انتخابات الكنيست التاسع عشر (2013) والدوران في الحلقة المفرغة

انتخابات الكنيست التاسع عشر (2013)

والدوران في الدائرة المغلقة

صبري جريس

   جرت  في إسرائيل في 22/1/2013 الانتخابات للكنيست (البرلمان) التاسع عشر؛ وهي، كما يدل اسمها، الانتخابات العامة التاسعة عشرة التي تقوم بها إسرائيل منذ إقامتها. وشاركت في هذه الانتخابات 34 قائمة انتخابية، فازت12منها بمقاعد في الكنسيت الجديد، أما القوائم الباقية فلم تحصل على ما يكفي من الأصوات لتجاوز نسبة الحسم (وهي – منذ 2004 – 2% من مجموع الأصوات الصالحةً).

   وليس في ارتفاع عدد القوائم التي شاركت في الانتخابات ما يدعو إلى الغرابة، في أي حال، إذ تميزت الانتخابات العامة في إسرائيل، دائماً وأبداً، بارتفاع نسبي في عدد القوائم التي تخوضها، والتي يفشل في الانتخابات، عادةً، أكثر من نصفها.

   ولعل السبب الرئيسي لهذا التضخم في عدد القوائم الانتخابية هو انعدام التجانس بين مكونّات سكان إسرائيل اليهود، الذين يمكن النظر إليهم كنوع من “القبائل” اليهودية، التي تختلف كل منها عن الأخرى من حيث الأسس الإثنية أو العرقية أو التيارات والتنظيمات الدينية المختلفة أو المهاجرين القادمين من البلدان ذات الحضارات المختلفة. ولذلك تحاول كل مجموعة إقامة تنظيم سياسي تسعى من خلاله لتحقيق أهدافها والحفاظ على بقائها. وليس في واقع كهذا، في أي حال، إلاّ برهاناً آخر ساطعاً على زيف الإدعاءات الصهيونية بشأن “صهر” المهاجرين اليهود إلى فلسطين في شعب واحد، إسرائيلي يهودي “جديد”، إذ أن الواقع هو عكس ذلك. فليس هناك “شعب” إسرائيلي واحد ومتماسك، بل مجموعات مختلفة من اليهود، لكل منها صفاتها الخاصة بها، التي لا تتطابق أو تتجانس بالضرورة مع طابع المجموعات الأخرى. وكانت زعامة حزب شاس، مثلا، وهو بأكثريته من اليهود الشرقيين، قد هاجمت بشدة، وبلهجة لا تخلو من عنصرية واضحة، أحزاب “الروس والبيض”، إشارة إلى اليهود الغربيين، بعد أن تسربت أنباء تفيد أن وزارة الإسكان، وهي البقرة الحلوب التي يسعى شاس إلى الاحتفاظ بها لنفسه، قد تسلم لممثلي “البيض”.

   أما السبب الآخر لذلك فيعود إلى قوانين الانتخابات العامة في إسرائيل وأنظمتها وإجراءاتها، التي تُعتبر بموجبها إسرائيل بأكملها منطقة انتخابية واحدة، بينما لا يتم التصويت على أساس شخصي بل لقوائم انتخابية تضم أسماء المرشحين. وبعد انتهاء الانتخابات تجمع كافة الأصوات التي حصلت عليها كل قائمة في أي مكان في إسرائيل وتسجل لصالحها؛ ومن يتجاوز نسبة الحسم يشارك في توزيع المقاعد في الكنسيت حسب ما حصل عليه من أصوات. وهذا وضع يغري العديدين، حتى وإن كانوا من القاطنين في أماكن بعيدة عن بعضها البعض، بتجميع قواهم وخوض الانتخابات في قوائم خاصة بهم، علَّ الحظ يبتسم لهم ويحصلوا على تمثيل ما في الكنسيت.

