الجمهورية الثانية – باهتة الالوان ووعرة المسالك

 الجمهورية الثانية – باهتة الألوان ووعرة المسالك

 صبري جريس

   مع إعلان الدكتور محمد مرسي، مرشح الإخوان المسلمين، رئيساً لمصر إثر المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية التي جرت هناك في أواسط حزيران 2012، راحت الجمهورية الثانية المصرية تخطو خطواتها الأولى على طريق خاص بها، وإن بدا أنه غير واضح المعالم تماما.ً فهذه الانتخابات لم تحسم الأمور ولا أرست قواعد للحكم، إذا عقدت في ظل غياب دستور أو مجلس نيابي، وكذلك فإن صلاحيات رئيس الدولة ودوره في السلطة التنفيذية غير محددين أو واضحين. كما أن مجلس الشعب الذي أُنتخب من قبل مدة أُعتبر غير شرعي، وتم حله بحكم قضائي. أما المجلس العسكري الذي مارس صلاحيات رئيس الدولة في المرحلة الانتقالية فقد قرر الاحتفاظ بالسلطة التشريعية بعد انتخاب الرئيس الجديد، على الأقل حتى وضع دستور جديد للبلد وانتخاب مجلس شعب جديد أيضا. وليس في ذلك كله ما يشير إلى وجود مسارات سياسية طبيعية في مصر.

   إلاّ انه على الرغم من ذلك، لا شك أن هذه الانتخابات الرئاسية،   بالنتائج التي أسفرت عنها، هي أحد المعالم المهمة على طريق الثورة الثانية في مسلسل ثورات الربيع العربي. وهي، وإن لم تكن المرحلة الأولى في ثورة المصريين سعياً إلى الديمقراطية والتحرير، فإنها قطعاً لن تكون الأخيرة. فأوضاع مصر لم تهدأ منذ نشوب الثورة، التي بدأت بإرغام الرئيس السابق حسني مبارك على التنحي عن سدة الحكم وتحويل صلاحيات الرئيس إلى المجلس العسكري الأعلى في شباط 2011. إذ أن “المليونيات”، أي الاعتصامات أو الاحتجاجات أو المظاهرات، التي تحشد مليوناً أو أكثر من المواطنين في الميادين العامة، وعلى رأسها ميدان التحرير في القاهرة (وهي “ظاهرة” يبدو أن المصريين فقط قادرين على “إخراجها”) لم تتوقف منذ ذلك الوقت. وهي لا تزال تعقد هنا وهناك، من حين إلى آخر، احتجاجاً أو تأييداً أو ابتهاجاً، حتى يكاد يبدو أحياناً وكأنه ليس لدى المصريين إلاّ إقامة تلك المليونيات وتنويعها “وتجميلها”.

   وفي أي حال لا يبدو أن في اتجاه أو مسار كهذا، في ضوء ما شهدته وتشهده مصر، ما يدعو إلى الغرابة، بل على العكس من ذلك، فإنه طبيعي للغاية ويبدو أنه لابد منه، باعتباره مرحلة لابد من الضروري المرور فيها للوصول إلى ما بعدها. فمصر تمر، بصورة لا تترك مجالاً للشك، في مخاض ديمقراطي ليس سهلاً، كما يبدو أنه لن يكون قصيراً أيضا. وليس في هذاً ما يدعو إلى الغرابة. فمصر، ومعها الأقطار العربية كافة، من المحيط إلى الخليج، لم تعرف مرة نظاماً ديمقراطياً أو شبه ديمقراطي حقيقي في تاريخها الحديث. فالأنظمة العربية، الجمهورية أو البرلمانية، جميعها تمارس ما يسمى ديمقراطية بصورة شكلية فقط، بينما السلطة الفعلية في أيدي حاكم مستبد أو ديكتاتور فاشي. أما عن الأنظمة الأخرى، الملكية أو الأميرية، ومدى “شغفها” بالديمقراطية أو ممارستها لها فحَدِّث ولا حرج. ولهذا لابد أن نرى في المستقبل المزيد من الكر والفر على هذا الطريق. وعلى هذه الأرضية تقدم الانتخابات الرئاسية في مصر، بمرحلتيها، نموذجاً لافتاً للنظر، ليس من حيث دلالتها فقط، بل أيضاً من حيث المؤشرات المهمة التي أحرزتها على ساحة النشاط السياسي في مصر وممارسة اللعبة الديمقراطية ضمن أُطر الثورة والتغيير.

