما دام الليكود في الحكم.‏

ولا يبدو، أيضا، أن الوضع سيكون أحسن حالاً بكثير لو فاز حزب العمل في الانتخابات، وتمكن من تشكيل الحكومة الجديدة وحل مكان الليكود في موقع القيادة. فقبيل بدء معركة الانتخابات الأخيرة أعلن زعيم حزب العمل هرتسوغ أنه لو تمكن من تشكيل الحكومة الجديدة فإنه سيخصص 5 سنوات للمفاوضات مع الفلسطينيين، مع أن مثل هذه المفاوضات يمكن أن تُستكمل خلال 5 أشهر، فيما لا تزال شريكته/ “نائبته” لينفي تطالب بضرورة اعتراف الفلسطينيين باسرائيل “دولة يهودية”، رغم عدم واقعية مثل هذا الطرح ورفض أي كان القبول به.‏

والواضح من هذه التصريحات أن حزب العمل لا يزال يخيط بالمسلة القديمة، وليس لديه إلا العودة إلى ذلك النهج من “المفاوضات”، المعروف من تجارب عشرين سنة وأكثر، مع الفلسطينيين؛ وذلك على الرغم من أن الاوضاع تغيرّت، ولم تعد صيغ المفاوضات القديمة مطروحة، ولا باتت عملية أو ذات جدوى. والواضح أيضاً من هذه المواقف أن الصهيونيين جميعاً، أياً كانت اتجاهاتهم أو مواقفهم السياسية لم يستوعبوا مدى التغيير الذي طرأ على مركز القضية الفلسطينية دولياً أثر الاعتراف بفلسطين دولة ضمن حدود 1967؛ وهو وضع يجعل ما سبقه، سواء كانت أوسلو أو مفاوضاتها، جزءاً من الماضي الذي لا يمكن أن يعود إلى الحياة ثانية. كذلك يبدو واضحاً أن الإسرائيليين، أياً كانوا، لم يستوعبوا بعد أن تلك التطورات الإيجابية قد سدّت الطريق أمام أية “تنازلات” أخرى يحلمون بتقديمها لهم من قبل الجانب الفلسطيني، إذ ليس هناك ولو جهة فلسطينية واحدة مستعدة، أو قادرة، على قبول أقل مما أقرته الشرعية الدولية للفلسطينيين، أياً كان موقف اسرائيل أو شكل “المفاوضات” المستقبلية معها، أن جرت.‏

ومن هنا، وما دام الليكود في الحكم أو أن حزب العمل استطاع، بطريقة ما، الحلول مكانه، ولا يبدو أن تغييراً ما سيطرأ على المواقف الجذرية الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين وقضيتهم. ولن يؤدي ذلك إلا أن تعميق الأزمة الصهيونية من جهة وتغليط محنة الفلسطينيين من جهة أخرى – ما لم تفتح الآفاق على تحركات دولية جدية تقلب طاولة الصهيونية وحساباتها رأساً على عقب.‏

العصا أنجع من الجزرة

رغم ما قدمناه عن ملامح الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة وأفاقها وانعكاساتها الصهيونية، التي لا تبدو عموماً مشجعة للغاية، هناك على الأقل بقعة ضوء واحدة تبدو واعدة، وتتمثل في توحيد القوائم العربية الثلاثة التي اعتادت على المشاركة منفردة في الانتخابات السابقة للكنيست، في قائمة مشتركة واحدة. وعملياً كانت هناك قوائم عربية ونواباً عرباً في الكنيست منذ انشائه وحتى اليوم.‏

أن الدعاوى لتوحيد القوائم الانتخابية العربية في اسرائيل قديمة للغاية، وكانت تسمع من هنا وهناك في مناسبات عدة، خصوصاً بين فلسطيني الضفة وأهل منظمة التحرير الفلسطينية. ونسي أولئك أن عرب الداخل ليسوا قطيعاً واحداً يمكن أن يساق كتلة واحدة إلى حيث يريده المزاودون أو الحالمون أن يصل؛ إذ بين هؤلاء الفلسطينين، أيضاً، تيارات سياسية واسعة وذات نفوذ، لا تتجانس بالضرورة في تطلعاتها ومواقفها مع بعضها البعض، وبالتالي لا يمكن، نظرياً أو عملياً، توحيدها وخلق قوة موحدة منها، متجانسة ومتناغمة مع بعضها البعض – وان كان المنطق يدعو إلى ذلك في ضوء العداء الصهيوني المستشري تجاه العرب. إلا أن ما لم يفعله المنطق فعلته، أخيراً، الضرورة والحاجة، وبأسرع ما كان متوقعاً. فمن المعروف أن اليمين الصهيوني المتشدد، الذي أـمعن في التنكر لحقوق الفلسطينين ومعاداتهم، وصل أخيراً، كما كان متوقعاً، إلى عرب الـ48، الذين يعتبرون، ولو رسمياً على الأقل، مواطنين في اسرائيل. ومن هذا المنطق راحت تُسن قوانين عنصرية واضحة المعالم، هدفها التمييز ضد أولئك العرب والطعن في “ولائهم” للدولة ومحاولة دفعهم إلى خارج الأطر الشرعية المعترف بها. والحقيقة أن هذا الاتجاه، الذي استشرى خلال حكم نتنياهو – ليبرمان، وخصوصاً خلال السنوات الأخيرة، وصل إلى مرحلة عنصرية بغيضة لم تعهدها إسرائيل منذ قيامها.‏