بين اليمين المتطرف وقوى الوسط

   لم تسفر الانتخابات الأخيرة للكنيست عن نتائج تختلف كثيراً، بصورة عامة، عن تلك التي أسفرت عنها نتائج الانتخابات السابقة سنة 2009، من حيث أنه، في كلتا الحالتين، كان، ولا يزال، اليمين الصهيوني بشطريه، المتطرف والوسطي، هو الذي حظي بأكثرية الأصوات، ومن ثم المقاعد، في الكنسيت الجديد، أسوةً بسابقه. إلا أن توزيع المقاعد الجديد، الذي أسفر عن تعادل بين قوى اليمين المتطرف والتكتلات السياسية الأخرى، بعد أن خسر الليكود بيتنا 11 مقعدا، بحيث حصل اليمين على ما مجموعه 61 مقعدا، بينما فازت الكيل الاخرى بـ 59 مقعدا، خلق وضعا سياسيا جديدا باتت معه الأحزاب التي شكلت حكومة اسرائيل السابقة، اليمينية المتطرفة، غير قادرة على الاستمرار في تشكيل حكومة جديدة مماثلة. وبذلك لن يستطيع نتنياهو، نظريا على الأقل، تشكيل حكومة تكون متطرفة كتلك التي عهدناها خلال السنوات الأربع السابقة، إذ لا بد له من التحالف مع حزب اخر، على الأقل، من أحزاب الوسط، وتقديم التنازلات السياسية المترتبة على ذلك.

   وتعتبر نتائج الانتخابات، عموما، نوعا من نزع الثقة بنتنياهو واليمين الإسرائيلي المتطرف وسياساته. فقد تخلت نسبة ملحوظة من الناخبين عن الأحزاب اليمينية واتجهت نحو الوسط. كما أن اليسار الإسرائيلي، ممثلا في حزب ميرتس، قد ضاعف قوته؛ في حين بقيت الأحزاب العربية على حالها، عدة وعددا.

نتائج الانتخابات للكنيست، 2009 2013

الحزب/القائمة

عدد المقاعد

الكنيست الثامن عشر

الكنيست التاسع عشر

(2009)

(2013)

الليكود بيتنا  (1)

(42)

31

يوجد مستقبل

19

حزب العمل

13

15

البيت اليهودي

3

12

شاس (2)

11

11

ميرتس

3

6

الحركة

6

يهود التوراة (3)

5

7

الاتحاد القومي

4

القائمة العربية الموحدة (4)

4

4

الجبهة الديمقراطية (4)

4

4

التجمع الوطني الديمقراطي(4)

3

3

كديماه

28

2

المجموع

120

120

(1) قائمة موحدة لحزبي الليكود وإسرائيل بيتنا، شكلت قبيل انتخابات 2013؛   وكان الليكود قد حصل على 27 مقعدا وإسرائيل بيتنا على 15 مقعدا في انتخابات   2009.
(2) يهود متدينون شرقيون.
(3) يهود متدينون غربيون.
(4) قوائم عربية. وقد شاركت في هذه الانتخابات أيضا   قائمتان عربيتان جديدتان، إلا أن أي منهما لم تتجاوز نسبة الحسم.

   وعند المقارنة بين نتائج الانتخابين الأخيرين تلفت النظر، ظاهرياً على الأقل، مسارات داخلية “جديدة” ضمن منظومة القوى السياسية الإسرائيلية، وإن كانت ذات أبعاد خارجية أيضاً. فقد ازداد اليمين المتطرف ازداد تطرفاً، إن لم يكن في مضمونه فعلى الأقل في شكله، بينما راحت قوى الوسط تبدي “تململاً” من الأوضاع الراهنة و”تحدٍ” لها، فيما بدا وكأنه اتجاهاً للتفتيش عن طريق جديدة، وإن كانت حتى الآن غير واضحة المعالم.

   فمع الإعلان عن حل الكنسيت السابق، في أواخر 2012، استعداداً لبدء المعركة الانتخابية الجديدة، جرت، كالعادة، في بعض الأحزاب الإسرائيلية انتخابات حزبية داخلية لاختيار مرشحي تلك الأحزاب للكنيست. وكان أول من قام بذلك الليكود، ليفاجأ الكثيرون بنتائج غير سارة، أذهلت دوائر عدة في الحزب وخارجه. فقد أسفرت تلك الانتخابات الداخلية عن إقصاء ثلاثة من أبرز “أمراء” الليكود، الموصوفين بالعقلانية و”الاعتدال”، نسبياً بالطبع، عن مواقع النفوذ في الحزب ودفعهم إلى أماكن متأخرة في القائمة، وهولاء هم دان مريدور وميخائيل إيتان وبنيامين بيغين. وبيغين هذا، الذي تم إقصاءَه هو ابن مناحيم بيغين، زعيم حيروت غير المنازع في حينه، الحزب الذي شكّل العمود الفقري لليكود. وبدلاً من أولئك تصدر قائمة الحزب مجموعة من الصبية، يصلحون لأن يكونوا بلطجية سياسة أكثر من وجودهم كمشرعين في برلمان محترم، مثل داني دانون وزئيف الكين وتسيبي حوطوبلي وياريف ليفين، إضافة إلى “حسن الصيت” موشيه فايغلين. وهؤلاء جميعاً معروفين بنزقهم ومواقفهم العنصرية المتطرفة، ومنهم من بادر أو طالب بسن أكثر من قانون عنصري أو مقيد للحريات خلال الكنسيت السابق. وهولاء، عموماً، يتمسكون بمواقف معادية للعرب وللأجانب من المهاجرين غير الشرعيين، الذين وصل معظمهم إلى إسرائيل متسللين من إفريقيا، وكذلك يعارضون وينتقدون … المحكمة العليا الإسرائيلية، على اعتبار أنها تمثل اتجاهات “يسارية” ولا تمتنع حتى عن إصدار أوامر للحكومة بإخلاء مستوطنات عشوائية في الضفة، عندما يتطلب الأمر ذلك. كما أنها لا تتردد، هنا وهناك، في الحفاظ على الحريات العامة والتصدي للعنصرية.

