المسار الدولي هو الامثل

المسار الدولي هو الأمثل

صبري  جريس

     يدور الحديث، منذ فترة، عن خطة سياسية تقضي بالتوجه إلى الأمم المتحدة والطلب من جمعيتها العمومية الاعتراف بفلسطين، ضمن حدود 1967، دولة مستقلة ذات سيادة؛ وذلك إضافة، في الوقت نفسه، إلى العمل على الحصول على مثل هذا الاعتراف من أكبر عدد من الدول، في مختلف أنحاء العالم، كما فعلت حتى الآن مجموعة من دول أميركا اللاتينية.

     ويقيناً أن مثل هذا التوجه، في ظل الأوضاع الدولية والإقليمية، يبدو الأصح والأنجع والأمثل. فالتأييد الدولي للقضية الفلسطينية يكاد يصل إلى ذروته، إن لم يكن قد وصلها فعلاً، إذ ليس هناك ولو دولة واحدة في العالم، على الإطلاق، تؤيد إسرائيل في احتلالها للأراضي الفلسطينية أو تعارض تطلعات الشعب الفلسطيني نحو الاستقلال. بل يكاد يكون هناك شك فيما إذا كانت أية قضية دولية قد حصلت يوماً ما على مثل هذا الدعم والتأييد الذين تحظى بهما اليوم القضية الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، من ناحية أخرى، لم تصل إسرائيل مرة إلى ذلك الحد المزري من التردي الفكري والسياسي الذي يجعلها غير قادرة حتى على معالجة أبسط قضاياها المصيرية. فالكيان الصهيوني يشهد منذ سنوات، لأسباب لا مجال لذكرها هنا، اتجاهاً قوياً نحو التقوقع في ضيق الأفق والانعزال والتطرف، متدحرجاً نحو اليمين شبه الفاشي، بصورة تجعل إسرائيل غير قادرة، ببساطة، على اتخاذ أي قرار مصيري. ويقيناً أن النظام السياسي الإسرائيلي بات غير قادر، لسنوات عديدة قادمة، على إفراز أية قيادة تستطيع التعامل، ولو مبدئياً، مع أبسط متطلبات الحل للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. ويكاد، مثلاً، العجز السياسي، الناجم عن تحركات وتناحرات التكتلين السياسيين الكبيرين في إسرائيل، الليكود وكديماه، لا يختلف كثيراً في تأثيره السلبي على الوضع الإسرائيلي عامة عن ذلك الناجم عن التناقضات بين شيخوخة فتح ومراهقة حماس على الصعيد الفلسطيني.

     يضاف إلى ذلك، على الصعيد الدولي، الدور الآخذ في التراجع، ولو ببطء، للإمبريالية الأميركية على الصعيد العالمي. فمنذ فترة راحت الولايات المتحدة تمر في فترة من التقهقر ناجمة، أساساً، عن تراجع قدرتها الاقتصادية، نتيجة لما تكبدته من مصاريف باهظة في حروبها خلال العقد الأخير من جهة ولنظام اقتصادي قائم على البذخ في الصرف، فوق طاقة الفرد والدولة، من جهة ثانية. وليس سراً أن الولايات المتحدة تستغيث بالدول الصناعية الكبرى في العالم لمساعدتها على إنقاذها من ورطتها الاقتصادية، دون أن تجد آذاناً كثيرة صاغية لتوسلاتها، ولا يتوقع أن تجد كذلك. ولعل أبلغ دليل على بداية الانحدار في القوة الامبريالية الأميركية امتناع الولايات المتحدة عن لعب أي دور قيادي في الحملة المناوؤة لمخبول ليبيا القذافي، ومن ثم تحويل قيادة تلك الحملة إلى الناتو. وتم ذلك كما هو معروف بعد أن أبلغ قادة الجيش الأميركي رئيسهم أن جيشهم بات غير قادر على خوض حرب برية ثالثة وهو لا يزال منهمكاً في حربيه في العراق وأفغانستان. وبلغة أخرى، استطاع طالبان البائس، بمقاتليه الذين ينتعلون الأقفاف، إيقاف الامبريالية الأميركية، ومعها عنجهية الناتو، كل عند حده.

