اغتيال عرفات – الجريمة وابعادها

اغتيال عرفات – الجريمة وأبعادها

صبري جريس

   لم يكن غريباً ما كشفته قناة “الجزيرة”، في تحقيق بثته يوم 4/7/2012، بشأن ظروف وفاة الشهيد القائد ياسر عرفات عن وجود مواد ذرية مشعة في أدواته الشخصية، كقبعته وفرشاة أسنانه وملابسه الداخلية، تفوق نسبتها المعدل الطبيعي، والأرجح أنها هي التي أدت إلى وفاته؛ وذلك استناداً إلى تحليلات مخبرية دقيقة ومقابلات مع الخبراء السويسريين الذين أجروا تلك التحاليل، شرحوا خلالها ما أسفرت عنه. فقد كان واضحاً لكل من كان على علاقة بـ”الختيار” أو من رآه أو تحدث معه، وكذلك لأطبائه بالطبع، أن الرجل كان يعاني في أيامه الأخيرة من مرض عضال راح يفتك به بسرعة وأدى إلى وفاته. صحيح أن الأطباء الفرنسيين الذين عالجوا عرفات قبيل وفاته، بعد أن نُقِل إلى باريس وتوفي هناك، لم يستطيعوا تحديد أي مرض معين أودى بحياة الرجل، رغم الفحوصات العديدة التي قاموا بها، وبعضها تم آنذاك خارج فرنسا. غير أنه لم يكن في مثل هذا التقرير ما يمكن أن يقنع أحداً. فعرفات نُقِل إلى مستشفى عسكري فرنسي، لا مدني. ولدى فرنسا خبرة طويلة في الأبحاث الذرية، بل أنها من القوى الذرية المعروفة في العالم. والأرجح أن ذلك التقرير عن أسباب وفاة عرفات لم يكن كاملاً، بل أن الحقيقة كانت معروفة وأُخفِيَت، أو أن فرنسا لم تشأ أن تأخذ المسؤولية على عاتقها، أو أنها تعرضت ومعها القيادة الفلسطينية للضغوط لكتمان الأمر، في محاولة للتستر على هذه الجريمة.

   وليست هذه هي جريمة الاغتيال الأولى التي ينفذها الصهاينة، على كل حال، ولا يبدو، في ضوء عدم الرد على مثل هذه الجرائم، أنها ستكون الأخيرة. فإسرائيل غارقة إلى ما فوق أذنيها في اغتيال القادة والشخصيات الفلسطينية، علناً وعلى رؤوس الأشهاد، فيما يبدو كأنه سياسة منهجية نابعة من صلب العقيدة الصهيونية. فهذه العقيدة لا تقوم أساساً على الخلية الكبرى العنصرية التي تعتبر قوامها الرئيسي، بل تضم أيضاً خلايا أخرى لا تقل خطورة عنها، وأولها الخلية الإرهابية التي تشكل مركباً رئيسياً في الفكر والممارسة الصهيونيين. وتكفي، للدلالة على ذلك، الإشارة إلى عدد من جرائم الاغتيالات المتكررة، التي ارتكبت خلال الأربعين سنة الأخيرة. ففي 10/4/1973، مثلاً، اغتالت وحدة إسرائيلية بقيادة إيهود باراك، حالياً وزير الدفاع في إسرائيل، كانت قد تسللت إلى بيروت، ثلاثة من أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير واللجنة المركزية لحركة فتح؛ هم أبو يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر، والأخير كان المتحدث الرسمي باسم المنظمة ولم يكن له أي نشاط عسكري أو تنظيمي. وفي 9/10/1981 اغتالوا ماجد أبو شرار، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، بقنبلة وضعت تحت سريره في إحدى فنادق روما. وفي 16/4/1988 اغتالت وحدة إسرائيلية، بقيادة موشي يعالون، نائب رئيس حكومة إسرائيل حالياً، خليل الوزير (أبو جهاد)، وهو أيضا عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، بعد أن تسللت إلى منزله في تونس وأطلقت النار عليه. وفي 26/10/1995 اغتالوا الدكتور فتحي الشقاقي، زعيم حركة الجهاد الإسلامي، بإطلاق النار عليه في مالطا. وفي 27/8/2001 أطلقت طائرة إسرائيلية صاروخاً على أبو علي مصطفى الزبري، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهو في مكتبه في رام الله فقتلته. وكان هذا الحادث من القلائل، إن لم يكن الوحيد، الذي رد فيه الفلسطينيون على اغتيال أحد زعمائهم. فبعد أقل من شهرين، وفي 17/10/2001، أطلقت مجموعة تابعة للجبهة النار على الوزير الإسرائيلي رحبعام زئيفي، فيما كان ينزل في إحدى فنادق القدس، فقتلته. وزئيفي هذا كان واحداً من غلاة الفاشيين الصهيونيين، الذي اعتاد، عندما كان قائداّ لمنطقة الضفة الغربية بعد احتلالها سنة 1967، إطلاق النار بنفسه على الفدائيين الذين كانوا يدخلون في عمليات لتلك المنطقة ويقعون أسرى، وقتلهم. وأدى اغتيال زئيفي إلى “تلبيس” التهمة لزعيم الجبهة الشعبية الذي خلفه، أحمد سعدات، حيث حكم عليه بالسجن المؤبد. وفي 22/3/2004 أطلق صاروخ إسرائيلي على الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) فيما كان يتجه من بيته إلى المسجد للصلاة صباحاُ، فقتل على الفور. وفي كل هذه الحالات لم تكلف إسرائيل نفسها حتى عناء دحض التهم المنسوبة إليها في ارتكاب جرائم الاغتيالات هذه.

   وليس في ما قدمناه إلا النزر اليسير من هذه الجرائم، فهناك العشرات، بل ربما المئات، من خيرة الكوادر الفلسطينية الذين اغتيلوا من قبل الأجهزة الإسرائيلية خلال الفترة المشار إليها، وخصوصاُ خلال الانتفاضتين الأولى والثانية.

   وجرياً على هذه “التقاليد”، لم يكن غريباً أن تلجأ حكومة إسرائيل في عهد شارون (2001-2006) إلى اغتيال عرفات، وإن بدت المسألة، هذه المرة، أكثر اتساعاً وعمقاً. وليس هناك أدنى شك في ذلك، والدلائل أكثر من أن تُحصى أو تُدحض، بل لا غرابة في ذلك. “فأمجاد” مجرم الحرب شارون، صاحب ما يمكن تسميته الإرهاب التطبيقي الإسرائيلي، قامت على قتل الفلسطينيين والعرب، منذ كان قائداً للوحدة 101 سيئة الصيت، في الجيش الإسرائيلي، خلال النصف الأول من خمسينات القرن الماضي، حيث كان لا يزال ضابطاً شاباً. بل انه هو الذي اقترح إنشاء مثل هذه الوحدة التي قامت تحت قيادته، في إطار ما كان يعرف باسم العمليات الانتقامية، بارتكاب أفظع المجازر ضد أكثر من قرية في الضفة الغربية، التي كانت آنذاك خاضعة لحكم الأردن، رداً على عمليات التسلل التي كانت المجموعات الفدائية تنفذها داخل إسرائيل، متسللة إليها من الأردن. وكان من بين أبرز “مآثر” تلك الوحدة عملية نفذت في 14/10/1953، ذات دلالة بالغة على المستوى الأخلاقي لهذا الرجل وصحبه، وذلك عندما تسللت الوحدة إلى قرية قبيه وقامت، رداً على قتل فدائيين لامرأة وولديها في إسرائيل، بإجبار سكان القرية على البقاء داخل منازلهم ثم عمدت إلى تلغيمها وتفجيرها على رؤوس أصحابها، مما أدى إلى مقتل نحو 70 شخصاً. وكانت إسرائيل قد قامت بأكثر من عملية خلال تلك الفترة، ولم تتوقف عن ذلك إلاّ عندما راح الجيش الأردني يواجهها بحزم ويوقع خسائر ملحوظة في القوات الإسرائيلية المهاجمة. ففي آخر عمليتين من هذا النوع، في الهجوم على مركز شرطة حسان ليلة 52/9/1956 فقد الإسرائيليون 10 قتلى من جنودهم، وفي الهجوم الذي وقع بعد نحو أسبوعين من ذلك، على شرطة قلقيلية في 10/10/1956 فقدوا 18 جندياً آخر. وعلى الأثر توقف هذا النوع من العمليات، خصوصاً بعد أن شنت “العملية الانتقامية” ألكبرى ضد مصر بالاعتداء الثلاثي الفرنسي-البريطاني-الإسرائيلي عليها في 29/10/1956. إلا أن تلك التجربة وضعت “تقاليد” التعامل بالقوة مع الفلسطينيين في الجيش الإسرائيلي، ومن ثم في الكيان الصهيوني بأسره.

   ومع انتهاء تلك الفترة، في أي حال، أفل نجم شارون وكاد الرجل “يختفي”، ليظهر من جديد، وبقوة، في الحياة العامة في إسرائيل، بعد نحو 17 سنة، خلال حرب تشرين 1973 وبعدها، خصوصاً بعد أن قاد الهجوم الإسرائيلي المضاد على الجيش المصري وتمكن من تحقيق ثغرة الدفرسوار واحتلال موطئ قدم على الضفة الغربية من قناة السويس، قرب مدينة السويس. وهذه الثغرة، وإن لم تكن ذات أهمية عسكرية كبرى، فقد كانت لها، سياسياً، معانٍ كبيرة، إذا أنها فتحت الطريق أمام السادات للتفاوض مع الإسرائيليين، التي أدت في نهاية المطاف إلى توقيع اتفاق صلح معهم.