الإخوان المسلمون هم الأقلية …

   أسفرت الانتخابات الرئاسية في مصر، في مرحلتها الثانية والأخيرة، عن حصول مرشح الإخوان المسلمين الفائز بها الدكتور محمد مرسي بما مجموعة 13,23 مليون صوت (أي نحو 51,73%) من مجمل الأصوات. ومقابل ذلك حصل المرشح المنافس، الفريق أحمد شفيق، آخر رئيس حكومة في عهد مبارك، والقائد السابق لسلاح الجو المصري، الذي خسر السباق، على 12,35 مليون صوت (أي نحو 48,27%). ولأول وهلة يكاد يبدو أن الإخوان هم الأكثرية في مصر والأقوى نفوذاً بين كافة مكونات هذا البلد. إلاّ أن هذا انطباع خاطئ تماماً، وليس له ما يدعمه على أرض الواقع، بل يبدو أن العكس هو الصحيح. وإذا لم يدرك الإخوان (وغيرهم) ذلك، على مغزاه وأبعاده، فن يكون نصيبهم في المستقبل إلاّ الفشل، ومن ثم الضياع.

   في المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية في مصر، التي كانت نزيهة وديمقراطية بامتياز، بل أن أحداً لم يعترض على نتائجها، كما لم تعقد أية “مليونية” للاحتجاج عليها، شارك 13 مرشحاً، حصل الخمسة الأوائل منهم على ما نسبته 97,7% من الأصوات، بينما كانت النسبة الباقية الضئيلة (2,3%) من نصيب المرشحين الثمانية الآخرين. ومن بين الأصوات الصالحة التي تم الإدلاء بها في تلك المرحلة، وبلغ مجموعها 23,27 مليون صوت، حصل محمد مرسي على النسبة الكبيرة الأولى، إذ حصد 5,74 مليوناً (24,7%)، ليحتل المرتبة الأولى بين المرشحين بناءً على ذلك، يليه أحمد شفيق – 5,50 مليون (23,64%)، ثم حمدين صباحي الناصري – 4,82 مليون (20,70%)، ثم عبد المنعم أبو الفتوح، الإسلامي الوسطي – 4,06 مليون (17,47%)، وأخيراً عمرو موسى، الأمين العام السابق للجامعة العربية ووزير الخارجية لفترة غير قصيرة خلال عهد مبارك – 2,58 مليون (11,12%). واستناداً إلى هذه النتائج، جرت الجولة الثانية والنهائية من انتخابات الرئاسة بين الفائزين الأولين في المرحلة الأولى، مرسي وشفيق.

   من هذه النتائج يظهر بوضوح، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن الإخوان المسلمين، وبعد ما يزيد على 80 سنة من العمل السياسي المتواصل، لم يحظوا إلاً أقل بقليل من ربع الأصوات في مصر، وذلك رغم تبجحهم وجعجعتهم. ولا يشفع لهم، بادعائهم غير ذلك، نتائج الانتخابات لمجلس الشعب، التي جرت في وقت سابق، حيث حصلوا على ما يقارب 47% من المقاعد. فقد اتضح من حكم المحكمة الدستورية العليا في مصر، التي قضت بإلغاء نتائج تلك الانتخابات للمجلس ومن ثم أمرت بحله، بعد أن بان أمامها أن تلك الانتخابات جرت خلافاً للقوانين المرعية، إذ سطت الأحزاب باحتيال على المقاعد المخصصة للأفراد (كما الحال في فلسطين خلال انتخابات 2006)، مزورة بذلك إرادة الناخب، لتنتج مجلساً ذا أكثرية إسلاموية، دون سند لذلك.