     وليس، بالطبع، في مثل هذا الوضع ما يدعو إلى الشفقة، إن لم يكن العكس هو الصحيح. فالإمبريالية الأميركية لم تلعب يوماً دوراً مفيداً للقضية الفلسطينية، لا ماضياً ولا حاضراً، والرهان عليها كان دائماً وأبداً خاسراً. وليس في ذلك حقيقة ما يدعو إلى الاستغراب. فالولايات المتحدة ليست عملياً إلا ثوراً إمبريالياً مترهلاً، يمتطي اليهود رقبته ممسكين بقرنيه، يوجهونه حسب مصالحهم، ومنطقهم، و”قيمهم”، سواء داخل أميركا أو خارجها.ولا يبدو أن النظام الأميركي قادر على التخلص منهم، ولذلك لا بد من التخلص منه وإيقافه عند حده. إن الولايات المتحدة، عموماً، تكاد لا تتفق مع إسرائيل حول معظم إجراءاتها الاحتلالية، إن لم يكن كلها، من ناحية المبدأ على الأقل. ولكنها عندما تنتقل إلى العمل تتمسك بذلك المنطق اليهودي الداعي على “التفاوض” دون “شروط مسبقة” ودون إجراءات “أحادية الجانب”؛ وهي تعلم أن إسرائيل هي الطرف المحتل والأقوى أي عملياً أنها تقف إلى جانبها، وتدعم فعلاً احتلالها. ولم تنجم عن ذلك أية فائدة للقضية الفلسطينية، بدلالة تلك الجولات الخائبة وغير المعدودة من “المفاوضات”، التي تستمر منذ نحو عقدين من الزمن، دون أن تصل إلى أية نتيجة تذكر. والنتيجة الحتمية الوحيدة التي يصل إليها كل عاقل، في أعقاب هذه التجارب الفاشلة بالاستعانة بالأميركيين، واضحة وبسيطة للغاية: آن الأوان لطي الملف الأميركي والتعامل بصرامة مع أصحابه والتوقف عن الاتكال عليهم.

     وقد يقول قائل أنه، في حالة كهذه، لن تبقى للفلسطينيين وسيلة للضغط على إسرائيل. إلا أن مثل هذا القول هو الخطأ بعينه. فالولايات المتحدة تقيم علاقات وثيقة مع إسرائيل، باعتبارها وكيلة الامبريالية الأميركية في المنطقة، وتمدها بالعون والتأييد والمساعدة، التي كثيراً ما تمكنت بفضلها من العربدة طولا وعرضا. إلا أن الدعم الأميركي وحده غير كاف لتقوية المواقف الإسرائيلية. فالعلاقات مع أوروبا تكاد تكون بالنسبة لإسرائيل مهمة بمدى أهمية تلك القائمة مع أميركا، إن لم تكن في بعض المحالات حتى أكثر أهمية منها. إن واقع إسرائيل الاقتصادي وحتى السياسي والاجتماعي مرتبط بأوروبا أكثر منه بأميركا. ونتيجة لذلك تملك أوروبا تأثيراً على إسرائيل يفوق، في مجالات عدة، ذلك الذي تحظى به أميركا. وفي كل مرة، من تلك المرات القليلة النادرة التي هزت بها أوروبا العصا لإسرائيل، لم تملك الأخيرة إلا الانصياع.

