الاماكن المقدسة في فلسطين ليست للبيع

الأماكن المقدسة في فلسطين ليست للبيع

صبري جريس

   في خطوة مفاجئة، لم يُعلن عنها مسبقاً، وكما يبدو لم يعرف أحد بها، توجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس يوم 31/3/2013 إلى عمان في الأردن، وهذه المرة بالذات ليس في سيارته بل على متن مروحية أردنية، حيث وقَّع هناك، أيضاً فجأة ودون سابق إنذار، إتفاقية مع الملك الأردني عبدالله، بهدف “الدفاع عن القدس والمقدسات الإسلامية في فلسطين”. وحضر حفل التوقيع نحو دزينة من كبار المسؤولين الأردنيين، ضموا أكبر رموز النظام الأردني، إن على صعيد العائلة المالكة أو الحكومة، فيما حضره عن الجانب الفلسطيني، إضافة إلى عباس، وزير أوقافه محمود الهبّاش فقط. ويبدو واضحاً من حيثيات هذه الحدث أن قرار التوقيع على الإتفاقية، من الجانب الفلسطيني، أُتخذ من قِبَل عباس لوحده، إذ لم يرافقه، عدا عن وزير أوقافه أي من المسؤولين الفلسطينيين؛ فيما أوضح المتحدث بإسمه، نبيل أبو ردينة، بعد التوقيع، أن الإتفاقية ستعرض على اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية للمصادقة عليها؛ وهو ما يمكن أن يُفهم منه أن تلك اللجنة لم تكن على علم بها.

   وعلى الرغم من محاولات تغليف هذه الإتفاقية بلفافات برّاقة، مثل الإدعاء أنها جاءت “للحفاظ” على الأماكن المقدسة، لابد من الإشارة، بمنتهى الوضوح، ودون لف أو دوران، أنها إتفاقية مثيرة للشبهات، خصوصاً في ضوء الدور غير حسن الصيت الذي لعبه الأردن في القضية الفلسطينية منذ نشوئها؛ بل أنها قد تكون مؤشراً على بداية مسار أعوج جديد قد يؤدي إلى تحجيم القضية الفلسطينية برمتها وإتباعها للغير، في محاولة لحلها على حسابهم وحساب أهلها. ومن هذه الناحية تستحق هذه الإتفاقية أن يُقال فيها ما قاله مالك في الخمر.

المغالطات الهاشمية …

   إن نظرة سريعة إلى نصوص هذه الإتفاقية تظهر بوضوح أن واضعها هاشمي المزاج بإمتياز، ومن هنا فإنها لا تخلو من مغالطات هاشمية تقليدية، بل أنها كلها قائمة على مغالطات، فيما اكتفى الطرف الفلسطيني، كما يبدو، بالتوقيع عليها دون اعتراض، من خلال “تقاليده” التنازلية المعروفة. فالإتفاقية، في سطرها الأول، تنطلق من فرضية تبدو كأنها “بديهية”، وُصف بموجبها الملك الأردني عبدالله بأنه “صاحب الوصاية وخادم الأماكن المقدسة في القدس” (وكأنه لا يكفينا، على الوزن نفسه، خادم الحرمين الشريفين الوهابي)؛ وهو ما يقر به الطرف الفلسطيني، دون اعتراض. وعند التدقيق في الإتفاقية يتضح أن هذا اللقب الكبير يستند إلى “بيعة … بموجبها انعقدت [ما تُسمى] الوصاية على الأماكن المقدسة للشريف حسين بن علي، والتي تأكدت بمبايعته في 11 آذار 1924 من قِبَل أهل القدس وفلسطين؛ وقد آلت [هذه] الوصاية على الأماكن المقدسة في القدس إلى جلالة الملك الأردني الحالي”؛ وذلك كله دون أن توضح الإتفاقية كيف تم ذلك. وفي هذا الطرح مغالطات تاريخية وقانونية كبرى؛ إذ حتى لو افترضنا أنه صحيح فقد جاءَت التطورات الدولية لتلغي ما في ذلك من مفعولية، بل وبموافقة الهاشميين الصريحة على ذلك قبل غيرهم. ففي سنة 1925، أي بعد تلك “البيعة” بسنة كاملة أقرت أسس الإنتداب البريطاني على فلسطين نهائياً. وبناءً عليه فُصل إقليم شرق الأردن (المملكة الأردنية حالياً) عن المناطق التي أُفترض أنها مخصصة لإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، بموجب وعد بلفور الذي أدخل نصه إلى صك الإنتداب على فلسطين؛ وأقيمت فيها إمارة شرق الأردن، التي فصلت إدارياً، بصورة كاملة، عن فلسطين. أما في فلسطين نفسها فقد أنشأ الإنتداب المجلس الإسلامي الأعلى، وعين المفتي الحاج أمين الحسيني رئيساً له، وهو الهيئة التي تولت الإشراف الكامل على الأوقاف والمؤسسات الإسلامية في البلد، بينما اختفى الدور الهاشمي في هذا المضمار تماماً، خلال فترة الإنتداب بأكملها. ولم يعد إلى لعب دور في فلسطين، بما في ذلك مقدساتها، إلاّ بعد نهاية حرب 1948 وتوقيع إتفاقيات الهدنة العربية الإسرائيلية لسنتي 1949 و 1950. ولذلك فإن الإدعاء وكأن الدور الهاشمي في “خدمة” الأماكن المقدسة في فلسطين قائم منذ أصبح الهاشميون قوة سياسية خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها ليس صحيحاً ولا يستند إلى وقائع؛ وهو بالتالي مجرد محاولة تضليل.