   ولعله من المناسب الإشارة، في هذا الصدد، إلى أن حكومة نتنياهو كانت قد بادرت خلال الكنسيت السابق إلى تعديل القانون لتضمن انتخاب رئيس لتلك المحكمة من بين قضاتها الذين تعتقد أنهم أكثر قدرة من غيرهم على “فهم” سياساتها؛ وهو ما تم فعلاً. إلاّ أن ذلك، كما يبدو، لم يجد نفعاً؛ إذ أن رئيس المحكمة الجديد أصدر، في أكثر من حالة حتى الآن، قرارات لا يرضى اليمين عنها. وخلال معركة الانتخابات الأخيرة، مثلا، قامت المحكمة بإصدار اكثر من قرار انتخابي جاء بمثابة ضربة مؤلمة لليمين. فقد قامت لجنة الانتخابات المركزية للكنيست الجديد، المؤلفة من ممثلي الأحزاب في الكنسيت السابق، وأكثريتهم بالطبع من اليمين، بشطب اسم النائبة العربية حنين زعبي من قائمة “التجمع” وقررت منعها من خوض الانتخابات الأخيرة، لأنها كانت قد انضمت إلى ركاب السفينة التركية مرمرة، التي أبحرت إلى غزة في محاولة لكسر الحصار عليها، مما اعتبره اليمين عملاً “عدائياً” لإسرائيل، وأتبعه بحملة مسعورة من التحريض على تلك النائبة. إلاّ أن المحكمة العليا، بعد النظر في استئناف على هذا القرار، بهيئة موسعة من 9 قضاة، وهي التي تلتئم عادة بثلاثة، قررت بالإجماع إلغاء قرار لجنة الانتخابات المركزية وصادقت على ترشيح زعبي ثانية. وفي مرحلة لاحقة ألغت المحكمة أيضا، وهذه المرة بتشكيلة من 5 قضاة، قرارا اخر للجنة الانتخابات المركزية إياها، بمنع نشر شريط انتخباني دعائي، أنتجته قائمة “التجمع”، وسمحت بنشره. وفي هذا الشريط تظهر صورة ليبرمان وهو ينشد “هاتكفاه”، النشيد الوطني الإسرائيلي، بالعربية، على دقات الدربكة، فيما يقوم 4 من الوجوه اليمينية المعروفة في اسرائيل بالدبكة حوله؛ وذلك … لتقريب النشيد إلى قلوب العرب.

   ويبدو أن نتائج الانتخابات الداخلية في الليكود قد أخافت حتى زعامة الحزب، لما بان خلالها من تشدد وتطرف نحو اليمين، إذ تشير الأنباء إلى أن تلك الزعامة طلبت من الوجوه اليمينية المعروفة الركون إلى الهدوء، خلال الحملة الانتخابية، والنأي بأنفسهم بالذات عن إصدار التصريحات خلالها، حتى لا ينفروا عموم الناخبين. وعلق أحدهم على وضع الليكود، بعد صعود القوى اليمينية شبه الفاشية إلى مواقع الصدارة فيه، بقوله أن ليبرمان، وهو العنصري الفج المعروف، زعيم إسرائيل بيتنا ووزير خارجية إسرائيل خلال السنوات الأربع السابقة. يعتبر الآن قوة معتدلة بالمقارنة مع الوجوه الجديدة في الليكود. وتجدر الإشارة إلى أن الليكود أمتنع أيضاً عن إصدار برنامجه الانتخابي، كالعادة، لهذه الانتخابات لأن ذلك “غير ضروري”، كما أسقط الإشارة إلى خطاب نتنياهو في جامعة بار-إيلان سنة 2009، الذي أعلن فيه موافقته المبدأية على حل الدولتين، لآن هناك “أمورا اكثر إلحاحا” من ذلك، على حد تعبير احد وزراء الليكود.