   وانطلاقاً من هذا الواقع يبدو جلياً أن فوز مرشح الإخوان في المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بحصوله على أكثرية الأصوات، ليس مؤشراً على قدرة الإخوان ومن لف لفهم على اتساع نفوذهم أو “شغف” أكثرية الشعب بهلوستهم، بقدر ما هو دليل على مستوى عال من النضوج السياسي في الشارع المصري وإشارة إلى أن قطاعات لا باس بها من المصريين راحت تجيد، ولو تدريجياً، اللعبة السياسية. فالجولة الأخيرة من الانتخابات، التي دارت بين مرسي وشفيق، كانت بالنسبة للثوار الحقيقيين والشباب ومن يسعى مخلصاً إلى تغيير أوضاع مصر نحو الأحسن، عبارة عن إمكانية اختيار بين أمرين، أحلاهما مر، إذ أن كلا من المرشحين تشوبه الشوائب، وقد يترتب على وصوله إلى السلطة عواقب، ربما كانت وخيمة. وقد علق أحد المصريين الظرفاء على إمكانية الاختيار بين مرسي وشفيق بقوله أنها شبيهة بالاختيار بين الطاعون والكوليرا، فيما كتبت سيدة مصرية، أثناء عملية الإدلاء بصوتها، على بطاقة الاقتراع، بدلاً من أن تؤشر على اسم مرسي أو شفيق : “لا للفلول (تقصد شفيق، باعتباره من أركان النظام السابق) ولا للدلدول (تقصد مرسي)”، وكانت قد أُوقفت للتحقيق بسبب “تدوينتها” تلك.

   ولهذه المعارضة لكلا من المرشحين الذين خاضا المرحلة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية أسبابها ومبرراتها، وهي واقعية، ملموسة ووجيهة للغاية. فمرشح الإخوان، أياً كان مدى إدعاؤه بالقبول بمبادئ الديمقراطية ورعاية الدولة المدنية، يبقى في نهاية الأمر، غير ملتزم بمبادئ الثورة الشعبية، بل يخضع لـ”قواعد” نكبة اللحية والحجاب والجلباب، التي ليس لدى الإخوان، ومن لف لفهم من الإسلامويين على اختلاف أصنافهم غيرها. وقد ظهر واضحاً بعد سيطرة الإسلامويين على مجلس الشعب،اثر حصولهم مع أبناء عمهم السلفيين، بأساليب ملتوية، على أكثرية مقاعده، أن همهم الرئيسي هو السيطرة والاستحواذ على كافة مراكز السلطة في البلد، دون إعطاء أي وزن لأي رأي مخالف لمواقفهم، أو كثرة أعداد المعرضين وشموليتهم. ومن هنا شكلّوا، مثلاً، لجنة تأسيسية لكتابة دستور جديد لمصر على هواهم، غير آبهين بكافة قطاعات المجتمع المصري الأخرى ومواقفها ومتطلباتها. ولم يتراجعوا عن ذلك إلاً عندما جوبهوا بالمقاطعة من قِبَل الآخرين، واتضح أنهم غير قادرين لوحدهم على انجاز تلك المهمة بما تسوله لهم أنفسهم. أما المرشح الآخر شفيق فإنه لا يقل خطراً عن مرسي، من حيث قدرته، كونه من أركان النظام السابق وعلى صلة عميقة بكافة قطاعاته، على إعادة إنتاج نظام مبارك وبعثه ثانية بحلة جديدة، ولذلك لن تبقى هناك، في وضع كهذا، لا ثورة ولا ثوار، وتعود أوضاع مصر تدريجياً إلى ما كانت عليه أيام مبارك، بعد إجراء بعض عمليات الجراحة التجميلية.

   وفي واقع كهذا يبدو واضحاً، من نتائج الانتخابات، أن الأكثرية فضلت “الدلدول” على “الفلول” واختارت مرسي، باعتباره أهون الشرين، بدلاً من شفيق. وليس هنالك أي شك في ذلك، استناداً إلى إحصائيات ملموسة وواضحة للغاية. فلو افترضنا أن كافة أصحاب الاتجاهات الإسلامية، الذين صوتوا في الجولة الأولى لصالح كل من مرسي وأبو الفتوح، صوتوا جميعاً لصالح مرسي في الجولة الثانية، فإنه لن يحصل على أكثر من 9,82 مليون صوتاً. ولكن الرجل حصل فعلاً على 13,23 مليون صوت، أي بزيادة 3,40 مليون صوت مما حصل عليه في الجولة الأولى المرشحان الإسلاميان. وما من تفسير لذلك إلاّ أن الأصوات هذه جاءت من معسكر المصوتين سابقا لحمدين صباحي وعمرو موسى، الذين حصلا سوية في الجولة الأولى على ما مجموعه 7,41 مليون صوت. وكل أولئك فضلوا مرسي على شفيق، باعتباره أهون الشرين. وباعتقادنا أنهم كانوا على صواب في ذلك. فالرئيس ألإخواني، أياً كانت سيئاته، ولابد أن تكون هناك سيئات، أقل خطراً على مصر من عودة النظام القديم إلى الحكم فيها ثانية.

   والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل سَيُقَّدِر الرئيس ألإخواني هذا الدعم الذي مُنِح له، والذي لولاه لما وصل إلى سدة الرئاسة، وإن كان ذلك قد تم من قبيل مكره أخاك لا بطل، بمعنى أن المصوتين لمرسي، من خارج دائرته، قاموا بذلك على الأرجح نكاية بشفيق وما قد يمثله وليس حباً بمرسي. مما رشح من مواقف مرسي حتى الآن يبدو أن الجواب إيجابي، فالرجل لا يترك مناسبة إلاّ ويقسم أغلظ الإيمان بأنه سيسعى إلى إقامة نظام ديمقراطي مدني، يشرك فيه ممثلين لكافة التيارات الأخرى في مصر، بل أنه حتى يؤكد أن رئيس حكومته لن يكون من الإخوان. واستناداً إلى ممارسات الإخوان “في السلطة” حتى الآن، ونقصد إدارتهم لمجلس الشعب بعد أن حصلوا على الأكثرية من نوابه، قبل أن تقوم المحكمة الدستورية العليا بحله، ومن ثم موقفهم من تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع دستور جديد لمصر ومحاولات استبعاد ممثلي معظم التيارات الأخرى منها، فيما يبدو واضحاً أن الهدف منه كان محاولة الاستئثار بالسلطة والهيمنة على كافة مفاصل الدولة المصرية، يبدو أن التعهدات إلي قطعها الرئيس ألإخواني على نفسه لا تحظى بمصداقية كبيرة. بل أنها قد تكون شبيهة بتوبة ثعلب أمير الشعراء أحمد شوقي، الذي ظهر صباح يوم في ثياب الواعظين، داعياً إلى الزهد في لحوم الطير، بل مقترحاً دعوة الديك لإقامة صلاة الصبح في جمع من الثعالب.

الائتلاف ضرورة

   على الرغم من الدلائل العديدة في سعي الجماعة الحثيث للاستئثار بالسلطة أو الاستحواذ على أكبر قدر منها على الأقل، فإن الواقع لا يساعد الإخوان كثيراً على السير في هذا الاتجاه بل يدفعهم، شاءوا أم أبوا، إلى التعاون مع القوى الأخرى وإقامة التحالفات معها، وإلاّ فإنهم لن يصلوا بعيدا. فهم، ببساطة، لا يستطيعون التصرف على عكس ذلك لانعدام القوة الكافية لديهم على اتخاذ إجراءات أحادية الجانب أو فرضها على الآخرين، ناهيك عن تعميمها على مصر بأكملها. فنتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية أظهرت بوضوح أن الجماعة لا تحظى إلاّ بثقة ما يقل قليلاً عن ربع الناخبين في مصر، رغم كل ما بذلوه من جهود لحشد التأييد، بصورة شرعية أو غير ذلك. وهذه قوة لا تؤهلهم أو تسمح لهم أو تمكنهم من السيطرة على البلد وتطبيق سياساتهم الخاصة بهم، دون اكتراث بالآخرين، خصوصاً في ضوء معارضة القوى الأخرى، وهي قوية ومتنوعة، لهم. ولذلك ليس أمامهم، إن شاءوا الاستمرار بالمشاركة في اللعبة السياسية، إلاّ التحالف مع الآخرين وأخذ مواقفهم بالاعتبار وتقديم التنازلات المترتبة على ذلك. كما لن يستطيعوا تجاهل قطاعات الشعب المصري الأخرى أو تهميشها؛ وإن كانوا قادرين، مثلاً، على حشد مليونية هنا أو أخرى هناك، فإن غيرهم قادر على حشد مليونيتين أو أكثر في الوقت نفسه.