   كذلك تستند هذه الإتفاقية إلى محاولة تضليل أخرى “حديثة” لا تقل في خطورتها عن المحاولة السابقة، وذلك باستنادها إلى ما تسميه التصريح الصادر عن الحكومة الأردنية بتاريخ 28 حزيران 1994 بخصوص دورها في القدس؛ وهو عملياً ليس إلاّ خطوة إنتهازية وقحة جاءت بمثابة طعنة في ظهر الكيانية الفلسطينية التي راحت تتبلور بعد توقيع إتفاقيات أوسلو. فبموجب تلك الإتفاقيات إعترفت إسرائيل، كما هو معروف، بالشعب الفلسطيني، وبمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً له؛ كما أنها إعترفت أيضاً بالوحدة الإقليمية لمناطق الضفة الغربية، بما في ذلك القدس، وقطاع غزة. غير أنه مع توقيع إتفاق السلم الأردني – الفلسطيني سنة 1994، بعد فترة قصيرة من عودة عرفات إلى غزة (وهو ما يدل على أن ذلك الإتفاق كان “مطبوخاً” منذ فترة طويلة، وينتظر فقط الوقت المناسب لإخراجه) ارتكبت إسرائيل أول مخالفة له، وذلك بمنح الأردن، بموجب إتفاقها معه، دوراً في إدارة الأماكن المقدسة في القدس، وهو ما يخالف، بصورة صارخة، نصاً وروحاً، الإتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين. واعترف شمعون بيريس، الرئيس الإسرائيلي الحالي، بذلك مرة في مقابلة إذاعية معه، وعلى رؤوس الأشهاد. وفي أعقاب التوقيع على ذلك الاتفاق قام الأردن بمحاولة لممارسة “سيادته” على الأماكن المقدسة في القدس، وذلك بتعيين خطيب للمسجد الأقصى من قِبَله. إلاّ أن الرئيس الراحل عرفات أطلق صيحات استنكار ومعارضة، أخافت في حدتها كلٍ من رابين والملك حسين على حدٍ سواء، وأفسدت مخططاتهما. وخلال تلك الحملة أعلن عرفات أنه لن يسمح بأي مس بالسيادة الفلسطينية، من قِبَل أي من إسرائيل أو الأردن، موضحاً أنه سيتصدى لذلك دون هوادة، “شاء من شاء وأبَى من أبَى” على حد تعبيره، موضحاً فيما بعد أن من لا يعجبه ذلك يستطيع “أن يشرب من بحر غزة”. وضحك الكثيرون يومها من هذه العبارة، ولكنهم كانوا سيضحكون أكثر لو علموا أن عرفات، عندما ذكر “بحر غزة”، لم يكن يقصد حرفياً البحر المقابل لغزة، بل عملياً منطقة مجاري الصرف الصحي للعاصمة الأردنية عمان، المعروفة مجازاً بإسم “بحر غزة”.