   وبعد انتهاء تلك الحرب دخل شارون معترك الحياة السياسية في إسرائيل، فقام بتشكيل حزب سياسي وخاض انتخابات الكنيست في أواخر 1973، حيث حصلت قائمته على مقعدين (من 120). وبدا الرجل في تلك الفترة عصبي المزاج، محبطاً وغاضباً، خصوصاً بعد أن عاد حزب العمل إلى الحكم برئاسة “غريمه” رابين، رغم النتائج التي أسفرت عنها الحرب. وساهمت في ذلك أيضاً حروب الجنرالات الصهيونيين ببعضهم البعض، على ما لحق بشارون وغيره من جنرالات إسرائيل من وصمات “وبهدلات”، بعد أن فرك الجيش المصري أنوفهم في تلك الحرب وأعادهم إلى أحجامهم الطبيعية. ولكن مع مرور الوقت تعافى شارون من وعكاته النفسية، وتنازل عن أنانيته وغروره، وقرر الخروج من قوقعة العمل السياسي منفرداً، والتي لم تعد عليه بفائدة كبيرة في أي حال، فاتجه إلى العمل على توحيد قوى اليمين في إسرائيل ولعب دوراً بارزاً في هذا المضمار أدى إلى إقامة حزب الليكود سنة 1973، ومن ثم توسيعه سنة 1984.

   ولم تهدأ هذه “الإنجازات” من توتر أعصاب شارون أو تدفعه نحو العقلانية، بل أن العكس كان صحيحاً. فقد بدا على الرجل الغضب، بصورة خاصة، من الإنجازات التي حققتها الحركة الوطنية الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير بعد حرب تشرين 1973 لجهة الاعتراف بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، ومن ثم الاعتراف بها، بصفتها تلك، من قِبَل العشرات من الدول في كافة أنحاء العالم، في الوقت الذي قطعت فيه كافة دول أفريقيا، مثلاً، علاقاتها مع إسرائيل. وكان هذا الصمود الفلسطيني واحداً من الأسباب وراء نشوب الحرب الأهلية في لبنان، التي شنتها القوى اليمينية المرتبطة بالإمبريالية في لبنان، بمساعدة فعالة وشبه علنية في إسرائيل، ضد الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، بهدف كسر شوكتهم وتحجيمهم على الأقل لإخراجهم من دائرة الفعل السياسي. ولما لم يتم ذلك وفشلت تلك المؤامرة، فيما استمر العمل الفلسطيني في صموده، تفتق ذهن شارون، المعني كثيراً بـ”استراتيجيات” إسرائيل وسياساتها الإقليمية، لا بل العالمية، وانطلاقاً من العقلية الإجرامية الصهيونية، عن مشروع جديد مفاده بأن لا مناص من اغتيال ياسر عرفات، باعتباره قائداً للحركة الوطنية الفلسطينية، لتخليص إسرائيل من تبعات مجابهتها للفلسطينيين وقضيتهم وما قد يترتب على ذلك. وفي النصف الثاني من السبعينات راح شارون يجاهر علناً بمواقفه هذه في مقابلات وتصريحات صحفية، نشرت أكثر من مرة وفي أكثر من صحيفة، بل إنه راح يغمز في قناة المسؤولين في إسرائيل، أياً كانوا، بإعلانه أكثر من مرة، أنه لو تم الأخذ بنصائحه لما كان عرفات حياً حتى ذلك الوقت (وكنت في حينه قد قمت شخصياً، بصفتي رئيساً لقسم الدراسات الإسرائيلية في مركز الأبحاث التابع للمنظمة، بنقل كافة هذه التصريحات إلى “الختيار”، مع كل ما صدر بشأنها من تعليقات، الذي كان ينظر إلي بعد قراءتها ويتمتم: “إنه إرهابي”).

   ومع نجاح الليكود وفوزه في انتخابات 1977، لأول مرة في تاريخه وتاريخ إسرائيل، ومن ثم قيام زعيمه مناحيم بيغن بتشكيل حكومة برئاسته، أُستبعد شارون من المجالات التي يهواها وعُيِّن وزيراً للزراعة وليس للدفاع. إلا أن بيغن اضطر إلى تغيير موقفه هذا عند تشكيل حكومته الثانية سنة 1981، إذ اضطر إلى تعيين شارون وزيراً للدفاع لما توسمه فيه من قدرة على إخلاء المستوطنات في سيناء، قبيل الانسحاب منها، وهو ما تعهدت إسرائيل القيام به، ثم نفذته فعلاً، وفقاً لاتفاقية السلام مع مصر. وكان شارون قد قام بتنفيذ هذه المهمة على خير وجه خلال نسيان 1982. إلاّ أن الرجل، وما أن أكمل مهمته تلك حتى راح يخطط للأخرى، الكبيرة، أي طرد منظمة التحرير الفلسطينية ومعها كافة منظمات المقاومة الفلسطينية، بعديدهم وعتادهم، عن بَكرة أبيهم في لبنان، وذلك ضمن مخطط “استراتيجي” مفاده أن مثل هذا العمل سيؤدي إلى ضعضعة مكانة الحركة الوطنية الفلسطينية ومن ثم القضاء عليها، لتخلو لإسرائيل الساحة وتقوم بتنفيذ مخططاتها للسيطرة على الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 1967، في الضفة الغربية وقطاع غزة، دون مقاومة تُذكر.

   وكان هذا هو الهدف الذي يسعى شارون إليه من وراء شن الحرب الإسرائيلية على لبنان في أوائل حزيران 1982، وإن لم يكن الهدف المعلن لها، رسمياً على الأقل. ففي البداية صادقت الحكومة الإسرائيلية على عملية محدودة تقضي بإبعاد القوات الفلسطينية المتواجدة في جنوب لبنان مسافة 40 كم عن حدود إسرائيل لتضمن الهدوء لسكان إسرائيل في المنطقة الشمالية. إلاّ أن شارون، كعادته المعروفة في تضليل رؤسائه ومخالفة الأوامر الصادرة له والتصرف على هواه، قام بتضليل الحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسها بيغن، بواسطة تزويدهم بمعلومات خاطئة وكاذبة، فتمكن من توسيع نطاق هذه العملية حتى وصلت القوات الإسرائيلية الغازية إلى أواسط لبنان. ثم تمكنت، بمساعدة المتآمرين معها من “القوات اللبنانية” من حشر معظم الكوادر الفلسطينية في بيروت، ومن ثم فرض حصار شامل على المدينة، استمر أكثر من شهر، خلال صيف 1982، مشترطة لفك ذلك الحصار جلاء كافة القوات والكوادر الفلسطينية عن لبنان، وعلى وجه التحديد من بيروت، وهو ما تم في نهاية الأمر.

   وخلال فترة حصار بيروت رصدت 3 محاولات على الأقل من قبل القوات الإسرائيلية الغازية لقتل عرفات. فقد قصف الطيران الإسرائيلي 3 أبنية سكنية في بيروت، خلال تلك الفترة، كان عرفات قد قام بزيارتها، لاعتقاد الإسرائيليين أنه كان لا يزال متواجداً فيها، في محاولة لقتله، مما أدى إلى سقوط العشرات من الشهداء المدنيين الأبرياء. إلاّ أن عرفات، سريع الحركة، كان قد ترك تلك الأبنية، في كل الحالات، قبل أن تقوم إسرائيل بقصفها. ونتيجة لذلك، وفي نهاية فترة الحصار، لم يبق أمام عرفات إلاّ الإقامة في أبينة جانبية شبه مهجورة، لا هواتف أو أجهزة اتصال لاسلكية موجودة فيها، فيما بقي مقره غير معروف إلاّ لمجموعة صغيرة وتعذر على أي شخص زيارته، عدا أولئك الذين طلب بنفسه حضورهم إليه. وكان كل هؤلاء يؤخذون لمقابلته على ظهر دراجة موتوسيكل يقودها أحد العاملين معه (وكنت يومها من بين الذين ذهبوا إلى مقابلته، بناء على طلبه، قبيل انتقاله بحراً إلى تونس، راكباً على ظهر دراجة وراء سائقها، الذي أوصلني إلى مسافة تبعد عشرات الأمتار عن مكان تواجد “الختيار”، بعد أن شرح لي كيفية الوصول إليه. ومع انتهاء المقابلة، التي دارت حول مصير مركز الأبحاث، الذي تقرر أن يبقى في بيروت بعد خروج المنظمة وأجهزتها من لبنان، أشار علي عرفات بالمغادرة من باب آخر في المنزل، غير الذي دخلت منه، لأجد نفسي في طريق جانبية مؤدية إلى طرق أخرى، مشيت فيها لوجدي نحو نصف ساعة حتى وصلت إلى مكان إقامتي).