   كذلك يبدو انه ليس للإخوان، ولا لغيرهم أيضاً، القدرة على تجاهل مؤسسات الدولة المصرية والقفز عن ضوابطها أو حدودها، وبالتالي التصرف على هواهم. ففي مصر أجهزة ضبط وربط، قضائية وأمنية، عريقة وفعّالة، لها مكانتها وهيبتها ونشاطها. فعندما اتضح، مثلاً، أن الانتخابات لمجلس الشعب كانت منافية للقانون قضت المحكمة الدستورية، في إجراء قد تكون مصر من الدول النادرة في العالم التي تلجأ إليه، ببطلان تلك الانتخابات وأمرت بحل المجلس. وبدوره قام المجلس العسكري الأعلى على الأثر، باعتباره القائم بحفظ النظام، بعد أن تفككت أجهزة الشرطة ولم تعد قادرة على القيام بمهامها في حفظ الأمن، بفرض طوق من الحراسة على مبنى المجلس ومنع “النوّاب”، الذين فقدوا صفتهم تلك بعد حكم المحكمة، من دخوله، واضعاً في الوقت نفسه الأسس لإجراء انتخابات نيابية جديدة. ولن تستطيع الجماعة التصدي لمثل هذه المؤسسات أو القفز عنها، أو عن ملايين المنتمين للتيارات السياسية الأخرى بسهولة، بل لا يبدو أن ذلك قابلاً للتحقيق. وتجدر الإشارة إلى أن في مصر أيضاً مثقفون ومفكرون وعلماء وأدباء وغيرهم من أهل الفكر، كما لا يوجد في أي بلد عربي. كما أن الطائفية لا تنخر عظام البلد، كما في لبنان قديماً، مثلاً، أو في العراق حديثا. وليس في البلد كذلك قبائل “ديمقراطية” كما في ليبيا، مثلاً أيضاً. وفي كل ذلك ضمانات وضوابط تكفل، على الأقل، استمرار الحد الأدنى من الديمقراطية. ولذلك لا مجال للتخوف من إجراءات تخلف إسلاموية تمنع، مثلاً، البنات من الذهاب إلى المدارس، كما يفعل طالبان في أفغانستان، أو إجبارهن على ارتداء الحجاب اعتباراً من سن الثامنة، كما تقضي إجراءات حماس “التقدمية” في غزة، أو ظهور محاولات لإغلاق المسارح ومنع التمثيل، كما يحلو للبعض أن يفعل في تونس، أو سوق الناس إلى الصلاة بالعصا، كما يفعل الوهابيون في السعودية، إلى آخر أنواع تلك الهلوسة التي تسيطر على العقول والنفسيات المضطربة. وببساطة، لا يمكن العودة بمصر إلى الوراء، أياً كان حاكموها أو أصحاب النفوذ فيها، وكذلك لا يمكن “إخونتها” ولا “سلفنتها” أيضا.

   ومما تقدم، يظهر بوضوح أنه، سواءً كان رئيس مصر إخوانياً أو غير ذلك، ليست هنالك أية قوة سياسية في البلد قادرة لوحدها على حكمه وانتشاله من الهوة التي أسقطه فيها النظام السابق، كائناً ما كان اتجاهها. ولذلك لابد أن يفرض الواقع قيام تحالف حاكم من قوى سياسية مختلفة، حتى وإن كانت متنافرة أو متناحرة فيما بينها، يمكن أن يحكم البلد ويدير شؤونه، ولو بمستوى مقبول، ويحاول جره نحو بر الأمان، من خلال الاتفاق على الحد الأدنى، على الأقل، المقبول لديها جميعا. وبدون ذلك، سيصعب على الثورة في مصر أن تحقق أي من أهدافها أو تجد حلولاً، وإن كانت وسطية، للمشاكل المزمنة التي يعاني منها البلد، وهي كثيرة ومتنوعة، وتكاد تستشري في كل مجال.

مطلوب ثورة شاملة

   يبدو أن المشاكل الإدارية أو الصعوبات المعيشية التي تعاني منها، قد تفاقمت واتسعت بحيث وصلت إلى درجة كادت تسيطر معها على عقول أهل البلد جميعاً، وتمنعهم من تكوين نظرة شاملة أو تشخيص متكامل لكبار الأمور، بقضاياها الأساسية التي تواجههم، والتي لن يكون بالإمكان، في نهاية الأمر، القفز عنها، بل لابد من مواجهتها وعلاجها. ومما يلفت النظر، بل فعلاً يثير الذهول، في هذا الصدد، أن المرء لم يسمع، مثلاً، حتى من كبار المفكرين أو المثقفين، خلال سنة ونصف من عمر ما يسمونه “ثورة” رأياً أو حتى وجهة نظر بشأن السياسات الإقليمية أو العالمية، التي يستحسن بمصر انتهاجها أو التوجه إليها، أو الدور الذي يفترض أن تلعبه أو تصبو إليه في هذه المجالات، على الرغم من أهميتها. فالجميع في مصر، وكما يبدو دون استثناء، منهمك في القضايا الداخلية، بمختلف تشعبانها، بينما القضايا الخارجية موضوعة على الرف أو في الدرج، وذلك على الرغم من كونها أم المشاكل التي تعاني منها مصر، وتعود لبضعة عقود.