   أما المغالطة الأخيرة، والكبرى، فتكمن في ماهية هذا الإتفاق و”كيانه” من أساسهما. إن الإدعاء بأن الأردن قادر على “الحفاظ” على الأماكن المقدسة في القدس أكثر من الفلسطينيين أو غيرهم، كلام فارغ ومحض هراء، لا يمت إلى الحقيقة أو الواقع بصلة. فإسرائيل تقوم بما تريد أن تقوم به، في القدس أو غيرها، وفق مصالحها وما تعتقد أنه مفيد لها، غير عابئة بالأردنيين أو الفلسطينيين ولا حتى بالعربان والمسلمين، بما في ذلك الملتحين منهم، بأسرهم. و”الدور” الأردني، إن كان هناك دور، لا يؤخر ولا يقدم كثيراً في هذا الصدد؛ وليس في الإتفاقية، في حقيقة الأمر، ما يسمن أو يغني عن جوع، عدا، ربما، إطعام الأردنيين جوزاً فارغاً. والأمثلة على ذلك كثيرة، إذ أن إسرائيل تقوم بالحفريات، مثلاً، تحت المسجد الأقصى وعلى جوانبه وأحياناً حتى فوقه، وتهدم هنا وتبني هناك، دون أن يستطيع أحد إيقافها، بما في ذلك “الوصي” الأردني. فالحفاظ على الأماكن المقدسة، في القدس أو فلسطين بأسرها يتطلب سياسة أكثر شمولية، وعلى وجه التحديد نشاطاً، من تلك التي ينتهجها حالياً العرب أو المسلمون قاطبة.

  غير أن الأبعاد السيئة لهذه الإتفاقية لا تقف عند هذا الحد، بل قد تكون مؤشراً لما قد يأتي من مشاكل، وربما كوارث، استناداً إلى نهجها، بما يوجب التحذير مسبقاً من مغبتها. وليس من المتوقع، في أي حال، أن يُسمع نقد ملحوظ لهذه الإتفاقية من قِبَل جهات فلسطينية ذات نفوذ، ولو على الأقل بسبب خوف العديد من الفلسطينيين على مصالحهم وسبل معيشتهم نتيجة لارتباط الأوضاع الفلسطينية عموماً بالأردن. فالأردن يشكل الرئة الوحيدة للفلسطينيين القابعين تحت الإحتلال، خصوصاً في الضفة، وليس لغيرهم لحسن الحظ، للتنفس منها؛ ولذلك، إن خطر ذلك على باله، يستطيع منع التحرك من فلسطين إلى خارجها أو العكس. ومن يدخل القائمة السوداء الأردنية ويُمنع من دخول المملكة، نتيجة لمقارعة السياسة الأردنية السامية، سيجد نفسه في وضع حرج، داخل قفص لا يستطيع الخروج منه. كما أنه، من ناحية ثانية ليس في المصلحة في شيء التحريض فلسطينياً على الأردن أو غيره، أو الدخول في مهاترات مع هذا الطرف أو ذاك خصوصاً إذا كان عربياً. إلاّ أن ذلك كله لا ينبغي أن يمنع إطلاق صيحات التحذير أو توخي الحذر أو اتخاذ إجراءات الحيطة من مغبة دور قد يعد للأردن للعبه، ويُجر الفلسطينيون أو يجرون أنفسهم إليه؛ وذلك في ضوء النشاط غير السوي الذي قام به الأردن خلال فترة طويلة في المجال الفلسطيني، ولم يثمر في نهاية المر إلاّ المزيد ثم المزيد من الخيرات للصهيونيين ولمشاريعهم على حساب المصلحة العربية عامة – وهي شكوك ينبغي طرحها علناً والتحذير منها جهاراً.

… والتآمر الأردني

   إن كل مُطلّع على مفاصل القضية الفلسطينية، على الأقل، يدرك أن الهاشميين وكيانهم الأردني، الهزيل والضعيف والفقير منذ إنشائه، لعبوا دوراً تاريخياً تآمرياً بإمتياز في القضية الفلسطينية، جوهره السعي الى تقسيم فلسطين، أرضاً وشعباً، بين الهاشميين الأردنيين والصهيونيين الإسرائيليين؛ وهو دور كان قائماً وفعالاً خلال عقود وساهم، بشكل كبير، في إرساء الوضع الحالي في فلسطين وجوارها. والوقائع والشواهد التاريخية على ذلك أكثر من أن تُحصى.