   وبنظرة إلى الوراء يصعب القول، في أي حال، أن الإسرائيليين حظوا بانتصار كبير في حرب 1982 على لبنان والمقاومة الفلسطينية، رغم نتائجها الآنية والعلنية، بل أنهم عملياً ارتكبوا أكثر من خطأ إستراتيجي فادح، كان له ثمنه. فقد قرروا بعد الحرب الاحتفاظ بوجود عسكري دائم في جنوب لبنان، استمر 18 سنة، لحين انسحابهم فجأة وخلال يوم واحد، 25/1/2000، من هناك. وقد شكل هذا التواجد بحد ذاته تحدياً كبيراً وحافزاً لنشوء المقاومة بقيادة حزب الله وصقلها وتقويتها لتصبح قوة تشكل خطراً على إسرائيل، بل يحسب لها حساب في التوازنات الإقليمية. وبموازاة ذلك ارتكب الإسرائيليون خطأً تاريخياً ثانياً، لا يقل في فداحته عن ذلك الأول، إذ أن تشتيت القوات والكوادر الفلسطينية في دول عربية عديدة كان عاملاً مهماً في بلورة صحوة فلسطينية جديدة أدت، في نهاية المطاف، إلى عودة النشاط الوطني الفلسطيني مع نشوب الانتفاضة الأولى سنة 1987، إلى أرض الوطن، بعد أن غاب عنها وتمركز بمعظمه خارجها منذ ثورة 1936-1939، أي خلال ما يقارب 40 سنة.

   ولم يكتف شارون بهذا القدر من الأخطاء الاستراتيجية الكبرى التي أوقع إسرائيل فيها، بل أنه وقع في خطأ آخر، يليق بمن كان على مستواه من الفظاظة والبلطجة، أدى، ولو مرحلياً، إلى إنهاء حياته السياسية. فبعد دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت، في أوائل أيلول 1982، اثر خروج الفلسطينيين منها ومن ثم اغتيال بشير الجميل، “الرئيس” الجديد، قامت قوة من ذلك الجيش بعملية تشبه تلك التي نفذها في قبيه سنة 1953، مع بعض الاختلاف في الرتوش. وتمثلت هذه العملية في فرض حصار شامل ومحكم من قِبَل القوات الإسرائيلية المحتلة على مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في ضواحي بيروت. ولكن في هذه المرة لم تدخل القوات الإسرائيلية إلى داخل المخيمين ولم تنسف أي من بيوتها على رؤوس أصحابها، بل اكتفت فقط بفتح ثغرة في الحصار سمحت لبعض الوحدات الفاشية من “القوات اللبنانية” بقيادة إيلي حبيقه (قُتِل فيما بعد في حادث تفجير سيارته) بالدخول إلى المخيمين، حيث عملت هناك خلال 3 أيام كاملة على “تصنيف” سكانها وقتل من شاؤوا منهم، لترتكب واحدة في أبشع المجازر ضد اللاجئين من سكان المخيمين ذهب ضحيتها بضع مئات منهم. وقد أثارت بشاعة هذه المجزرة حتى قطاعات واسعة من الإسرائيليين في حينه، فقام ليلة 25/9/1982 نحو 400,000 (بالكلمات: أربعمائة ألف) منهم بمظاهرة احتجاج صاخبة في تل أبيب (فيما لم تقم، مثلاً، بالمقابل مظاهرة بِعُشر حجم هذه في أية عاصمة عربية). وكان من نتيجة هذا الغليان الإسرائيلي إقامة لجنة كاهان للتحقيق في تلك الأحداث، التي أنجزت عملها بسرعة ونشرت في شباط 1983 تقريرها، موصية بأن لا يعهد بمنصب وزير الدفاع لشارون ثانية، إذ أنه لا يصلح لمثل هذه المهمة. وعلى الأثر أُقيل الرجل من منصبه واحتفظ رئيس الحكومة بيغن لنفسه بهذه الوزارة؛ وبالتالي انتقل شارون ثانية إلى عالم النسيان، بين أقرانه في الصف الثاني من الزعامات الإسرائيلية، ليبقى هناك، مرة أخرى، 17 سنة متتالية.

   ورغم اختفاء شارون من الحياة السياسية في إسرائيل، وإن تم ذلك لفترة غير قصيرة، فقد وجد هناك في غيابه من هو على استعداد للقصف، إذ أن إسرائيل لا ينقصها مثل أولئك. ففي 11/10/1985 قام الطيران الإسرائيلي، في عملية لم يعرف سببها المباشر حتى الآن، بقصف مقر عرفات في حمام الشط بالقرب من تونس العاصمة، موقعاً عشرات الضحايا بين العاملين في المقر، فيما كان عرفات غير موجود هناك. والجدير بالذكر أن هذه العملية تمت في عهد حكومة الوحدة الوطنية، التي أقيمت آنذاك بالتناوب بين الليكود والعمل، فيما كان، في التاريخ المذكور، شمعون بيريس يشغل منصب رئيس الحكومة واسحاق رابين وزيراً للدفاع فيها (والاثنان، للمفارقة، أصبحا فيما بعد “شركاء” عرفات في “سلام” أوسلو). والمقارنة بين أعمال هؤلاء وأعمال شارون تظهر أنه، على الرغم من الفروق في الاتجاهات السياسية بين الطرفين، كلهم، في نهاية الأمر، إرهابيون من الطراز نفسه.

   ومع انفراط عقد حكومة الوحدة الوطنية تلك، ومن ثم عودة الليكود لوحده منتصراً إلى الحكم، لم يقم الإسرائيليون، في أي حال، بمخالفة توصيات لجنة كاهان بتعيين شارون وزيراً للدفاع ثانية، بل اكتفوا “فقط” بانتخابه رئيساً للحكومة، بدلاً من باراك، في انتخابات خاصة جرت في 7/3/2001. وكانت تلك الانتخابات لرئاسة الحكومة فريدة من نوعها، وجرت للمرة الوحيدة في إسرائيل على أساس ترشيح شخصي لا حزبي، وذلك لتعقيدات دستورية ألمت بالنظام الإسرائيلي إثر تغيير طريقة الحكم، التي بدت بعد فترة قليلة من إقرارها غير صالحة، فتقرر تغييرها ثانية.

*   *   *

   جاء انتخاب شارون رئيساً لحكومة إسرائيل، في بداية 2001، في فترة حرجة ودقيقة للغاية في خضم الصراع على مصير فلسطين. فقبل ذلك بأشهر قليلة انتهت مفاوضات الحل النهائي، وفقاً لاتفاقات أوسلو، إلى فشل ذريع، رغم جولات المفاوضات المضنية التي عقدت في أكثر من بلد وشاركت فيها أكثر من جهة، عربية وأجنبية، كالمصريين و الأميركيين. وسبب ذلك ما اتضح من تعنت وسعي إلى الهيمنة والسيطرة على الفلسطينيين بصورة دائمة في مواقف إسرائيل تحت حكم حزب العمل آنذاك، بقيادة “المفكر” و”القائد” إيهود باراك، رئيس حكومة إسرائيل يومها. فخلافاً لما نصت عليه اتفاقات أوسلو من اعتبار الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وحدة إقليمية واحدة والتعامل معها على هذا الأساس، اقترح الإسرائيليون تقسيم أراضي الضفة إلى 3 أصناف، أولها وهو الذي يضم المدن الستة في الضفة، المعروفة حالياً بالمنطقة “أ”، الذي سيتم توسيعه قليلاً ويكون وحده خاضعاً لسيطرة فلسطينية كاملة. أما المساحة الباقية من الضفة فتقسم إلى قسمين، أحدهما يخضع لسيطرة إسرائيلية – فلسطينية مشتركة والثاني لسيطرة إسرائيلية فقط. أي، باختصار، إقامة ما يشبه مستعمرة فلسطينية في الضفة تكون خاضعة، ربما إلى ما لانهاية، للسيطرة الإسرائيلية. وقد رفض عرفات القبول بذلك في حينه أو الموافقة عليه بحزم وعناد وتصميم عرفاتيين لا ليس فيهم، بل إن كافة الأطياف الفلسطينية وافقته على موقفه هذا، ولم يسمع أي اعتراض وجيه على ذلك من قِبَل أي كان، إذ لم يكن بإمكان أي فلسطيني عاقل القبول بمثل هذه الاقتراحات، التي تعني، بمنتهى البساطة، تصفية القضية الفلسطينية. وعلى هذه الخلفية نشبت الانتفاضة الثانية سنة 2000، والتي لم يكن عرفات بعيداً عنها، من حيث الإشراف والرعاية والتشجيع، خصوصاً بعد أن شعر بالغدر من قِبَل “الشريك” الإسرائيلي، الذي انقلب عليه وعلى الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، على الخطورة الكامنة في ذلك، وراح يعلن في مجالسه الخاصة: “لقد خدعونا”، قاصداً بذلك الإسرائيليين عندما وقّعوا على اتفاقات أوسلو.