   لقد “اجتهد” السادات، بعد أن أصبح رئيساً لمصر إثر وفاة عبد الناصر سنة 1970، محاولاً إيجاد الحلول للمشاكل التي كان البلد يعاني منها آنذاك، فوصل، في نهاية المطاف، وبعد حرب تشرين، على المفاوضات والترتيبات الأمنية المختلفة التي جاءت في أعقابها، إلى ما مفاده أن الحل كامن في عقد الصلح بين مصر وإسرائيل ببركة ومراقبة الإمبرياليين الأميركيين. وعلى هذا الطريق تخلت مصر عن المشرق العربي، بما في ذلك القضية الفلسطينية، بل فعلاً عن العرب بأسرهم، بينما لم يتردد السادات، لتحقيق ذلك، من شتم العرب بأسرهم والسخرية من كل من عارضه، ومن ثم حتى السقوط في مستنقع الفتنة الطائفية بالتحريض على الأقباط داخل مصر. وعُرِضَ هذا الاتجاه وكأنه العصا السحرية القادرة على حل مشاكل مصر وتخفيف همومها. وسار مبارك، بعد السادات، ثلاثة عقود أخرى على هذا النهج، دون أن يُحدِث أي تغيير يُذكر فيه. وكانت النتيجة، في المحصلة، أن أوضاع مصر عامة، بعد تجربة الارتباط بالإمبريالية والارتهان لنزواتها مدة أربع عقود متتالية ليس تحسين أوضاع مصر، بل على العكس من ذلك تفاقم مشاكلها بالذات.

   وكان من المتوقع، في أوضاع كهذه، وبعد أن اُتضح بما لا يدع مجالاً لأي شك، أن انعزال مصر وانطواءها على ذاتها لم يعد عليها إلاّ بأفدح الأضرار، ممن يتحدثون عما يسمونه “ثورة” تشخيص كافة المشاكل التي تجابهها مصر، ليس فقط الداخلية منها، على أهميتها، بل الخارجية أيضاً، والدعوة إلى مواجهتها جميعاً. إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث، بل ظهر أن العكس هو الصحيح.

   فبعد ساعات قليلة فقط، مثلا، من إعلان فوزه بمنصب الرئيس، سارع المرشح ألإخواني إلى إلقاء كلمة مقتضبة للشعب تحدث فيها بسرعة عن مشروع “النهضة” الذي يحلم بتنفيذه، وإن كان أحداً لا يعرف تفاصيله حتى الآن، ثم سارع إلى التأكيد في نهاية كلمته، على أن مصر ستلتزم بالمواثيق والمعاهدات الدولية التي وقّعَتها. والالتزام بالمعاهدات الدولية هو، في أي حال، واحد من أسس النظام العالمي القائم حالياً، ولابد من مراعاته لإرساء قواعد المصداقية والاطمئنان إلى المواقف والمعادلات الدولية، وليس في ذلك أي ضير. إلاّ أنه، في هذه الحالة بالذات، ليس في هذا القول بحد عينه إلاّ كلام حق يراد به باطل أو على الأقل التغطية على الباطل. فمثل هذا التأكيد ليس إلاّ كلمة السر للتدليل على النهج ألإخواني بإعلانهم الالتزام باتفاق الصلح مع إسرائيل ومن ثم التبعية للسياسية الأميركية، المسيطر عليها يهودياً، وذلك على الرغم من أنهم، عندما كانوا في المعارضة، قالوا أن هذا الاتفاق ما قاله مالك في الخمر، ولم يتوقفوا يوماً عن ذمه والتحريض بسببه كسباً للعطف والتأييد.