   لم تمر إلاّ فترة قصيرة على إقرار الانتداب البريطاني على دول المشرق العربي، في منتصف عشرينات القرن الماضي، حتى اتجه الصهيونيون إلى إقامة علاقات حسنة مع جارتهم الشرقية، إمارة شرق الأردن وزعيمها الأمير عبدالله، فقام حاييم وايزمان، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية آنذاك (وأول رئيس لإسرائيل فيما بعد) بزيارتها؛ ثم أقام الصهيونيون علاقات إقتصادية مع أميرها عبدالله، وذلك بواسطة استئجار أراضٍ كان الأمير يملكها في غور الكبد لقاء بدل إيجار محترم كان يُدفع له سنوياً. ولم يستعمل الصهيونيون مرة هذه الأراضي التي أستأجروها ولكنهم ثابروا، رغم ذلك، على دفع بدل إيجارها بانتظام للأمير، كمساهمة منهم في دعم ميزانيته والإبقاء على علاقات طيبة معه؛ وهو ما مهد الطريق لتقديم خدمات جليلة لهم في المستقبل. فخلال النصف الثاني من الثلاثينات، ومع نشوب الثورة العربية الكبرى في فلسطين (1936 – 1939)، طرحت مشاريع سياسية عدة لمجابهة التوتر الذي ساد البلد يومها، إنصب معظمها على مقترحات تقسيمه  إلى جزئين، يقام في الجزء المخصص لليهود منها دولة يهودية فيما تُضَم الأجزاء العربية إلى الأردن. وكان وايزمان، كما يكشف في مذكراته، هو الذي طرح هذه الفكرة على اللجنة الملكية البريطانية، سنة 1938، في إجتماع عقده مع أعضائها سراً في مستوطنة نهلال، الواقعة على الطريق الرئيسي حيفا – الناصرة.

   ولم يُكتب لهذه المشاريع أن تثمر، في أي حال، إذ سرعان ما عاجلتها الحرب العالمية الثانية، فتغيرت الأوضاع بصورة جذرية. ولكن الفكرة لم تفلت من ذهن الأمير (وفيما بعد الملك) عبدالله، الجد الأكبر لعبدالله الحالي، وهو الذي كان يطمح إلى تنفيذ ما سُمي مشروع الهلال الخصيب، وذلك بتوحيد كلٍ من الأردن وسوريا ولبنان وما أمكن من فلسطين في مملكة موحدة بزعامته، تكون على غرار مملكة إبن عمه فيصل في العراق. وكانت السياسة العربية في المشرق تدور، خلال الأربعينات من القرن الماضي، حول هذه الفكرة بين مؤيديها ومعارضيها. ولم ينجح الملك، في أي حال، في تنفيذ سياسته تلك؛ إلى أن سنحت له فرصة مع صدور قرار تقسيم فلسطين سنة 1947 في الأمم المتحدة. وهذه المرة، بعد أن تعلم من التجارب المريرة السابقة مع العرب، خصوصاً في سوريا، قرر الملك القفز عن العرب جميعاً والاتجاه إلى الصهيونيين مباشرة، حيث عقد معهم إتفاقاً من خلال مفاوضات مع غولده مئير (فيما بعد رئيسة حكومة إسرائيل)، خلال زيارات سرية للأردن اجتمعت خلالها مع الملك في مقره في الشونة، إعترف في نهايتها جلالته لليهود بحقهم في إقامة دولتهم على الجزء المخصص لهم في فلسطين وفق قرار التقسيم، فيما تعهد الصهيونيون بدورهم بعدم معارضة الملك في ضم الأجزاء العربية من مملكته إلى الأردن. وكشف عبدالله التل هذه المفاوضات بصورة مسهبة في مذكراته. وقد دارت حرب 1948 عملياً، على ما تخللها من انسحابات وتسليم واستلام مناطق هنا وهناك عل هذا الأساس. ومع نهاية تلك الحرب قام الأردن بضم الضفة الغربية إليه رسمياً، وإن لم تعترف بهذا الضم غير دولتين في العالم، هما بريطانيا والباكستان، بينما رفض الكنيست الإسرائيلي حتى اقتراحاً، قُدِّم يومها من قِبَل حزب مبام الصهيوني اليساري، ببحث إجراءات الضم تلك. وعلى الأثر إتجه جلالته إلى عقد إتفاق صلح رسمي مع إسرائيل، وقطع في هذا المجال شوطاً كبيراً؛ وكان هذا دافعاً لإغتياله سنة 1951، مما أفسد مشاريع الصلح. وعلى الأثر إتجه الأردن بعد ذلك إلى اتباع سياسة التعاون غير المعلنة مع إسرائيل، محققاً بذلك للكيان الصهيوني، من بين ما حققه، وفي سبيل الحفاظ على كيانه، هدوءاً شبه مستمر على أطول حدود لإسرائيل مع الدول العربية.