   في واقع كهذا كان واضحاً أن حكومة شارون واجهت، منذ يومها الأول، أوضاعاً سياسية محتقنة من جهة وأمنية مضطربة من جهة أخرى. ولم يكن في قدرتها، في أي حال، استناداً إلى طبيعة تركيبتها من قوى اليمين الصهيوني، صاحب الاتجاهات التوسعية وشبه الفاشية، وإن ظهر أن حكومة العمل برئاسة باراك التي سبقتها لم تكن تختلف في المحصلة عنها، اتخاذ أي إجراء يذكر سعياً لأي نوع من الحل العقلاني. ولذلك استمرت الانتفاضة على وتيرتها، لتشتد حيناً وتخبو أحياناً، في دوامة من العنف، تعيد تكرار نفسها. فالمتظاهرون الفلسطينيون يتجهون إلى المواقع الإسرائيلية للاحتجاج فيجابهون بالرصاص ويسقط من يسقط منهم شهيداً، ليرد النشطاء الفلسطينيون على ذلك بهجمات، تقليدية أو انتحارية، على أهداف داخل إسرائيل، مفجرين السيارات المفخخة أو أنفسهم، لتقوم إسرائيل، بدورها، بالرد على ذلك بتدمير موقع فلسطيني هنا أو اغتيال نشطاء فلسطينيون هناك؛ وهكذا دواليك.

   ولم يكن بإمكان النظام الصهيوني، وخصوصاً حكومة برئاسة شخص مثل شارون، بني “أمجاده” على قدراته في “معالجة” القضايا الأمنية (مثل “العلاج” الذي طبقّه في مجزرة قبيه 1953 ومجزرة صبرا وشاتيلا 1982) السكوت طويلاً على ذلك، نظراً لانعكاسات الاضطرابات الأمنية سوءاً على أوضاع إسرائيل عامة، ولذلك تقرر السعي إلى حل “سياسي”. وعلى طريق دعم هذا الاتجاه تفتقت “العبقرية” الصهيونية عن نظرية جديدة مفادها أن السبب الرئيسي لانسداد أفق الحلول السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين يعود إلى “تعصب” عرفات وتشدده وإمساكه بكافة مركبات السلطة على الساحة الفلسطينية. ولذلك لابد من “تحجيمه” والتخفيف من “أضراره” بنزع أكبر مدى ممكن من صلاحياته وتحويلها لمن كانوا أكثر “اعتدالاً” و”عقلانية” منه. وتصاعدت هذه الحملة بعد أن حُمل الإمبرياليون الأميركيون على المساهمة فيها، ووجدت تعبيراً عنه في الدعوة إلى استحداث منصب رئيس حكومة في السلطة، على أمل أن يساهم من قد يشغل هذا المنصب في الحد من صلاحيات “الختيار” تمهيداً للوصول إلى حل “بنَّاء”. وقد شارك، للأسف، فلسطينيون معروفون من هواة السياسة والأمن والإعلام، ممن كانوا من المحسوبين على عرفات ثم أبدوا استعداداً للمشاركة في الانقضاض عليه، في هذه الحملة. وبدا ذلك مقدمة لبلورة رأي عام مفاده وكأن وجود عرفات بحد ذاته هو المشكلة. والواضح أن مثل هذه الفذلكة لم تكن إلاّ نوعاً من الهذيان والافتراءات السمجة التي لا مكان لها. فقد اتضح بعد سنين من غياب عرفات، ومن ثم وصول الجد الأكبر للاعتدال الفلسطيني، ونقصد بالطبع محمود عباس (أبو مازن)، إلى رئاسة المنظمة والسلطة، أن الآفة لا تكمن في هذه الشخصية الفلسطينية أو تلك، ولا في المواقف الفلسطينية عامة، بل أنها ناجمة عن طبيعة الاحتلال الإسرائيلي والخرافات الصهيونية الداعية إلى السيطرة على كل ما يسمى أرض – إسرائيل، في فلسطين وجوارها، تمهيداً لإقامة مملكة إسرائيل الثالثة. ولذلك لم تتغير المواقف السياسية الإسرائيلية بعد غياب عرفات، بل على العكس من ذلك ازدادت تزمتاً وتطرفاً وسعياً للهيمنة وإمعاناً في التنكر لحقوق الفلسطينيين، وبالتالي إجهاض أي حل سياسي.

   ولم يكن في هذا المخطط، في أي حال، ما يمكن أن يساهم في تحقيق أهداف الفاشيين الإسرائيليين أو يشفى غليلهم. ولذلك اتجهوا إلى تصعيد استفزازاتهم لجر الفلسطينيين إلى صراع دموي، يمكن من خلاله القضاء على ما تبلور حتى ذلك الوقت من استقلالية فلسطينية، ومن ثم تحجيم دور الفلسطينيين عموماً وشل قدراتهم على التحكم في مصيرهم أو مجابهة المخططات التوسعية الإسرائيلية. وعلى الأثر تصاعدت حملات الاغتيالات للنشطاء الفلسطينيين هنا وهناك بهدف استفزاز القوى الفلسطينية ودفعها إلى ردود فعل قاسية، يمكن أن تُستَغل كمبرر لشن هجوم على الفلسطينيين بأسرهم وتحطيم كيانهم. ولوحظ، خلال تلك الفترة، عقد العديد من اتفاقيات التهدئة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، في أعقاب أعمال العنف التي تقع هنا وهناك. ولكن ما أن يُعقد اتفاق كهذا إلا وتقوم إسرائيل بعده بفترة قصيرة باغتيال نشطاء فلسطينيين جدد، فيقوم زملاؤهم بالرد على ذلك بهجمات على أهداف إسرائيلية، ليعقد اتفاق تهدئة في أعقاب ذلك، ثم تعود إسرائيل إلى اغتيال نشطاء آخرين، في دوامة بدت كأن لا نهاية لها. وفي إحدى تلك العمليات قام استشهادي فلسطيني بتفجير نفسه يوم 72/3/2002، في احتفال ببدء عيد الفصح اليهودي في فندق بارك في ناتانيا، مما أدى إلى مقتل 30 إسرائيلياً من المشاركين في الحفل. وهاج الرأي العام الإسرائيلي وماج في أعقاب ذلك مطالباً بالانتقام واعتبرت حكومة إسرائيل هذا الحدث بمثابة إعلان حرب، فجردت حملة عسكرية واسعة اجتاحت خلالها كل مناطق السلطة، فخربت ما خربت وقتلت من قتلت واعتقلت المئات من النشطاء الفلسطينيين، ثم فرضت حصاراً دائماً عل المقاطعة في رام الله، مقر عرفات، ومنعته من الخروج منها، حيث بقى هناك بمثابة سجين خلال ما يزيد على السنتين ولم يخرج إلاّ محمولاً إلى باريس، حيث توفي هناك.

   ولعل في أسلوب التعامل الفض هذا، من قبل الإسرائيليين، مع عرفات في سنواته الأخيرة، ومن ثم اغتياله، خير دليل على طبيعة النظام الصهيوني، بل ربما النزعة الانتحارية الكامنة في خلاياه. فعرفات كان الرجل الذي وقّع وثائق الاعتراف بإسرائيل من قبل الفلسطينيين، في إطار اوسلو، في عمل كان الأول من نوعه في تاريخ الصراع الفلسطيني-الصهيوني. ونتيجة لذلك تغير وضع إسرائيل للأحسن، ليس فقط على صعيد المنطقة، وذلك بفتح ثغرة في صراع دائم، استمر نحو قرن، كان يمكن أن تؤدي إلى نوع من السلام مع الفلسطينيين وربما العرب الآخرين، بل في العالم بأسره أيضا. ولو كان لدى الإسرائيليين ذرة من الحكمة لكان من المفترض أن يحظى عرفات بما يشبه “حصانة” من قبلهم، لا يجوز معها التعرض له بسوء، جسمانيا كان أم نفسيا. غير انه يبدو أن الطبيعة العدوانية الصهيونية لا تعترف بمثل هذه القيم؛ وليس المهم لدى إسرائيل هو عقد سلام مع الفلسطينيين أو غيرهم، بل الاستمرار في التوسع ومحاولات السيطرة، ليس على الفلسطينيين وحدهم، بل المنطقة بأسرها.

   وبموازاة تلك الأحداث، وفي خضمها وعلى جوانبها راحت تسمع في إسرائيل، خلال تلك الفترة، أصوات واضحة وصريحة للغاية من قِبَل أكثر من مسؤول كبير في إسرائيل، وخصوصاً أولئك المحسوبين على الشلة الأمنية الإسرائيلية، تدعو صراحة إلى “التخلص” من عرفات أو “إبعاده” أو الإيحاء بضرورة قتله. بل أن مثل هذه الدعوات أصبحت فيما بعد موضوعاً علنياً، راحت الصحافة الإسرائيلية تتناوله وتعلق عليه، بين تأييد وتحذير، خلال فترة غير قصيرة. وسمع، مثلاُ، وزير دفاع إسرائيل موفاز يهمس في أذن شارون، في إحدى المناسبات العامة، فيما كان الميكروفون مفتوحاً دون أن ينتبه لذلك، أن الوقت مناسب حالياً للتخلص من عرفات. كما نسب، مثلاً أيضاً، إلى شارون نفسه قوله أن إسرائيل لن تغتال عرفات عنوة، ولكن لا مانع من مساعدة الله على إنهاء حياته.