   وكان حزبا الليكود وإسرائيل بيتنا قد قررا، قبيل معركة الانتخابات الأخيرة، توحيد قواهما في هذه الانتخابات وخوضها في قائمة موحدة تجمعهما الاثنين سوية. وقيل في حينه أن ليبرمان كان يمهد بذلك للسيطرة على الليكود بكامله، بعد غياب نتنياهو، ومن ثم احتلال موقع الزعيم الأكبر في إسرائيل. إلاّ أن هذا التخطيط، إن وُجد، سرعان ما تبخر. فقد قامت النيابة العامة في إسرائيل، إثر تحقيقات دامت فترة طويلة، إلى تقديم لائحة اتهام ضد ليبرمان إلى المحكمة لارتكابه أعمال غش وسوء ائتمان، خلال عمله كوزير للخارجية، مما دفعه إلى الاستقالة الفورية من منصبه. وفي حال إدانة ليبرمان بأي من هذه التهم سيصعب عليه العودة إلى الحكم ثانية. ومما رشح من اتهامات النيابة العامة وما تستند إليه من بينات يبدو أن ليبرمان لن يخرج سالماً من هذه القضية.

   ويبدو أن هذا لا يكفي ليبرمان، إذ أعلن يئير شامير، الرجل الثاني في حزبه، أن على ليبرمان أن يعتزل الحياة السياسية إذا أدين في المحكمة، أياً كان نوع الإدانة؛ فيما فُسِّر وكأن الرجل يسعى إلى وراثة ليبرمان مبكراً. وشامير هذا، الذي يبدو أن منصبه في إسرائيل بيتنا يليق به، هو ابن اسحق شامير، رئيس وزراء إسرائيل أيام مؤتمر مدريد، في مطلع التسعينات، الذي أعلن فيما بعد أن خطط لمد أعمال ذلك المؤتمر لعشر سنوات حتى “ينسى” الفلسطينيون قضيتهم. وجرياً على القول أن الولد سر أبيه يبدو أن شامير الابن لا يبتعد كثيراً في مواقفه عن والده. فقد أعلن مؤخراً، مثلاً، أنه ليست هناك ضرورة لإقامة دولة من أجل مليون فلسطيني، على اعتبار أن عدد الفلسطينيين لا يزيد عن ذلك …

   وما حدث مع الليكود، في انتخاباته الداخلية، أصاب أيضاً تجمعاً صهيونياً يمينياً آخر، لا يقل تطرفاً عن الليكود، إن لم يبزه في هذا المجال، هو حزب البيت اليهودي، الذي يكاد يشبه الليكود في مواقفه، مع فارق واحد وهو أن هذا الحزب ذا طابع ديني واضح المعالم بينما يدعى الليكود “العلمانية”. وحزب البيت اليهودي هو الطبعة الأخيرة من الحزب الديني القومي (المفدال)، ممثل التيار الديني الذي عمل طويلاً في تطويع الديانة اليهودية لخدمة الصهيونية، ومثّل، ولا يزال يمثّل، الصهيونيين المتطرفين “البيض” – مقابل “السمر” الذين تمثلهم شاس – المطالب بـ”أرض-إسرائيل” بكاملها، والذي اعتاد على المشاركة في معظم حكومات إسرائيل، أياً كان رئيسها. ففي هذا الحزب أيضاً جرت انتخابات داخلية، وذلك لأول مرة في تاريخه، أسفرت، هي أيضاً، عن نتائج مشابهة لتلك التي كانت من نصيب الليكود. فقد أقصيت، في هذا الحزب أيضاً، القيادات السابقة “الهادئة” عن مواقع الصدارة في الحزب وحلت محلها مجموعة من الشباب المتدينين والمتطرفين الذين لا يقلون شأناً في هذا المجال عن أقرانهم في الليكود. وقد صعد إلى منصب رئيس هذا الحزب، إثر الانتخابات الداخلية، رجل يدعى نفتالي بينيت، وهو رئيس سابق لمجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، ومستوطن قلباً وقالباً يسكن حالياً في إحدى المستوطنات في الضفة الغربية. والرجل صهيوني متدين كلاسيكي من الطراز القديم، يطالب بـ”أرض – إٍسرائيل” كلها لليهود، استناداً إلى مفاهيمه للتوراة، ويدعو إلى ضم مناطق C من الضفة الغربية لإسرائيل، وإن كان يحبذ أن يتم ذلك تدريجياً، لكي تتجنب إسرائيل المشاكل الدولية التي قد تنجم عن ذلك؛ فيما تُخصص للفلسطينيين مناطق عازلة يسكنون فيها، إذ أنه لا يريد أن “يتدخل” في شؤونهم. وعدا عن أن بينيت يريد ترسيخ القيم الدينية التوراتية، ومن ثم إخضاع السياسة لها، فإنه يدعو أيضا إلى نشر سيرة “وقيم” المدعو مئير هار-تسيون. وهذا الأخير هو واحد من أبرز القادة في الوحدة 101 سيئة الصيت، التي “تخصصت” خلال السنوات الأولى لإقامة إسرائيل، في شن الحملات الانتقامية، بقيادة شارون، ضد العرب عبر الحدود، وخصوصاً في الضفة الغربية. ويصف هار-تسيون هذا، مثلا، في مذكراته كيف اعتادت وحدته، في هجماتها، على قتل أي عربي تصادفه، كما قامت مرة بتلغيم البيوت العربية وتفجيرها على رؤوس القاطنين فيها، بعد أن منعتهم من الخروج منها.