وقد اشتدت هذه الحملة مؤخراً، لتصل إلى محاولة إخراج العرب من الكنيست ومنهم من أي تمثيل فيه، وأن كان اعرجاً وغير متكافئ. وفي هذا العدد استغلت الدعوات الداعية إلى رفع نسبة الحسم في التصويت للكنيست، وهي في أي حال دعوات قديمة جداً، كانت تشتد طوراً وتخف تارة أخرى، دون علاقة بوجود نواب عرب في الكنيست بالضبط، هدفها منع تفتت أصوات الناخبين في قوائم انتخابية عديدة ومن ثم ظهور أحزاب صغيرة جديدة، تجعل من الصعب تشكيل حكومة مستقرة تستند إلى أكثرية ثابتة. وقد أبدت معظم الأحزاب الصهيونية مثل هذا الاتجاه، وبالتالي لم يمر إلا وقت قصير حتى تم تعديل قانون الانتخابات ورفعت نسبة الحسم من 2 إلى 3.25% من مجموع الأحداث الصالحة التي يتم الإدلاء بها في أية انتخابات عامة. وبحسابات انتخابية بسيطة يعني هذا التعديل أن أية قائمة تخوض انتخابات الكنيست ولا تحصل على 4 مقاعد أو أكثر فإن نسبة الحسم (التي عادلت في الانتخابات الأخيرة ما مجموعه 136,808 صوتا) فإن نسبة الحسم ستطبق عليها ولن تحظى بأي تمثيل كان في الكنيست. وهذا ما حدث فعلاً في الانتخابات الأخيرة.‏

لقد حصلت القوائم العربية الثلاثة، التي شاركت في الانتخابات السابقة (2013) وقبلها (2009) على 4 و4 و3 مقاعد في كلا الانتخابين؛ ولذلك ظهر واضحاً أن مقصلة نسبة الحسم قد تطالها جميعاً إذا خاضت الانتخابات منفردة وكل منها على حدة. ومن هنا تعالت الأصوات إلى توحيد جهود هذه الأحزاب/ التجمعات/ القوائم العربية في قائمة انتخابية واحدة، تمنع سقوطها جميعا. ووجدت الأصوات الداعية إلى الوحدة، هذه المرة، آذاناً صاغية، إذ أن لم يفعله المنطق فعلته مقصلة نسبة الحسم، وبسرعة نسبياً، فلم تمض الا فترة قصيرة على الدعوة لانتخابات جديدة حتى كانت القوائم العربية منهمكة في تشكيل قائمة موحدة، تضمها جميعاً، أطلق عليها اسم “القائمة المشتركة”، التي حصلت في هذه الانتخابات على 13 مقعداً، لتصبح بذلك القائمة الثالثة في الكنيست من حيث الحجم، على ما قد يكون لذلك من انعكاسات.‏

كان النواب العرب، في تاريخ الكنيست عموماً، اضيع من الأيتام على مأدبة اللئام، فقد تجاهلهم النظام الصهيوني عادة ولم يأخذهم بالحسبان عند تشكيل أية حكومة؛ وذلك دون الخوض الآن فيما إذا كانوا هم، من جهتهم، مستعدين لذلك. ولكن كانت هناك حالة واحدة شاذة في أوائل التسعينات، عندما دعم النواب العرب حكومة رابين من خارجها، وهي الحكومة التي وقعّت اتفاقيات أوسلو، وذلك لقاء منافع اقتصادية ومادية واعتبارية مختلفة منحت للسكان/ المواطنين العرب. وربما تتكرر هذه الظاهرة مرة أخرى في الكنيست الحالي، إذا تغيرت الأوضاع وقدر لحزب العمل أن يشكل حكومة في إسرائيل.‏

وأيا كان، في أي حال، من أمر الحكومة الجديدة التي قد تشكل في إسرائيل في أعقاب الانتخابات الأخيرة، من الصعب التكهن أن مثل هذه الحكومة قد تكون طويلة العمر، بل أن الأرجح أن يكون مصيرها، أن آجلاً أو عاجلاً، كمصير الحكومة السابقة. فعدا عن المشاكل الداخلية، التي تواجه هذه الحكومة والتي لا يبدو أنها سهلة الحل، هناك واقع دولي معقد لا يميل عموماً إلى تأييد سياسات إسرائيل، ويبدو أنه ضاق ذرعاً بها، فيما راحت تترسخ أكثر فأكثر قناعة مفادها أن المفاوضات والطرق الحسنى في التعامل مع إسرائيل باتت عديمة الفائدة. ومن هنا قد تزداد عزلة إسرائيل وتتسع إجراءات المقاطعة لها والضغوط عليها، وبالتالي ليس من المستبعد أن نشاهد، بعد فترة غير طويلة، انتخابات مبكرة جديدة في إسرائيل.

الأرشيف