*   *   *

   لا تترك الوقائع، القديمة منها والجديدة على تسلسلها، مجالاً كبيراً للشك في أن إسرائيل، استناداً إلى تصرفات كبار زعمائها والمسؤولين فيها وتصريحاتهم واعمالهم، هي دون غيرها المسؤولة عن اغتيال عرفات، بل أنها هي وحدها المستفيدة من ذلك، دعماً لأطماعها وسياساتها التوسعية. وللكيان الصهيوني، في أي حال، سجل إجرامي حافل وغير مشرف في اغتيال الزعماء والكوادر الفلسطينيين منذ فترة طويلة، بل حقيقة طويلة جداً، ومنها ما تم بطرق غير تقليدية، مثل محاولة تسميم خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لـ”حماس”، سنة 1997 في الأردن. كما لا ينبغي استبعاد محاولتها القيام باغتيالات عن طريق الإشعاع الذري الموضعي، كما حدث في حالة عرفات، إذ كانت، ولو مرة واحدة، قد رأت آثار ذلك على جلدها، وربما تعلمت منه. ففي أواخر الخمسينات، مثلاً، تسرب إشعاع نووي من إحدى المختبرات في معهد وايزمان في رحوفوت، كانت لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية تشرف على تشغيله، في إطار أنشطتها لصنع الأسلحة الذرية، أدي في نهاية الأمر إلى وفاة البروفسور يهودا وولفسون، مدير المختبر، ومساعده الدكتور درور ساديه نتيجة لتعرضهما لذلك الإشعاع الذي اكتشف وجوده متأخراً. وبذلك تكون إسرائيل قد تنبهت مبكراً إلى وجود مثل هذه الإمكانيات للقتل الموضعي بواسطة الإشعاع الذري، قبل أن يقوم الروس بتطبيق ذلك على الجاسوس الروسي ليتفيننكو وقتله في لندن سنة 2006، أي سنتين بعد وفاة عرفات، وذلك بدس كمية من مادة البولونيوم 210 المشعة في كأس من الشراب الذي تناوله. وهذه هي المادة نفسها التي وجد العلماء السويسريون أثارها، بنسبة عالية بصورة غير طبيعية، في ملابس عرفات وأدواته الشخصية، حتى بعد مرور نحو 8 سنوات على وفاته. والأرجح أن شيئاً من غبار هذه المادة دُس في طعام عرفات أو شرابه فدخل جسمه وأدي إلى تسممه فوفاته.

   أثار اكتشاف المواد الذرية المشعة في مقتنيات عرفات ردود فعل عديدة بين الفلسطينيين على الصعيد الشعبي فور الإعلان عنه. وتركزت مثل هذه الردود، الصادرة عن بعض الكتبة، في بادئ الأمر على طرح “نظريات” لأسباب وفاة عرفات وأبعادها لا يمكن وصفها، للأسف، إلا أنها نوع من “الهبل” أو “الخرف”، تصدر عن أناس مصابين باصطكاك الركب لسيطرة الهلع عليهم، في البيئة الاحتلالية التي يعيشون فيها. ونتيجة لذلك يصل الحد ببعضهم إلى طرح أفكار أو فرضيات لا يمكن فهمها إلاّ أنها نوع من محاولة التغطية على القتلة أو، ربما، التواطؤ معهم من جهة أو الإساءة إلى الحركة الوطنية الفلسطينية، وربما الفلسطينيون بأسرهم من جهة أخرى. فقد صرح أحدهم، مثلاً، أن التحقيق في أسباب وفاة عرفات قد يؤدي إلى فتنة، وهو ما يمكن فهمه كأن هنالك معسكرين كبيرين من الفلسطينيين، أحدهما مؤيد لعرفات والثاني متهم بقتله، مما يتنافى تماماً مع الواقع. أما ثانيهم فقد “انتفض” لكرامة الشعب الفلسطيني وراح يقسم أغلظ الإيمان أنه لا يمكن أن يخرج من بين صفوف الفلسطينيين من يمكن أن يتواطأ مع القتلة ويسهل لهم فعلتهم. والكلام هذا ساذج للغاية، إن لم نقل أنه تافه. فصفوف الفلسطينيين تعج بالمخبرين والمتعاونين والجواسيس للإسرائيليين، في ظاهرة نمت، كما هو معروف، إثر خضوع هذا الشعب للاحتلال لما يزيد على أربعة عقود، تم استغلاله خلالها في ظروف بشعة. والسقوط في مستنقع العمالة أو التواطؤ مع العدو، في أي حال، ظاهرة غير محصورة في الفلسطينيين تحديداً، بل أنه لازمة لكل من تعرض للاحتلال، أو للاضطهاد، والأمثلة على ذلك كثيرة. ولكي تهدأ أعصاب أخينا هذا ويرتاح من وخز ضميره، تجدر الإشارة، مثلاً، إلى أن أفراد أو هيئات يهوداً تعانوا مع النازيين خلال الحرب العالمية الثانية وسلموهم أبناء جلدتهم الذين أرسلوا للإبادة أو، على الأقل، سكتوا عن ذلك، مقابل الحفاظ على حياتهم وحياة المقربين منهم. وفي إسرائيل نفسها، ظهر عادة، مرة كل 10 سنوات، جاسوس وأحد خطير على الأقل، كان يعمل في خدمة دولة أجنبية، كانت في معظم الأحيان الاتحاد السوفيتي، في حينه. وفي فرنسا، مثلاً آخر، تم إعدام نحو 400 شخص بالمقصلة، أي بقطع رؤوسهم، بعد تحرير البلد من الاحتلال النازي، لتعاونهم مع النازيين خلال الحرب، فيما سجن بضعة آلاف آخرين. وفي 25/3/1975 أُغتيل الملك فيصل في السعودية من قِبَل ابن أخيه، الذي أطلق النار عليه. وفي 31/10/1984 أُغتيلت أنديرا غاندي من قِبَل اثنين من حراسها الشخصيين. وقبل فترة قصيرة للغاية، في 18/7/2012 دس حارس العصابة المعروفة بخلية إدارة الأزمة في النظام السوري عبوة ناسفة في مقرها، فأودى بحياة أربعة من كبار جلادي الشعب في سوريا. ولذلك ليس غريباً أن يُغدَر القائد الراحل عرفات من قِبَل شخص من المقربين إليه أو العاملين معه، أو في مطبخه بالذات، وذلك بدس المادة المشعة السامة، بعد طحنها وتحويلها إلى ما يشبه الغبار في طعامه أو شرابه، فتغلغلت مع مرور الوقت في كامل جسمه وفتكت به، ومن هناك تسربت أيضاً إلى ملابسه وحاجاته الشخصية.

   إلاّ أن أكثر ما يثير الحنق، في هذا الصدد، كان رأياً أعلنه أحدهم داعياً إلى عدم متابعة التحقيق في اغتيال عرفات، لأن المسألة فوق “قدرة” الفلسطينيين، بل أن صاحبنا هذا طلب حتى من أرملة الرئيس عدم “إحراج” السلطة والتراجع عن طلبها فتح قبر الرئيس لأخذ عينات من رفاته لفحصها، ومن ثم ترك هذه المسألة بأسرها “للتاريخ”. وتكاد تشعر أن القتلة الإسرائيليين يتحدثون من فم هذا الرجل.

   ومن حسن الحظ أن أحداً من المعنيين بهذا الأمر أو من المسؤولين الفلسطينيين لم يأخذ بهذه التفاهات. فأرملة الرئيس لم تبق عند طلبها فقط، بل أنها تقدمت بدعوى إلى المحكمة الفرنسية تطالب فيها بإجراء تحقيق شامل في ظروف وأسباب وفاة زوجها، باعتبار أنه توفي على الأراضي الفرنسية وبالتالي من اختصاص القضاء الفرنسي النظر في أسباب الوفاة. وبمحاذاة ذلك أعلنت السلطة الفلسطينية أنها ستسمح بفتح قبر عرفات وأخذ عينات منه لفحصها، خصوصاً بعد أن اتضح أنه ليست هناك موانع دينية أو أخلاقية تحول دون ذلك. كما طلب عباس من أمين عام الجامعة العربية نبيل العربي إنشاء لجنة تحقيق عربية أو دولية في أسباب وفاة عرفات، واتخذ مجلس الجامعة على مستوى المندوبين قرارا في هذا الصدد. وفي الوقت نفسه عادت لجنة التحقيق الفلسطينية إلى مزاولة نشاطها في ضوء البراهين الأخيرة التي تم كشفها.