     لقد باتت أوروبا تضيق ذرعاً بإسرائيل وسياساتها ولا تستطيع تحملها، بل أن بعض حكوماتها تكاد تكون فلسطينية التطلعات أكثر من الفلسطينيين أنفسهم. كما أن أوروبا تبدو راغبة في لعب دور مستقل في السياسة الدولية بعيداً عن الولايات المتحدة، وليس بالضرورة من خلال التنسيق معها. ولذلك تبدو المصلحة الفلسطينية واضحة في الالتصاق بأوروبا والتنسيق، بل التحالف معها على حساب الاتكال على الأميركيين أو أخذ مواقفهم بالاعتبار. وتكاد القاعدة نفسها تنطبق أيضاً على روسيا. ولذلك يبدو، في هذا الصدد، أن الموقف الفلسطيني الذي اتخذ مؤخراً برفض الضغوط الأميركية بالامتناع عن عرض مشروع القرار المناهض للاستيطان على مجلس الأمن، رغم معارضة الأميركيين لذلك ومن ثم استخدامهم الفيتو لإفشاله، هو الصواب بعينه. لقد عرى هذا الموقف الرياء الأميركي ووضع الولايات المتحدة في موقف مناقض لكل ما تنادي به زوراً. وينبغي أن يصبح هذا أساس الموقف الفلسطيني العام في المستقبل: الابتعاد تدريجياً عن الإمبريالية الأميركية والسعي حثيثاً إلى تهميش دورها وحشرها في الزاوية، والاتجاه بدلاً من ذلك إلى التعاون مع العالم بأسره، على حساب “التفاوض” مع أميركا وإسرائيل، الذي لا فائدة ترجى منه. لقد آن الأوان لتحرير القضية الفلسطينية من تعليق الأوهام على أميركا وصرعها.

     إن مثل هذا الاتجاه يقضي، بالطبع، بلورة جرأة سياسية ساطعة المعالم، كما يتطلب وضوح رؤية تركزعلى الأهداف الرئيسية المتعلقة بنيل الاستقلال والحرية، وبالتالي وضع القضايا الأخرى، عدا مسألة بناء الدولة، في مواقعها الثانوية التي لا ينبغي أن تتعداها. إن توجيه بوصلة النشاط السياسي الفلسطيني نحو القوى العالمية، من خلال سعي للقفز فوق مواقف أميركا وإسرائيل، لا يمكن أن يمر بسهولة، نظراً للعربدة وإجراءات التهويل والوعيد التي قد يلجأ إليها هذين الطرفين. إلا أن في التأييد العالمي الواسع والكاسح، ومن ضمن ذلك تأييد قوى وتكتلات سياسية لا بأس بها، ما يسهل من هذه العملية ويضمن لها السير نحو النجاح.

     ولضمان نجاح مثل هذا المسار لا بد أيضاً، في هذه المرحلة على الأقل، من الابتعاد عن ترهات السياسات الفلسطينية المحلية وألاعيب بعض هواة العمل السياسي، مثل تعليق التقدم في المجال الدولي على تحقيق ما يسمى الوحدة الوطنية من جهة أو الدعوة إلى انتفاضة ثالثة من جهة أخرى. إن الوحدة الفلسطينية، بالمفهوم الذي يسعى إليه السياسيون التقليديون الفلسطينيون، غير قابلة للتحقيق في مجتمع تعددي كالمجتمع الفلسطيني. لقد أضاعت الحركة الوطنية الفلسطينية، مثلاُ، وقتاً طويلاً، وبذلت جهوداً كبيرة لتحقيق “وحدة وطنية” خلال سبعينات القرن الماضي وبعد ذلك أيضاً دون أي نجاح. ولن يكون النجاح حليفها هذه المرة، لأسباب لا مجال لذكرها هنا. ولهذا ينبغي التحذير من تحويل هذه المسألة إلى ملهاة تقف حجرعثرة في طريق العمل السياسي الجاد في المجال الدولي. كما أن الدعوة إلى انتفاضة أخرى، “شبابية” هذه المرة، ليست إلا ضرباً من العبث، الذي قد يصرف الأنظار والاهتمام نحو قضاياً جانبية لم يحن وقتها بعد.

     إن الأنظار والجهود ينبغي أن تتركز حالياً على الاعتراف العالمي بالدولة الفلسطينية، الذي يؤمل أن يتحقق قبل نهاية هذا العام.

     وبعد ذلك، وعندها، لكل حادث حديث.

نشرت في جريدة “الايام” (رام الله)، 4/4/2011
الأرشيف