   وقد سارت السياسة الأردنية في ضم الضفة الغربية وإتباعها بالأردن بصورة هادئة منذ ذلك الوقت، إلى أن وقعت هزيمة 1967 واحتلت إسرائيل الضفة بأكملها مع ما احتله من أراضي الدول العربية الأخرى، وفي هذا الصدد تحضرني ذكريات زيارة سارعت إلى القيام بها للقدس وضواحيها وأماكنها المقدسة، باعتباري من فلسطينيي 48، إثر احتلال المدينة مباشرة سنة 1967؛ وإن لم أشعر، في أي حال، بضرورة تكرار تلك الزيارة مرة أخرى منذ ذلك الوقت. ولقد شاهدت آنذاك بأُم عيني مدى البؤس والتعاسة المسيطران على المدينة نتيجة لسياسة الإهمال الأردنية التي اتبعت تجاهها، بحيث كاد يبدو لي وكأن قريتي النائية، في أعالي الجليل، تكاد تكون أكثر تقدماً منها على صعيد المرافق العامة والخدمات. فالنظام الأردني، الذي يتبجح اليوم بحرصه على “الحفاظ” على الأماكن المقدسة في القدس لم يقم بذلك خلال حكمه للمدينة وجوارها قبل ذلك، إذ كان همه الإهتمام بعاصمته عمان وإعلاء شأنها، في محاولة لتحويلها من مقر بدوي إلى مدينة عصرية. ويبدو، والشيء بالشيء يُذكر، أن هذا هو أيضاً جوهر موقف النظام الوهابي في السعودية، الذي يعمل كثيراً على إعلاء شأن مكة وحرميها وينسى القدس، أولى القبلتين وثاني الحرمين، حتى لا تكون في وضع يمكنها معه أن تنافس مكة.

   ولم تكن، كما يبدو، نتائج حرب 1967 المصيبة الوحيدة التي أحاقت بالأردن آنذاك، إذ سرعان ما راحت تتبلور مصيبة أخرى، تمثلت في عودة العنصر الفلسطيني إلى البروز تدريجياً، إثر نشوء حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة، والتي راحت تنمو بسرعة؛ وهو وضع لم يكن مريحاً، إذا استعملنا عبارة لطيفة، بالنسبة للأردن أو لإسرائيل، بعد تقاسم الأدوار بينهما في إنهاء القضية الفلسطينية وتغييب الفلسطينيين. ومعروف ما حدث، في أعقاب ذلك، من مجازر في أيلول الأسود 1970، ومن ثم طرد كافة الفدائيين الفلسطينيين وتنظيماتهم من الأردن بأسره. وعلى الأثر عاد الأردن إلى التفتيش في دفاتره القديمة لكسب موطئ قدم في فلسطين مجدداً؛ وطرح في هذا الإطار مشروع المملكة المتحدة سنة 1971، وهو ما باء بالفشل في نهاية الأمر.

   ويشاء حظ الأردن العاثر أن يصاب بمصيبة أخرى، كانت ثالثة الأثافي؛ وذلك عندما قررت القمة العربية المنعقدة في الرباط سنة 1974، في ضوء المتغيرات المهمة التي جاءت في أعقاب حرب 1973، الإعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، مما سحب البساط من تحت أرجل الأردن وأبعده، رسمياً وعالمياً، عن قضية فلسطين وأهلها. وقبل ذلك كانت قد صدرت قرارات مماثلة عن القمة الإفريقية وكذلك الأمم المتحدة، وهو ما لم يترك للأردن مجالاً لمناورات جديدة جديرة بالذكر.

   وقد صَوَّت الأردن، في إجتماع القمة العربية المذكور، إلى جانب قرار الإعتراف بالمنظمة ممثلاً للشعب الفلسطيني وأعلن موافقته عليه؛ إلاّ أنه، في حقيقة الأمر، لم يقبله، بل أن سياسته، خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي كانت قائمة على منازعة المنظمة التمثيل الفلسطيني؛ وهو موضوع كان آنذاك مطروحاً بصورة دائمة على أجندة النشاط السياسي الفلسطيني نتيجة للإصرار الأردني على إنتهاج ذلك الطريق. وفي هذا الإطار عقد الملك حسين، سنة 1985، إتفاقاً صريحاً مع شمعون بيريس في لندن، كل هدفه القفز عن الكيانية الفلسطينية وحل القضية بين الأردن وإسرائيل. ولم تقبل حكومة إسرائيل، في أي حال، بهذا الإتفاق، الذي انتهى إلى نسيان – ولا يزال بيريس يندبه منذ ذلك الوقت.