   والحقيقة أن جريمة بحجم اغتيال عرفات تستحق إقامة لجنة تحقيق دولية، وليس فقط لجاناً محلية أو إقليمية، كما حدث في مسألة اغتيال رفيق الحريري، رئيس وزراء لبنان، سنة 2005. إلاّ أن طلباً كهذا إلى مجلس الأمن سيصطدم قطعاً بالفيتو الأميركي، خصوصاً وأن رؤساء هذا النظام الإمبريالي، سواء كانوا جمهوريين أو ديمقراطيين، يلهثون وراء أصوات اليهود وأموالهم، في هذه المرحلة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية التي يفترض أن تعقد في تشرين الثاني 2012 المقبل. ولا شك أن هؤلاء سيلجأون إلى الفيتو لمنع اتخاذ أي قرار دولي في هذا الصدد يمكن أن “يحرج” حكام إسرائيل أو يسئ إلى “السمعة الطيبة” للكيان الصهيوني. غير انه، على الرغم من ذلك، لا ينبغي التردد في تقديم مثل هذا الطلب إلى مجلس الأمن، حتى وان مني بالفشل؛ إذ لا ينبغي التخفيف عن إسرائيل ومؤيديها في مواجهة النتائج المترتبة على أعمالها، على أي صعيد ممكن. كما أن ذلك سيساهم في نشر وقائع هذه القضية على صعيد عالمي. ويؤمل أن يتخذ مجلس وزراء الخارجية العرب قرارا في هذا الصدد، في أول اجتماع له، ويضع الآليات الضرورية لذلك. وأيا كانت الإجراءات التي ستتخذ في هذا الصدد هناك على الأقل إجراء واحد مهم ينبغي اتخاذه، دون علاقة بأي شأن آخر، وهو فحص عينة من رفات عرفات لمعرفة إذا كانت تحتوي على مواد مشعة حتى يقطع الشك باليقين لتحديد أسباب وفاته وحتى لا يستمر أحد في محاولات التضليل والتستر على الحقيقة، بحيث لا نسمع بعد اليوم، مثلاً، افتراءات كتلك التي أوردتها صحيفة إسرائيلية بزعمها أن المادة المشعة دست في حاجيات عرفات بعد وفاته. وفحص عينة من الرفات عملية فلسطينية خالصة، خاضعة لسيطرة الفلسطينيين دون غيرهم ولا يستطيع أحد التدخل فيها أو منعها، ومن الضروري القيام بها بأسرع ما يمكن، اليوم قبل الغد.

*   *   *

   إذا اتضح أن عرفات مات مسموماً، بعد فحص عينات من رفاته، أو تم إثبات ذلك بأية طريقة أخرى فينبغي أن تتحول هذه القضية إلى ما يشبه قميص عثمان، لشن حملة عالمية ضد القتلة الإسرائيليين وإيقاع العقوبة المترتبة على ذلك بهم من جهة وفضح الأساليب الإجرامية الصهيونية من جهة أخرى. والواضح أن اتجاهاً كهذا لا يهدف فقط إلى إحقاق الحق بمعاقبة المتورطين في هذه الجريمة، بل أنه له أيضا أبعاداً سياسية عملية من الدرجة الأولى، بهدف منع الانعكاسات السيئة بعيدة المدى على القضية الفلسطينية، بل أمن الفلسطينيين بأسرهم. فالسكوت عن اغتيال عرفات، الزعيم الأبرز للشعب الفلسطيني والأب المؤسس للكيانية الفلسطينية المتجددة يعتبر بحد ذاته جريمة كبرى، ستؤسس حتماً لجرائم أكثر بشاعة وخطراً في المستقبل، إن لم يتم التعامل معها بحزم. فالقتلة الصهيونيون الذين اغتالوا عرفات وقبله وبعده اغتالوا العشرات من القيادات الفلسطينية لن يخطر على بالهم، إذا تم السكوت على هذه الجريمة إلاّ الاستنتاج، مثلاً، أنه إذا سكت الفلسطينيون عن اغتيال زعيمهم الأكبر، فإنهم سيسكتوا عن اغتيال أي شخص آخر من بينهم، مهما علا شأنه واتسع نفوذه. فكل جرائمهم، في نهاية الأمر، تمر بسلام. ولا حاجة للتأكيد على الخطورة الكامنة في استنتاج كهذا والبناء عليه، إذ لن يعني ذلك إلاّ الاستخفاف بالفلسطينيين بأسرهم واستمرار إسرائيل في قتل من تشاء من بينهم. ولذلك هنالك مصلحة وطنية، بل شخصية لكل ناشط فلسطيني، في متابعة هذه الجريمة حتى نهاية إجراءاتها وكشف ملابساتها ومعاقبة الضالعين فيها.

   ولو وضعت قضية عرفات، على حيثياتها، بأزمنتها المختلفة وما سبقها من محاولات إسرائيلية “رسمية” أو غير ذلك لاغتيال الرجل، على التهديدات بل حتى النقاشات العلنية التي رافقت ذلك، بين أيدي أي محقق جنائي لأوعز، دون تردد، بجلب كبار زعماء إسرائيل أمامه للتحقيق معهم. ولو قُدر للـ”ختيار” أن يبدي رأيه بشأنها لأطلق دون شك أحد الأقوال المحببة لديه: “يكاد المريب يقول خذوني”.

   وعند الاتجاه إلى معالجة هذه القضية أو التعاطي معها ينبغي التوقف عن الحديث، بصورة عامة ومبهمة، عن مسؤولية “إٍسرائيل” ككل، والإشارة إليها كأنها طلسم لا يستطيع أحد فك أسراره أو عقده، إذ أن العكس تماماً هو الصحيح. فللكيان الصهيوني أجهزته وأدواته، بل أن له أيضاً “تقاليداً” لتنفيذ جرائم الاغتيال، قائمة منذ فترة طويلة. وجريمة بحجم اغتيال عرفات لا يمكن أن تتم بصورة عرضية أو سهواً أو عن طريق الخطأ، ولا يمكن لأي كان أن يتخذ قراراً بشأنها، إذ ينبغي أن تبحث ويبت فيها من قِبَل أعلى القيادات شأناً وأولها مسؤولية في إسرائيل. وأية إمكانية أو طرق أخرى غير قائمة.

   واستناداً إلى ذلك، وإلى آليات صنع القرار في الكيان الصهيوني، في أوضاع كهذه، هذه هي الدفعة الأولى من كبار المتهمين، المتورطين في اغتيال عرفات، ليس فقط بحكم مسؤولياتهم ومهامهم، بل أيضاً استناداً إلى مواقفهم العلنية:

1- أريئيل شارون، بصفته رئيساً لحكومة إسرائيل، 2001-2006 (حالياً في حكم المتوقي سريرياً)

2- آفي ديختر، بصفته رئيساً للشاباك (الأمن الداخلي)، 2000-2005 (حالياً عضو كنيست عن حزب كاديماه)

3- شاؤول موفاز، بصفته وزيراً للدفاع، 2003-2006 (حالياً زعيم حزب كاديماه)

4- موشي يعالون، بصفته رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، 2003-2005 (حالياً أحد نواب رئيس حكومة إسرائيل)

5- مئير داغان، بصفته رئيساً للموساد، 2002-2011 (حالياً مصنف كزعيم “عائم”)

   ومن المفترض أن تتبع هذه القائمة قوائم أخرى من المنفذين المتورطين في الإعداد للجريمة وتنفيذها. والمتهم الأول من بين هؤلاء، شارون، اقتصت منه العناية الإلهية، دون الحاجة لمساعدة من قِبَل الفلسطينيين. فقد توجه الرجل بعد مرور نحو سنة على اغتيال عرفات، إلى مستشفى هداسا في القدس، في أواخر سنة 2005 لتلقي العلاج إثر وعكة صحية ألمت به. ومع وصوله إلى هناك عاجله الأطباء بجرعة لتمييع دمه، كانت أقوى من المعدل المطلوب، فأدت إلى تمييع مخيخه، ثم حاولوا علاجه بإجراء عملية جراحية له فتلف على أثرها دماغه. ومنذ ذلك الوقت وهو يرقد في حالة موت سريري وجسمه موصول بالأنابيب، التي ما أن تقطع عنه حتى يموت. ولذلك ليس هنالك ما يمكن فعله قضائياً بشأنه، ويمكن تركه في سريره.

   غير أننا، في “وداع” شارون، لا نستطيع إلاّ الإشارة إلى إحدى مظاهر “التوبة” التي بدرت منه في أواخر أيامه، ذات المغازي الكبيرة. فقبل أن يحدث لشارون ما حدث، قام هذا البلطجي الصهيوني بتنفيذ واحد من أكبر الأعمال غير الصهيونية، التي عرفتها حركته، إذ نفذ انسحاباً إٍسرائيلياً أُحادي الجانب من قطاع غزة، الذي يفترض أن يكون صهيونياً جزءاً من إسرائيل الكبرى. وغني عن القول ما يعنيه ذلك من مغالطات واسعة وثقوب كبيرة في العقيدة الصهيونية وبطلان ادعاءاتها، على الشرخ الكبير الذي أحدثه ذلك في عقلية ونفسية غلاة الصهيونيين. ويُقال أن شارون كان يخطط لاتخاذ نوع من الإجراء المماثل في الضفة العربية والانسحاب من أقسام كبيرة منها أيضاً. ويُقال أيضاً أن هذا هو سبب “الخطأ” في علاجه بالدواء الذي أدى إلى تمييع مخيخه. فالصهيونيون لا يقتلون الفلسطينيين فقط، الذين يقفون حجر عثرة أمام مخططاتهم، بل يقتلون كبار زعمائهم أيضاً، إن حادوا عن الصراط الصهيوني، كما حدث لرابين قبل شارون.