   وقد شهدت معركة الانتخابات الأخيرة من حين إلى آخر، مشادات وهجمات واتهامات متبادلة بين حزبي الليكود والبيت اليهودي، في مساعي كل منهما لجذب أكبر عدد من أصوات الناخبين، من قوى اليمين إليه.

   وفيما كانت صورة إسرائيل اليمينية، المتشددة والمتطرفة، تزداد وضوحا شهدت التيارات السياسية الأخرى، فيما يعرف باسم الوسط الصهيوني، تغييرات خاصة بها. وأبرزها تفكك حزب كديماه، الذي كان شارون قد أسسه. فقد راح هذا الحزب يضمحل تدريجياً، بعد أن أعرض عنه معظم مؤيديه وأكثرهم نفوذاً؛ وقام على أنقاضه حزبان جديدان، هما حزب “الحركة” برئاسة تسيبي ليفني، زعيمة كديماه سابقاً، وحزب “يوجد مستقبل” برئاسة يئير لابيد. وقد تمكن هذان الحزبان من شفط معظم أصوات كديماه سابقاً، الذي حصل على مقعدين فقط مقابل 28 في الكنيست السابق، بينما حصلت “الحركة” على 6 مقاعدً و”يوجد مستقبل” على 19 مقعداً.

   وفي هذا الواقع يبدو أن أية حكومة إسرائيلية، تشكل استنادا إلى توزيع تلك القوى الحزبية، لن تعمر طويلا.

شبح الفلسطينيين يطاردهم

   كان من المفترض أساساً، أن تجري الانتخابات للكنيست الحالي في أواخر سنة 2013 وليس في أولها. إلاّ أنه تم تقديم موعدها بعد أن أوضح رئيس الحكومة نتنياهو أنه لم يعد بالإمكان الاحتفاظ بالحكومة بصيغتها الراهنة لازدياد طلبات الأحزاب الأخرى المشاركة فيها بشأن الميزانيات والمنافع المادية الأخرى، خصوصاً في سنة تسبق الانتخابات. ولذلك لم يكن مناص من حل الكنسيت وإجراء انتخابات سريعة نسبياً، حتى لا تواجه الحكومة طلبات مالية فئوية لا قدرة لميزانية الدولة على تحملها.

   ولا حاجة للتنويه أن هذه المزاعم عذر واه لا يفوت أحد الوقوف على سذاجته. فالميزانيات المضخمة، المخصصة لفئات أو أهداف معينة، يمكن أن تصبح بالمدى نفسه شرطاً للانضمام إلى الحكومة الجديدة، عند الشروع في تشكيلها، وهو ما يحدث في إسرائيل عادة. والحقيقة أن الوضع الذي أدي إلى إجراء انتخابات جديدة مبكرة كامن في أزمة أكبر تعاني منها إسرائيل، وإن كانت تحاول التغطية عليها أو تجاهلها، تتعلق بالضغوط التي تسببها  القضية الفلسطينية لها، داخلياً وخارجياً، اقتصادية كانت أم سياسية، والتي لا تجد طريقة ناجعة للتعاطي معها. وأياً حاولت هذه الجهة الإسرائيلية أو تلك التغاضي عن ذلك يبدو واضحاً، من مجمل تصرفاتها وأدائها، أن قضية فلسطين كانت، ولا تزال، مشكلة إسرائيل الرئيسية، التي لا يزال الإسرائيليون منقسمين على أنفسهم في كيفية التعامل معها من جهة وخوفهم من مضاعفات عدم حلها من جهة أخرى، رغم ما يحاولون إظهاره من تجاهل لها. ويلاحظ أن هذه هي العوامل الرئيسية التي سيطرت على مواقف مختلف الأحزاب ودعايتها الانتخابية، وإن كان معظمها، مرة أخرى، يحاول تجاهل ذلك والتخفيف من حدته، أو يتعاطى معه مواربة أو على استحياء.