   أما خاتمة المطاف في هذه القصة غير القصيرة فقد جاءت سنة 1988 عندما أعلن الأردن فك ارتباطه بالضفة الغربية، وأتبع ذلك بسلسلة من الإجراءَات العملية لتجسيد سياسته تلك. ولا شك أن الأردن كان، هذه المرة على الأقل، صادقاً في موقفه هذا، الذي فرضته الظروف المستجدة. فقد جاء هذا الموقف بعد الإنتفاضة الأولى سنة 1987، على ما بان خلالها من نشوء أجيال فلسطينية جديدة راحت تقارع الإحتلال بإصرار، رغم الضحايا التي سقطت منها والحصارات التي فرضت عليها. وكان واضحاً، والحال هذه، أن أهل الضفة الغربية باتوا يختلفون عن أولئك في الشرقية؛ وأنهم إن تغلغلوا في المملكة ونشروا مواقفهم فيها وانتقلت العدوى إلى المواطنين الآخرين فلن يكون بإمكان الأردن ولا أجهزة شرطته أو مخابراته السيطرة على الموقف، مما قد يمهد الطريق لتغيير نظام الحكم في البلد، مثلاً. ومن هنا، كان الهرب خير وسيلة للدفاع عن النفس، فترك الأردن الضفة الغربية وتقوقع نظامه على نفسه في الشرقية. وبذلك إنتهت فترة من نصف قرن، بالتمام والكمال، من 1938، عند صدور قرار تقسيم فلسطين البريطاني، وحتى 1988، لم يكن للنظام الهاشمي الأردني خلالها من هم إلاّ “الشغل” بالفلسطينيين ووحدانية تمثيلهم، على الأضرار الكبيرة والجهد المهدور الذي ذهب هباءً جرَّاء ذلك.

التحرير والاستقلال قبل الكونفدرالية

   وبعمله هذا، أي فك الإرتباط بالضفة الغربية وعملياً التوقف عن محاولات إحتواء الفلسطينيين وقضيتهم بدا الأردن وكأنه يعود إلى رشده، وإن نسبياً، وظهرت عليه علامات الراحة من مجهود عبثي بذله طويلاً. وفي مقابل ذلك انتقل العويل والندب، الذي لم يخلو أحياناً من بكاء مر، إلى الجانب الإسرائيلي. فمنذ إحتلالها للضفة سنة 1967، وحتى فك الإرتباط الأردني بها سنة 1988، أي خلال فترة 20 عاماً، تبلور في إسرائيل تيار، بدا أنه راح يتجذر، يدعو إلى إعتماد ما سماه “الحل الأردني” للقضية الفلسطينية، أي الإتجاه إلى حل هذه القضية مع الأردن مباشرة، من خلال القفز فوق الفلسطينيين وممثليهم الرسميين وتجاهلهم. إلاّ أن إسرائيل الصهيونية بالغت، كعادتها، في الإملاءَات التي سعت إلى فرضها على الأردن من خلال حل كهذا؛ إذ أرادت أن تحتفط لنفسها بالسيطرة على الضفة الغربية وأراضيها خصوصاً، لكي تعيث فيها إستيطاناً، بينما إقترحت على الأردن تولي إدارة شؤون السكان الفلسطينيين في المنطقة واعتبارهم مواطنين أردنيين وتحمل أعبائهم، دون مقابل يُذكر. ولم يكن في هذه الإقتراحات ما يغري الأردن، حتى بنظامه وتفكيره السياسي المغلق، على قبولها. ولذلك لم يكن نصيب مثل هذا الحل إلاّ الفشل. ورغم ذلك لا يزال هناك في إسرائيل من يتباكى على مثل هذا الحل ويذرف الدموع الغزيرة بسبب فشله؛ وعلى رأس أولئك الديناصور موشيه آرنس، وزير دفاع إسرائيل الأسبق جداً، الذي لا يتوقف عن نشر المقالات في هذا الصدد، من حين إلى آخر، حيث “يقرع” الأردن ويلومه على التخلي عن هذا المشروع ولا يتوقف عن البكاء عليه.