   وإذا كان شارون، بفضل مشيئة الله، الذي يبدو أنه حصل على “مساعدة” في هذا الصدد من غلاة الصهيونيين، قد استراح وأراح، مع العلم أن اسمه سيبقى يتردد دائماً وأبداً عند أي حديث عن اغتيال عرفات ومسؤوليته الأولى والمباشرة عن ذلك، فإن المتهمين الأربعة الباقين لا يزالون أحياء يرزقون. والأرجح أن الثلاثة الأوائل منهم هم كبار المتهمين عملياً، إذ أن الأجهزة التابعة لهم هي الناشطة أساساً في الأراضي الفلسطينية، وهي بقادتها وعناصرها المسؤولة، دون غيرها، عن كافة الموبقات التي ارتكبت وترتكب هناك، بينما الموساد، على حد ما هو معلوم، لا ينشط في هذه المناطق، فلديه العالم بأسره. ومن بين هؤلاء الثلاثة، ونقصد المتهمين 2، 3، 4 أعلاه، أولهم، أي المتهم رقم 2، آفي ديختر، كان الأكثر دموية وإجراماً، فجهازه، بمبادرة نشطة وحماس كبير منه، قام بتنفيذ عشرات الاغتيالات للنشطاء الفلسطينيين في الضفة خلال الانتفاضة، والأرجح أن رجاله هم من نفذوا عملية تسميم عرفات. وتجدر الإشارة إلى أن ديختر هذا قد أصبح “مشّرعاً” بعد استقالته من الشاباك ومن ثم انتخابه عضواً عن كاديماه من الكنيست، ليتضح أيضاً أنه عنصري يصل في مواقفه حد الفاشية، عدا أنه أرعن وضيق أفق. فضمن نشاطه البرلماني قدم، مثلاً، مشروع قانون يقضي بإخضاع النظام الديمقراطي لما يسمى الطابع اليهودي لإسرائيل، أي، باختصار، ديمقراطية لليهود فقط في إٍسرائيل. وفي هذا الإطار اقترح، مثلاً أيضاً، إلغاء وضع اللغة العربية كإحدى اللغات الرسمية في إسرائيل، وكذلك تحديد مسؤولية الدولة في بناء المساكن لتكون محصورة باليهود فقط. ويبدو أنه حتى غلاة المتشددين الصهيونيين لم يستطيعوا احتمال هذه الجرعة المكثفة من عنصرية ديختر، فأوعزت له قيادة حزبه بسحب مشروع قانونه، وهذا ما حدث فعلاً.

   إن ما توفر من بينات حتى الآن بشأن حيثيات اغتيال عرفات كافٍ، كما يبدو، لإصدار قرار ضني بحق المتهمين الخمسة الأوائل المشار إليهم، ومن ثم استدعاءهم للتحقيق معهم. ولو توخينا إتباع الإجراءات النافذة لكان من المفترض بالمسؤولين المعنيين في السلطة الفلسطينية إصدار مثل هذا القرار وإبلاغ إسرائيل به بالطرق المتبعة والمعروفة والطلب منها تسليم أولئك المتهمين إلى الأجهزة الفلسطينية المخولة بذلك للتحقيق معهم أو، إذا رفضت ذلك، أن تقوم هي نفسها بذلك التحقيق، مع إطلاع الجانب الفلسطيني على فحواه أولاً بأول. ومن ثم ينبغي تقديم أولئك المتهمين ومن يثبت تورطه في الجريمة، وهناك ولا شك غيرهم من المتورطين، إلى المحاكمة العلنية. وإذا لم تشأ إسرائيل القيام بذلك فما عليها إلاّ تسليم المتهمين، مع نسخ عن محاضر التحقيق معهم، إلى الجانب الفلسطيني لمحاكمتهم أمام المحاكم الفلسطينية، بحيث يسمح لمراقب عن إسرائيل بحضور جلسات المحاكمة، فيما يُرحب بأي مراقبين دوليين لحضورها أيضاً.

   والأرجح أن إٍسرائيل سترفض مثل هذا الطلب، بل قد تتعمد تجاهله وعدم الإجابة عليه. فقد لوحظ منذ الاكتشاف الذري الأخير بشأن اغتيال عرفات أن أي من الزعماء الإسرائيليين، الذين كانوا يتبارون فيما بينهم لإطلاق التصريحات التحريضية الدموية ضد عرفات والدعوة إلى “التخلص” منه، بل غيرهم أيضاً، لم ينبسوا ببنت شفة في هذا الصدد. وكل ما صدر في إسرائيل، في هذا الشأن، كان مقالات أو تحقيقات صحفية، صادرة عن أناس غير معروفين، ليس فيها ما يفيد أحداً. والواضح أن إسرائيل الرسمية غير معنية بالحديث عن هذا الموضوع أو التطرق إليه، أو الدخول في سجال بشأنه، أو التعاطي معه من قريب أو بعيد، إذ ليس في ذلك إلاّ التسبب في أضرار لها، وهي غير معنية بذلك بالطبع.

   وإذا حدث وتجاهلت إسرائيل الطلبات الفلسطينية أو رفضتها فما على المسؤولين الفلسطينيين إلاّ التقدم ببلاغ رسمي إلى الرباعية الدولية في هذا الصدد، موضحة أن التحقيق في أسباب وفاة عرفات وكشف خباياها يصبح شرطاً جديداً، يضاف إلى شرط التوقف عن النشاط الاستيطاني، لاستئناف أي مفاوضات مع إسرائيل. وينبغي أيضاً في الوقت نفسه الطلب من الجامعة العربية تقديم شكوى أو بلاغ أو إشعار إلى مجلس الأمن ومتابعته هناك. وكذلك ينبغي إبلاغ مثل هذه المستندات إلى كافة الدول التي تعترف بفلسطين وتقيم علاقات مع السلطة، وخصوصاً الأوروبية منها.

   ولا ينبغي التقليل من الفوائد الناجمة عن حراك كهذا، حتى وإن اقتصر في نهاية الأمر على المجال الإعلامي فقط. ففي كشف فضائح النظام الإسرائيلي وأساليبه الإجرامية ما لا يعوّض لجهة إماطة اللثام عن الوجه البشع للصهيونية وعرض إسرائيل على حقيقتها ككيان خارج على القانون والأعراف الدولية. ولن يؤدي ذلك إلى الإساءة إلى سمعتها الدولية، السيئة أصلاً، وربما تقوية اتجاهات مقاطعتها وفرض العقوبات، هنا وهناك، عليها. ولنا في جريمة اغتيال رجل “حماس” محمود المبحوح، مثلاً، في دبي مطلع العام 2010 ما يعتبر أسبقية في هذا المجال، يمكن الإفادة منها. فقد تمكنت شرطة دبي من تعقب قتلة الرجل يومها وقامت بتصوير حركاتهم ونشاطاتهم بصورة مهنية ناجحة للغاية، ونتيجة لذلك وقعت إسرائيل في ورطة مع أكثر من دولة، بسبب استعمالها جوازات سفر مزيفة لتلك الدول للتغطية على عملائها الذين نفذوا الجريمة. وبلغ الشعور بالحرج حداً في إسرائيل طالب البعض معه كف يد الموساد، الذي تعرض للسخرية بعد انفضاح أساليبه، عن مثل هذه العمليات ومنعه من القيام بتنفيذها في المستقبل.

   وقد يقال أن حملة كهذه قد تؤدي إلى شلل في “المفاوضات” مع إسرائيل ومنع أي حلول ممكنة. إلاّ أن هذا لا يعد كونه ادعاءات غير صحيحة ولا واقعية. فما يسمي “مفاوضات” بين الإسرائيليين والفلسطينيين دخلت، منذ فترة غير قصيرة، في مرحلة العبث الذي لا طائل منه. بل أن هذا المسار وشروط استئنافه وصل إلى مدى من السخف أصبح من الصعب تصديقه. ففي آخر جولات الاتصالات التي تجري بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، مثلاً، في محاولة لاستئناف إمكانية اللقاءات بين نتنياهو وعباس، اقترح رئيس حكومة إسرائيل، كبادرة حسن نية، الإفراج عن 30 أسيراً من الأسرى القدامى، أي الموقوفين منذ ما قبل توقيع اتفاقات أوسلو، والذين كان من المفترض أن يطلق سراحهم منذ سنين، لقاء تعهد عباس بعدم متابعة طلب الاعتراف باستقلال فلسطين في المؤسسات الدولية؛ أي أن الاستقلال الفلسطيني بأسره يساوي حرية 30 أسيراً، وفق معايير نتنياهو. وفي المقابل طالب عباس بإطلاق سراح كافة أولئك الأسرى وكذلك الموافقة على تزويد أجهزة الأمن الفلسطينية بكميات جديدة من الأسلحة الخفيفة، التي يبدو أنها قد تكون ضرورية لمنع مظاهرات الاحتجاج في مناطق السلطة. والتدقيق في مثل هذه المواقف والطلبات لا يطرح إلاّ سؤالاً واحداً: ترى من هو الأكثر سخفاً أو تفاهة في مواقفه وطلباته – الجانب الإسرائيلي أم الفلسطيني؟

*   *   *

   ليس في ما قدمناه، على أي حال، ما يمكن أن يشير إلى أن هذه الإجراءات هي وحدها، دون غيرها، التي يمكن اتخاذها في التعاطي مع قضية بحجم جريمة اغتيال عرفات، إذ لابد أن يكون هناك من يستطيع اقتراح إجراءات أخرى، ربما مبتكرة. ولكن هذا كله لا يعني، بالضرورة، من ناحية ثانية، أن إسرائيل مقدمة على الوقوع في ورطات لا تستطيع الخروج منها، إذ ربما يكون العكس هو الصحيح أيضاَ. وفي حالة كهذه، قد لا يأتي الخلاص لإسرائيل نتيجة لقدراتها على المناورة والتملص من المسؤولية أو اللجوء إلى من يحميها من الإمبرياليين، وهو ما لا يجوز الاستهانة به، بل ربما يأتي بالذات نتيجة لتقاعس أو تخاذل أو تراجع الهيئات المسماة “قيادات” فلسطينية عن القيام بواجبها. ولنا في الأداء البائس لهذه “القيادات”، في الماضي البعيد والقريب، أكثر من دليل يثير مثل هذه الشكوك ويدعمها. ففي قضيتين على الأقل كل منها على درجة عالية من الأهمية الوطنية، تصرفت هذه “القيادات” بصورة غير ناجحة ولا مشرفة كثيراً، بل من خلال التردد والضيعان، لتسبب في أضرار فادحة للقضية الفلسطينية وتمس بالمصلحة الفلسطينية عموماً.