   لقد راح الليكود، مثلاً، يشدد في دعايته الانتخابية على ضرورة التصويت له ومنحه المزيد من القوة والمقاعد في الكنسيت، لكي يشكل حكومة “قوية” تستطيع التصدي للضغوط الدولية المتمثلة في المشاريع الهادفة إلى إقامة دولة فلسطينية وبالتالي حرمان اليهود من “حقوقهم” في كافة أراضي فلسطين. ولا يختلف حزب البيت اليهودي عن الليكود كثيراً، في توجهاته هذه، ولكنه يدعو إلى منح أكبر مدى من التأييد له، وليس لغيره، لكي يستطيع الوصول إلى وضع يساعد معه على “الإمساك بمقود” إسرائيل ومنع الليكود من تقديم “تنازلات” إذا تعرضت حكومته للضغوط الدولية والإقليمية.

   والحقيقة أن كلاً من هذين الحزبين، الليكود والبيت اليهودي، يعيشان في دوامة ويحصدان نتائج ما قاما به وارتكباه من أخطاء، عندما اتجها إلى دعم الاستيطان وتقويته، بدون شروط تقريباً، لاستعماله أداة للتوسع والضم، إلى أن انقلب السحر على الساحر. فقد ازدادت قوة المستوطنين السياسية، ومعها نفوذهم، تدريجياً فاتجهوا مع الوقت، لضمان استمرار الدعم لهم والحفاظ على امتيازاتهم الاقتصادية الكبيرة في المناطق المحتلة، بالمقارنة مع ما يحصل عليه سكان إسرائيل في الداخل، إلى التغلغل في داخل تلك الأحزاب، بالانضمام إليها بمجموعاتهم كأعضاء فيها، وبالتالي اكتساب المزيد من القدرة على اختيار زعمائها ونشطاها والتأثير عليهم لصالح الاستيطان وتأمين المزيد من الدعم له؛ وهو ما تم فعلا.

   ولم تتوقف حيل المستوطنين ودسائسهم، للحفاظ على كيانهم ومصالحهم، عند هذا الحد، بل أنهم أمعنوا في محاولات استغلال قواهم خدمة لأهدافهم. ويقول بعض المعلقين الإسرائيليين أن الكتلة الكبيرة من المتسرطنين، وإن كانت قد انضمت بأعداد كبيرة كأعضاء إلى الليكود للتأثير في اختيار مرشحيه، وهو ما تمكنت منه في أي حال، فإنها في الوقت نفسه لم تصوت بأكثريتها لليكود بل البيت اليهودي. وسبب ذلك أن معظمهم لا يثقون بالليكود وزعيمه نتنياهو، ويعتقدون أنهم، إن تعرضوا لضغوط، قد لا يترددوا في “بيع” الاستيطان أو تحجيمه أو التخلي عنه، بينما لا يمكن أن يقوم البيت اليهودي بذلك لمواقفه العقائدية المتشددة؛ ولهذا حصل على أكثرية أصواتهم. ويبدو أن هذا هو ما يفسر ذلك الارتفاع الملحوظ في عدد نواب هذا الحزب من 3 في الكنسيت السابق إلى 12 في الحالي.

   وتدرك القوى السياسية في إسرائيل، بما في ذلك المعتبرة وسطية، هذه الاتجاهات جيداً ومدى الضرر الذي تلحقه بإسرائيل عامة والطبقة المتوسطة فيها خاصة، وذلك من حيث تخصيص موارد كبيرة للاستيطان والمستوطنين على حساب تطوير الداخل الإسرائيلي من جهة ثم الاتجاه إلى إتباع سياسات رأسمالية “حديثة” تدفع نحو تسليم موارد الدولة إلى الاحتكارات وكبار الرأسماليين على حساب المواطن العادي، الذي يضطر إلى تمويل هذه السياسات بدفع نسب عالية من الضرائب من جهة ثانية. إلاّ أن أحداً، على الرغم من ذلك، لا يتحدث صراحة عنها، لكي لا يخسر من شعبيته في جو مشحون بالشوفينية والعنصرية والكره للعرب، ليس الفلسطينيين وحدهم بل المشرق العربي بأسره. ولذلك يتم التعامل مع هذه الوقائع وظواهرها المختلفة بصورة غير مباشرة، ومن خلال اللف والدوران حولها، دون وضع الأصبع بصورة مباشرة على الجرح.