   غير أنه على الرغم من موت “الحل الأردني” للقضية الفلسطينية إسرائيلياً لا تزال المخاطر الكامنة فيه قائمة، بمعنى أنه يمكن أن يبعث من جديد ويتم تطويره وإخراجه في حلة جديدة، ورسم طرق أخرى لاستيعاب القضية الفلسطينية أو تقنينها من خلال الأردن. وهناك أصوات، وإن كانت لا تزال خافتة جداً، تنادي بذلك مثل الدعوة إلى إقامة كونفدرالية مع الأردن، قبل إستقلال فلسطين. ودعوة كهذه لن تؤدي، في حال الأخذ بها، إلاّ إلى إيجاد “حل أردني” للقضية الفلسطينية بحلة جديدة؛ وهو ما لا يفيد إلاّ الكيان الصهيوني. ومن هنا تبدو إتفاقية “الحماية” مع الأردن نذير شؤم ومقدمة للتفريط والتنازل عن الحقوق الفلسطينية أو المهم منها، لتؤسس لكارثة جديدة قد تقع على رأس هذا الشعب، نتيجة لتخاذل قياداته وضعفها وعجزها، ومعها باقي القيادات العربية، التي لا تختلف عنها كثيراً.

   وفي هذه التوضيحات التي قدمت لتبرير التوقيع على هذه الإتفاقية، على ما تضمنته من منطق أعوج وتفكير سقيم، ما يمكن أن يشير إلى ذلك صراحة. فقد أعلن نبيل أبو ردينة، المتحدث بإسم الرئاسة الفلسطينية، أن الأسباب الموجبة لتوقيع هذه الإتفاقية ناجمة عن رفع مكانة فلسطين في الأمم المتحدة إثر الإعتراف بها دولة، وإن كانت بصفة مراقب، وما “ترتب على ذلك من نتائج إيجابية سياسية وقانونية، وبناءً على ذلك كان لابد من تجديد الرعاية الأردنية للأماكن الإسلامية المقدسة في القدس”. وبلغة أخرى، لم تستطع “القيادة” الفلسطينية تحمل أعباء السيادة الكاملة التي مُنِحت لفلسطين في الأمم المتحدة، ولذلك لم يكن بد من إحداث فرق في هذه السيادة يستطيع القط الأردني المرور منه. وجرياً على المقياس نفسه قد لا يكون هناك مانع، إن دفعت التطورات الصعبة إلى ذلك، من توسيع ذلك الخرق ليصبح بوابة عريضة تصلح لترحيل القضية الفلسطينية برمتها، أو على الأقل، مركباتها الرئيسية، إلى الأردن.

   ولعل من عواقب الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي أوباما مؤخراً إلى المنطقة ما يمكن أن يشير إلى إتجاه كهذا. فالرجل لم يزر إسرائيل وفلسطين فقط، بل قام بعد ذلك بزيارة أخرى إلى الأردن أيضاً. ومن يدري، مثلاً، إن لم يكن أحد مستشاري الملك الهاشمي أو الرئيس الفلسطيني قد قرأ خبراً كتبه صحفي من الدرجة الرابعة في جريدة مهملة تصدر في الأرياف، في هذا البلد أو ذاك، مفاده أن تنسيقاً أردنياً – فلسطينياً قد يساهم في إيجاد حل ما. ولذلك سارع الزعيمان إلى توقيع تلك الإتفاقية كأساس لمستقبل مقبل “ميمون”؟

   من الصعب، من ناحية، إتهام الرئيس محمود عباس بأنه خاضع للضغوط الأميركية أو الإسرائيلية أو يسارع إلى الأخذ بها؛ إذ أن سجل نشاطه العلني يشير إلى عكس ذلك. فقد أدار عباس، مثلاً، معركة شرسة مع هذين الطرفين، عند الاتجاه إلى الإعتراف بفلسطين دولة، استمرت نحو سنتين، قاسى خلالها من إجراءات مؤذية أُتخذت بحقه ووصلت إلى حد فرض حصار مالي على السلطة كاد يشل نشاطها. ولم يأبه بذلك كله واستمر في مساعيه حتى الحصول على الإعتراف المنشود. كما أنه رفض، في أكثر من مرة، “نصائح” أميركية أو إسرائيلية بعدم حضور هذا المؤتمر أو ذاك، من تلك المؤتمرات التي لم يكن الإمبرياليون والصهيونيون راضون عنها، كونها لا تصب في مصلحتهم. ومَثَّل فلسطين في كافة المؤتمرات الدولية التي دعت إلها دون أن يهتم بموقف أحد. إلاّ أن الرجل، ومعه نظامه، توانوا، من ناحية ثانية، في متابعة قضايا مهمة للغاية لمقارعة المحتل الصهيوني، كان الإهتمام بها كفيلاً بتسديد ضربات مؤلمة للإستيطان الصهيوني، وربما تحجيمه. فقد امتنع الرجل وقيادته، مثلاً، عن متابعة الإجراءَات المترتبة على قرار محكمة العدل الدولية باعتبار جدار الفصل العنصري، المقام على حدود الضفة الغربية، غير شرعي. كما أنه أفشل متابعة تقرير غولدستون بشأن ما اقترفته إسرائيل من جرائم الحرب في غزة. كذلك لا يزال يتوانى في إتخاذ الإجراءَات المترتبة على الإعتراف بفلسطين دولة، من حيث تقديم طلبات إنضمامها إلى العديد من المنظمات الدولية إن لم نقل، مؤقتاً على الأقل، الامتناع أيضاً عن الإنضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ وكل ذلك، زعماً، لإبقاء الطريق مفتوحاً أمام “المفاوضات” والإستمرار في إنتهاج طريق “الإعتدال”، حتى وإن بدا أحياناً أنه قد يؤدي إلى الهلاك. وقد يكون توقيعه على تلك الإتفاقية مع الأردن واحداً من تلك النشاطات التي كبا فيها. بل ربما ابتزه الأردن، كما يبتز المواطن الفلسطيني العادي، من حيث حريته في التنقل، وأرغمه على التوقيع.