   ولا ينبغي أن يُفهَم من كلامنا هذا وكأننا ندعو، مثلاً، إلى إلغاء اتفاق السلام مع إسرائيل جملة وتفصيلاً، وفي أول فرصة ممكنة، أو أن يتم ذلك غداً صباحاً. إذا قد يكون لذلك تداعيات لا تستطيع مصر احتمالها حاليا. إلاّ أن ذلك لا يعني أن لا تسعى مصر إلى إعادة النظر في ذلك الاتفاق وتعديل مواد معينة منه، على الأقل، وخصوصاً تلك المجحفة بحقها، وهذا، في أي حال، لا يتطلب “الإشادة” بذلك الاتفاق و”تمجيده” وطمأنة الإمبرياليين والصهيونيين بشأنه، صباح مساء، فيما لا يبدو إلا نوعا من التزلف الممجوج. بل ،على العكس من ذلك، أضعف الإيمان هو السعي إلى تجفيف ذلك الاتفاق والالتزام بأقل قدر ممكن منه. كما ينبغي المثابرة على ذلك إلى أن تتجه إسرائيل إلى تغيير سياساتها وتلتزم بالمواثيق والمعادلات الدولية وتسعى فعلاً لإقرار سلام قائم على العدل في المنطقة.

   وليس في موقف الرئيس ألإخواني هذا، على كل حال، أي جديد. فــ”الجماعة”، أي الإخوان المسلمون، التي ينتمي إليها وقامت بترشيحه لمنصب رئاسة الجمهورية، وما أن لاحت أمامها بوادر الخروج إلى العمل السياسي العلني بعد نشوب الثورة، حتى جعلت من واشنطن كعبتها الجديدة، وراح زعماؤها “يحجون” إلى هناك للتزلف للأميركيين وتقديم آيات الخنوع والتبعية لهم، ليسهل عليهم الوصول إلى الحكم في مصر، تمهيدا لتنفيذ مشروع “النهضة” الخاص بهم، والذي ربما كان مشابهاً لمشروع “البعث”، على نزقه وشعوذته.

   وفي موقفهم هذا لم يشذ الإخوان، على أي حال، عن مناوئيهم – أقرانهم في مصر، ممثلين في بقايا النظام السابق، أي “الفلول” على حد تعبير الإخوان، وكذلك المجلس العسكري الأعلى، قوة النظام والاستقرار الرئيسية في مصر حالياً. فهذا المجلس مرتبط بحبل صرته بالبنتاغون ويعمل على تنفيذ سياساته، بل يبدو شبه تابع له. فالمصريون يستوردون السلاح من أميركا، ويرسلون ضباطهم لدورات التدريب في البنتاغون، بل يقومون أيضاً بإجراء مناورات مشتركة مع الأميركيين في البحر المتوسط والمنطقة. وليس في هذا ما يشير إلى استقلالية من جهة أو إمكانية إتباع سياسات متزنة من جهة أخرى. ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل أننا نسمع أيضاً عن “وفد” كامل متكامل لعدد من الأحزاب المصرية يتجه أيضاً للحج إلى واشنطن لـ”تنسيق” السياسات مع الإمبرياليين سعياً لكسب “بركتهم” ورضاهم، تماماً كما كانوا يشدون الوفود، خلال العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي إلى بريطانيا، ساعين حينها لكسب الاستقلال. والمرء إذ يشاهد مثل هذا التهافت غير المشرف على الإمبرياليين، من قِبَل قطاعات مصرية واسعة ومتنوعة، لا يبقى أمامه إلاّ الاعتقاد بأن المصريين لا يستطيعون العيش دون فرعون يتحكم فيهم ويشرف على شؤونهم، وإن لم يجدوه في داخل بلدهم سارعوا إلى استيراده من خارجها، وهذه المرة من أميركا.

   والواضح أن الإمبرياليين أنفسهم، من ناحيتهم، يبادلون المصريين الشعور نفسه. فمنذ نشبت الثورة في مصر، وكلما زادت المؤشرات وضوحاً على صعود الإسلاميين وإمكانية وصولهم إلى الحكم راحت التسريبات الأميركية عن الاتفاقات والتفاهمات التي توصلوا إليها مع الجماعة من جهة، ثم دعواتهم إلى الالتزام بمسار “الديمقراطية” في مصر، مع علمهم أن السيطرة عليها ستكون إسلاموية من جهة أخرى، تزداد اتساعاً ووضوحا. بل يكاد يبدو من هذا الغزل المتبادل وكأن هناك حلفاً قد عُقِد بين الطرفين، وأنه من الصحيح ما يزعمه البعض من أن أركان هذا الحلف تستند إلى تبني الجماعة وحماية دورها وتسهيل وصولها إلى الحكم فيما تقوم هي، من جابنها، بلعب دور حصان طروادة داخل الحركات الإسلامية المناضلة والشريفة (من ليسوا، مثلا، على غرار طالبان أفغانستان أو حماس غزة)، فتعمل على تدجينها وتعديل مسيرتها، ولو على الأقل لجهة تخفيف عدائها للإمبرياليين ومعارضتها لمشاريعهم.