   ففي منتصف 2011، مثلاً، شهدت إسرائيل موجة من الاحتجاجات الشعبية استمرت خلال صيف ذلك العام بأكمله، وشاركت فيها عشرات وأحياناً مئات الآلاف من الإسرائيليين، في مظاهرات ومسيرات عمت معظم المدن الإسرائيلية الكبرى، احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية، المتمثلة في انخفاض معدلات الدخل من جهة وارتفاع الأسعار من جهة أخرى. وكان واضحاً للغاية لكافة قادة تلك الحركات الاحتجاجية والمتحدثين باسمها أن ذلك ناجم عن سياسات خاطئة وملتوية انتهجتها الحكومة الإسرائيلية تمثلت في تقوية الاحتكارات، وحتى تخفيض نسبة الضرائب على رأس المال الكبير، من جهة وتوجيه مبالغ ضخمة لدعم الاحتلال والاستيطان والمستوطنين في الضفة الغربية على حساب رخاء سكان إسرائيل في الداخل وإهمال مصالحهم من جهة أخرى. ولكن رغم ذلك لم يقم أحد ليعلن أن ما يقوم به هو احتجاج على سياسة حكومة إسرائيل، بل اكتفوا جميعاً بالادعاء أن تلك الموجة كانت تعبيراً عن احتجاجات “اجتماعية”، ولم يجرؤ أي منهم على الحديث عن سياسات حكومية خاطئة، فيما بدا وكأنه هلع في التعاطي مع السياسة أو تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية. وكانت النتيجة أن اضمحلت تلك الموجة من الاحتجاجات تدريجياً دون أن تؤدي إلى أية نتيجة إيجابية ملموسة.

   والغريب أن مثل هذه التصرفات تميز حتى مواقف عدد من الأحزاب السياسية الإسرائيلية المعروفة، والتي يفترض أن تتحلى بحمل المسؤولية، وعلى رأسها حزب العمل الذي يعتبر نفسه زعيماً للمعارضة. فقد لوحظ، مثلاً، أن الرئيسة الجديدة لهذا الحزب، شلي يحيموفيتش، تمتنع بإصرار غريب عن إبداء موقف واضح من القضايا السياسية التي تواجهها إسرائيل، خصوصاً في موقفها من الفلسطينيين، فيما تشدد فقط على ما تسميها القضايا “الاجتماعية”. ويبدو واضحاً أنها لا تدرك مدى التناقض في مثل هذه المواقف، أو كيف يمكن لحزب يسعى للوصول إلى السلطة أن يمتنع عن إبداء رأي أو اتخاذ مواقف من القضايا المصيرية التي تواجهها إسرائيل؟ ونتيجة لهذه السياسة وصف، مثلا، الكاتب الإسرائيلي المعروف عاموس عوز يحيموفيتش بأنها أسوأ من باراك، زعيم العمل سابقاً، إذ بينما اعتاد باراك على القول أنه ليس هناك حل مع الفلسطينيين تقول يحيموفيتش أنه ليست هناك مشكلة معهم.

   ويبدو أن هذا أيضاً هو كنه موقف الزعيم “الناشئ” لابيد. فهو أيضاً، يتعامل مع كافة القضايا التي تواجهها إسرائيل، ولا يتردد في اتخاذ مواقف خلافية في هذا الصد، تدفعه أحياناً إلى صدام مباشر مع المتدينين واليمينيين على اختلاف أصنافهم. ولكنه، في  الوقت نفسه، لا ينبس ببنت شفة حول سياسته تجاه الفلسطينيين أو الإستيطان والمستوطنين.

   وفي مقابل ذلك يبدو أن زعيمة الحزب الثالث، فيما يسمى أحزاب الوسط الإسرائيلية، تسيبي ليفني، تشذ عن هذه المواقف، إذ تعلن عن سياسة أخرى خاصة بها، تختلف عن مواقف زميليها الآخرين؛ وإن كانت تطلعاتها صهوينة عنصرية واضحة المعالم. فهذه السيدة تطالب بالوصول إلى حل مع الفلسطينيين ولكن ليس من خلال الاهتمام بهم أو السعي إلى التفاهم معهم، بل خوفاً من أن يؤدي استمرار الوضع الراهن إلى القضاء على طابع إسرائيل كدولة صهيونية ويهودية، إذ يمكن أن تحل محلها، على المدى الطويل، دولة موحدة أو أخرى ثنائية القومية. ولهذا فهي تطالب بـ”الطلاق” من الفلسطينيين والاستغناء عن رؤيتهم؛ ويبدو أن مثل هذا “الطلاق” يشمل أيضاً الفلسطينيين من سكان الداخل في مناطق 48.