   إن إتفاقية “الدفاع” عن المقدسات الإسلامية في القدس ليست ضرورية ولا مطلوبة، بل أنها تنم عن إستفزاز سياسي صارخ من حيث تعديها على السيادة الفلسطينية؛ وهو عمل لا يجدر بمسؤول فلسطيني التورط فيه. إن مساهمة الأردن، أو أية دولة عربية أو إسلامية أخرى، في صيانة الأماكن المقدسة في القدس عمل مرحب به، ويستحق المبادرون له الإشادة، ولا الشكر، إذ لا شكر على واجب. إلاّ أن مثل هذه المساهمات لا ينبغي أن تتحول إلى ما يشبه مسمار جحا، بحيث تصبح ذريعة للتدخل في شؤون فلسطين والانتقاص من سيادتها.

   إن في القدس، من الشيوخ والأئمة والفقهاء والعلماء المسلمين والبطاركة والمطارنة والكهنة والقساوسة المسيحيين ما يعم ويطم ويكفي لإدارة الأماكن المقدسة، إسلامية كانت أم مسيحية، وصيانتها على خير وجه؛ وقد قام أولئك بهذا الدور على مر العصور. وإن كان هناك من يريد المساهمة في هذا المضمار فما عليه إلاّ مساعدتهم، دون التدخل في شؤونهم أو فرض الوصاية عليهم؛ فأهل مكة أدرى بشعابها.

   إن قضيه الأماكن المقدسة في القدس، أو أي مكان آخر في فلسطين، ليست قضية دينية فقط، بل أنها اكبر من ذلك، إذ أن أبعادها الأساسية سياسية قومية. ولو تم ايجاد حل ما للقضية الفلسطينية سياسيا لحلت أيضا مسألة “الحفاظ” على الأماكن المقدسة تلقائيا. ولذلك كان الأجدر بهذين الزعيمين، الملك الاردني والرئيس الفلسطيني، بدلا من محاولات التلطي وراء القضايا الدينية والاحتماء بها، وربما محاولة استغلالها جماهيريا، من خلال غوغائية تليق بالاسلامويين العابثين، الاتجاه الى صياغة برنامج عمل سياسي موحد، مثلا، في مواجهة الاحتلال ودعما لتحرير فلسطين واستقلالها. وبرنامج كهذا لن يضع فقط حدا للمخاطر التي تتعرض لها الاماكن المقدسة، بل سيبدد المخاطر التي قد يتعرض لها كلا من البلدين. فاستقلال فلسطين لن يؤدي،في نهاية الامر، إلا إلى استقلال الأردن ومناعته.

   إن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية مدعوة إلى رفض هذه الإتفاقية والإمتناع عن الصادقة عليها، إذ لا حاجة لمنح مخلب القط الأردني موضعاً في الجسم الفلسطيني، بعد أن قاسى هذا الجسم من الترهات الهاشمية طويلاً.

   وإن حدث غير ذلك وتمت المصادقة على الإتفاقية فإن رجال الدين، مسلمين كانوا أم مسيحيين، مدعويين إلى الإمتناع عن التعاون مع الأردن أو وكلائه في هذا الصدد؛ ومن ثم المحافظة على هذه الأماكن لكافة المؤمنين، دون منة من أحد.

الأرشيف