   والقضية الأولى، من هذه النوعية، كانت مسألة التعاطي مع جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل، ولا تزال تستكمل إقامته في الضفة الغربية. ففي سنة 2004 أصدرت محكمة العدل الدولية قراراً مهماً يقضي بعدم شرعية هذا الجدار، وتمت ملاحقة تنفيذه بالتوجه إلى الدوائر المعنية، في الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية. غير أنه لم تمر إلاّ فترة قصيرة على ذلك حتى تبخرت تلك المساعي، بقدرة قادر، ولم نعد نسمع عنها شيئاً. وتسربت في حينه أنباء عن إجراءات فلسطينية غير مستقيمة في متابعة هذه القضية، بل أن لجنة شكلت للتحقيق في ذلك. ومنذ تشكيل تلك اللجنة لم نسمع أي جديد عنها ولا عن نشاطها؛ ويبدو أننا لن نسمع شيئا في المستقبل أيضا. ولذلك، وبدلاً من مطاردة إسرائيل في المحافل الدولية أصبح جنودها هم الذين يطاردون المتظاهرين والمحتجين الفلسطينيين ضد هذا الجدار، بينما يكتفي الفلسطينيون عموماً برصد أخبارهم وإحصاء إصاباتهم.

   أما القضية الثانية فهي تلك المتعلقة بالاعتراف بفلسطين دولة في الأمم المتحدة، التي بدأت خلال الدورة الماضية (2011) للجمعية العمومية، ثم وضعت على الرف، دون أن يكون واضحاً متى يمكن أن تستأنف. وإزاء تعثر طلب الاعتراف في مجلس الأمن، قدمت في حينه اقتراحات لنقل القضية منه إلى الجمعية العمومية، إذ أن المسألة الفلسطينية تحظى بتعاطف وتأييد الأكثرية من الدول هناك. ومثل هذا الطلب يمكن، على الأقل، أن يؤدي إلى الاعتراف بفلسطين دولة، وإن كانت غير عضو في الأمم المتحدة، فيما يشبه الاعتراف بها عضواً في اليونسكو. إلا أن القيادات الفلسطينية تمترست وراء الطلب المقدم إلى مجلس الأمن وبالتالي جُمدت الإجراءات في هذا الشأن.

   وليست هذه هي الدلائل الوحيدة على إمكانيات التراجع عن متابعة قضية الاغتيال حتى نهايتها، بل أن هنالك، للأسف، دلائل أخرى لا تقل إيذاءً عنها. وتشاء الصدف، مثلاً، الإعلان قبيل نشر تحقيق “الجزيرة” بشأن وفاة عرفات بأيام قليلة أن هناك ترتيبات لعقد لقاء بين عباس وموفاز، ثم تعيين موعد لذلك، لحضور موفاز إلى المقاطعة يوم الأحد، 1/7/2012؛ إلاّ أن هذا اللقاء تأجل إثر وقوع مظاهرات احتجاجية ضده، قامت بها مجموعة من الشباب الوطني، تم اعتقال عدد منهم بعد اعتداء الزعران عليهم (ففي مصر، مثلاً، “بلطجية” وفي سوريا “شبيحة” وفي فلسطين “زعران”؛ والحال من بعضه).

   والحقيقة كان هنالك منطق ما في الموافقة على لقاء موفاز، من حيث المبدأ على الأقل، فالرجل، في إحدى المقابلات الصحفية معه، أعرب عن مواقف سياسية متقدمة للغاية، بالمقارنة مع سياسات إسرائيل الرسمية و”خرف” نتنياهو وباقي وزرائه، إذ أوضح أنه يوافق على حل تعاد بموجبه كافة أراضي الضفة ضمن حدود 1967 إلى الفلسطينيين، مع مبادلة المناطق المستوطنة منها على أساس 1:1. وهذا، كما هو معروف، موقف لا تقبله المنظمة وفتح فقط، بل حماس أيضاً.

   ومن هنا، ومن حيث المبدأ فقط، هناك أرضية ما لإجراء اتصالات أو ربما لقاءات مع موفاز بهذه الصورة أو تلك. إلاّ أن الاندفاع فوراً لدعوته إلى زيارة المقاطعة، مرة واحدة، في ضوء الدور الشائن الذي لعبه ضدها، باعتبارها المقر المؤقت للسيادة الفلسطينية، أي لحين انتقالها إلى القدس، خلال الانتفاضة الثانية، ليس إلاّ دليلاً على مدى التخثر الفكري الذي ألم بمن سعوا الى تلك الزيارة، بل حتى فقدان الحس الوطني واللياقة القومية لديهمً. فالرجل، وقبل أن تتضح بعض الأدلة التي يمكن على أساسها توجيه الاتهام له كواحد من الضالعين في اغتيال عرفات، لعب دوراً إجرامياً مقيتاً خلال الانتفاضة الثانية. فهو الذي قاد الهجوم تلو الهجوم على المقاطعة وحطم معظم أبنيتها وخرّب أكثر منشآتها وأشرف على سجن عرفات داخلها. ولهذا يبدو نوعاً من البلادة، ممزوجة بالإهانة للمشاعر الوطنية الفلسطينية، أن يُدعَى لزيارة هذا المكان بالذات، بل يُستَقبل رسمياً هناك. فمثل هذا الرجل ينبغي ألاّ يُدعى أبداً إلى المقاطعة، بل ينبغي منعه، مع غيره من المتهمين، من الدخول إلى كافة المناطق السيادية الفلسطينية، إلاّ إذا كان يُقتاد مخفوراً إلى مكتب النائب العام للتحقيق معه.

   وفي عرضنا لمواقف كهذه ينبغي التحذير، من ناحية ثانية، من خطر الوقوع في مطب تصريحات صبية حماس الملتحين أو الاصطدام بأفخاخهم. فهؤلاء، رغم جعجعتهم وإبداء “غيرتهم” لمعرفة مصير المؤامرة على عرفات، بل والتواقح باتهام الغير بالتواطؤ فيها، يتحدثون مثل أهل الكهف، الذين انتقلوا، مرة واحدة، عدة قرون إلى الأمام، ليجدوا أنفسهم في عالم غريب عنهم، لا يعرفون كيفية التعايش معه. وكان الأجدر بهؤلاء، بدلاً من كيل الاتهامات الخرافية للآخرين، محاسبة حركتهم حماس التي أعلنت، بعد اغتيال أكثر من واحد من قادتها، وعلى رأسهم مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين، مراراً وتكراراً، أنها ستنتقم لهم، مهددة إسرائيل بالويل والثبور وعظائم الأمور، فيما لم يحدث أي شيء من هذا القبيل فيما بعد.

   ولذلك ينبغي أن لا يُفاجأ أحد إذا حدث ما يشابه ذلك مع قضية اغتيال عرفات. بل ينبغي ألاّ تخدع لجان التحقيق التي أقيمت ولا البيانات والتصريحات التي صدرت في هذا الصدد أحداً. إذ ربما لا يمر إلاّ الوقت القصير، وبعد أن تهدأ الأوضاع قليلاً، حتى تختفي تلك اللجان، بل ربما لا يصدر عنها أي تقرير وتوضع قضية عرفات، كما غيرها، على الرف. فالضغوط الصهيونية والإمبريالية فعلت فعلها في الماضي، وأحبطت أكثر من مسعى فلسطيني؛ وقد يحدث هذا مرة أخرى.

   لقد اختارت “القيادات” الفلسطينية، منذ فترة غير قصيرة، الطرق “الحضارية” والسياسية، من مفاوضات وغيرها، للتعامل مع القضية الفلسطينية، وقد لا يكون خطأ في ذلك. ولكن مساراً كهذا بالذات يتطلب تعاملاً جدياً، ناجعاً، مثابراً ومصمماً على التعامل مع تلك القضايا المهمة، التي أشرنا إليها، أو ما شابهها. ومثل هذه القضايا تتطلب خوض معارك سياسية لا تقل في قسوتها وضراوتها عن المعارك العسكرية، ليس بالإعلانات والتصريحات فقط، بل بالعمل الدؤوب في كافة المحافل، الدولية وغيرها. ولن يعود مثل هذا الاتجاه الا بالنفع على القضية الفلسطينية عموماً، فيما يمكن أن يشكل بداية لنقلة نوعية على طريق تحجيم الاحتلال ومن ثم دحره، وإخراج القضية من الجمود المسيطر عليها حالياً.

الأرشيف