   وتجدر الإشارة إلى أن ليفني هذه كانت أول من طالب الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل “دولة قومية للشعب اليهودي”، وهو الشعار الذي أخذه عنها نتنياهو ولا يزال يلوكه في كل مناسبة. وليس غريباً، في أي حال، أن ترفع ليفني هذه الشعارات العنصرية فهي أيضا، عدا عن كونها موظفة سابقة في الموساد، ابنة إيتان ليفني، ضابط العمليات في منظمة اتسل، المعروفة في الأدبيات العربية باسم الارغون، التي برعت في حينه في شن الحملات الإرهابية ضد العرب. ويبدو أنها لا تزال تعيش تحت تأثير شعار تنظيم والدها، التي اعتادت على سماعه وهي صغيرة السن في بيتها: “ضفتان للأردن، هذه لنا وهذه أيضاً”.

   ومجمل القول في أي حال، هو أن إسرائيل، كما يبدو من نتائج الانتخابات الأخيرة، لا تزال تدور في الدوامة والحلقة المفرغة إياها التي دخلتها منذ الانتخابات السابقة سنة 2009، دون أن تأتي الانتخابات  الأخيرة في 2013 بجديد شامل. وإن كان يبدو، ظاهرياً، أن إسرائيل هي سيدة الموقف في تعاملها المتشدد مع الفلسطينيين وقضيتهم فإنها، في حقيقة الأمر أصبحت أسيرة تلك القضية، بل أنها نتيجة لتعاملها الخاطئ معها دخلت في نفق مظلم لا تعرف كيف الخروج منه؛ إذ اتضح أن الفلسطينيين، حتى في ضعفهم، قادرين على إرباكها وكبح جماحها.

   لقد تبجج اليمين الصهيوني طويلاً، وعملياً منذ نشأته وخلال ما يزيد على نصف قرن، بأنه هو الوحيد القادر على التعامل بنجاعة مع الفلسطينيين وقضيتهم وتأمين مصالح اليهود وإسرائيل، ليتضح في النهاية أنه لا يعرف من أين تؤكل الكتف. بل أنه أدخل إسرائيل في وضع إقليمي ودولي حرج يبدو معه وكأنه ليس هناك من يؤيدها في مواقفها على الإطلاق. ولا يبدو أن هذا الواقع قد يتغير، في عهد الكنيست الحالي، لازدياد نفوذ اليمين فيه.

   يضاف إلى ذلك، من ناحية ثانية، حقيقة أن اليمين بات غير قادر، في ضوء تركيبة الكنيست الجديد، على تشكيل اية حكومة متطرفة، كتلك التي حكمت خلال السنوات الأربع الماضية، لأنه لم يعد يتمتع بالأكثرية التي تمكنه بذلك من جهة، ولان هناك قوى وسطية ذات نفوذ لا تستسيغ ذلك، بل تعارضه، من جهة أخرى.

   ومن الواضح أيضا، إضافة إلى ذلك، أن أي حكومة قد تشكل، استنادا إلى نتائج الانتخابات هذه، لن تستطيع، كما يبدو،  الحكم بسهولة أو البقاء في الحكم طويلا، أيا كان تشكيلها، نظرا للتناقضات بين مركباتها. وهذا، بحد ذاته، يخلق وضعا لا يمكن أن يستمر طويلاً، إذ لابد من أن يتغير عند أول مبادرة جدية لحل ما في المنطقة؛ ومثل هذا التغيير لن يكون في صالح اليمين الصهيوني، إن لم نقل أنه قد يؤدي إلى سقوطه أو استبداله بقوى أخرى، لعدم قدرته على فهم الواقع جيداً والتعامل معه بما يستحقه.

   وفي هذا ما يتوجب على الطرف الفلسطيني أخذه بالاعتبار، وربما التخطيط استناداً إليه، عند رسم سياساته المستقبلية.

[ نشرت في مجلة “شؤون فلسطينية” (رام الله)، العدد 251، شتاء 2013 ]
الأرشيف