   وسواءً كان مثل هذا التحليل صحيحاً أو خلاف ذلك، من الواضح أن ذلك لن يعود بنفع كبير على مصر. لقد جرب المصريون التعامل مع الإمبرياليين والاتكال عليهم والارتباط بعجلتهم خلال عقود، وعلى الأقل منذ اتفاقيات كامب ديفيد والصلح مع إسرائيل في أواخر السبعينات المنصرمة وحتى اليوم، ولم يؤد ذلك إلى تحسين يذكر في أوضاع بلدهم ولا إلى حل مشاكلهم. بل أن أوضاع البلد المتردية عموماً ازدادت بؤساً وتفاقماً، ربما على كل صعيد.

   وعلى أرضية واقع ملموس كهذا يبدو جلياً أن المسار الديمقراطي في مصر، على أهميته، لن يكون وحده كافياً لانتشال البلد من الهوة التي سقط فيها؛ كذلك يبدو أنه لن تفيد في ذلك التمنيات والدعوات والابتهالات والسبحانيات. فالإشارة إلى مصر، مثلاً، من قِبَل بعض أبنائها أو ربما كلهم على أنها “المحروسة” والاتكال على ذلك، باعتباره تعويذة تشفى البلد من أمراضه وتلطف من همومه، ليس إلاّ كلاماً فارغاً لا أساس له ولا جدوى منه. إذ لو كان هناك من “يحرس” هذا البلد فعلا لما وصلت أوضاعه إلى ذلك المدى من البؤس القائم حاليا. كما أن التفاخر بأن مصر هي “أم الدنيا” ليس له أيضاً ما يبرره، إذا أن البلد فقد القدرة على كونه حتى أماً لأبنائه، دون الحديث عن الدنيا بأسرها، بدلالة أن نحو ثلث سكانه، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على ثورة1952، لا يزال نحو ثلث سكانه من الأميين، على التخلف والآفات والمشاكل الكامنة في واقع كهذا.

   إن الحل لمشاكل مصر والنهوض بها لا يتوقف على انتهاج المسار الديمقراطي فقط، بل يتطلب، إضافة إلى ذلك، مسارات أخرى استقلالية وثورية، يكون ضمنها فك ارتباط مصر بالعجلة الإمبريالية وإعادتها إلى موقعها الطبيعي، لتعلب دورها المستقل الخاص بها، أولاً عربياً وإسلامياً وإفريقياً، وبعد ذلك عالمياً. والطريق الأمثل لذلك هو الدمج بين المسار الديمقراطي من جهة والمسار الثوري الذي اتبعته ثورة 1952 خلال عهد عبد الناصر من جهة أخرى. وبدون ذلك ستبقى مصر تدور على نفسها، دون هدف أو جدوى – لا لها ولا لغيرها.

   إن تغيير كهذا في اتجاه مصر، وإن كان يبدو ضرورياً وممكناً، لا يظهر أنه قابل للتحقيق بسهولة في ظل “الثورة” التي تشهدها البلد حاليا. فمن غير الواضح، مثلاً، مدى “الديمقراطية” التي ستلتزم بها دولة الجماعة أو حكوماتها، ولا قدرتها على الخروج من شرنقة ضيق الأفق الإسلاموي المتحكم فيها. كما لا يبدو أن “حلفاءها” أو من يشاركونها في حكم مصر وإدارة شؤونها يختلفون عنها كثيراً، على الأقل من منطلقاتهم الأساسية. وباختصار، يبدو أنه ليس هنالك من هو مؤهل للعب دور”البطل” الذي يمكنه إحداث تغييرات ثورية ملموسة في سياسيات البلد، داخلية كانت أم خارجية. فالجمهورية الثانية، على الرغم من أن اتجاهاتها تبدو واعدة في هذا المجال أو ذاك، أو ربما كلها، هي، على الرغم من ذلك كله، باهتة الألوان ووعرة المسالك.

   وفي أوضاع كهذه، يبدو أننا سنضطر إلى الانتظار، ربما فترة غير قصيرة من الزمن، لبزوغ أفق الجمهورية الثالثة.

الأرشيف