قانون القومية الإسرائيلي – هراء صهيوني عنصري، ولكنه خطير

قانون القومية الإسرائيلي – هراء صهيوني عنصري، ولكنه خطير

حول عزل اسرائيل وسياساتها عربيا ودوليا

صبري جريس

أقر كنيست (برلمان) اسرائيل، في 19/7/2018، وذلك قبل أيام قليلة من خروجه لعطلته الصيفية، ما عُرف باسم قانون القومية الإسرائيلي، أو باسمه الرسمي، “قانون أساس: اسرائيل – الدولة القومية للشعب اليهودي”، وذلك باكثرية 62 صوتا ضد 55 (من مجموع 120). وبصفته “أساسيا” يُفترض أن يصبح هذا القانون جزءا من دستور اسرائيل، إن تم إقراره يوما.‏‏

اثأر هذا القانون، فور إقراره، موجة من المعارضة الشديدة له، داخل اسرائيل قبل غيرها، كونه يتطرق لمعالجة قضايا خلافية شائكة ليس هناك إجماع صهيوني حولها، وذلك من خلال عقلية عنصرية عرقية ضيقة الأفق، لا تقبل بها تيارات صهيونية لها وزنها، ليس فقط لمجافاته ابسط الأعراف الدولية الديمقراطية والليبرالية، بل تحسبا أيضا من انتشار وباء الفاشية اليمينية الصهيونية ليشمل كل من لا يتماهى معها من المعارضة، الصهيونية أيضا. ولا يبدو أن تلك المعارضة، التي تضم يهودا وعربا، ستهدأ قريبا. وفي أعقاب إقرار ذلك القانون أقيمت، حتى الآن، مظاهرتان كبيرتان ضده، شارك فيهما عشرات الآلاف من اليهود والعرب، من دوي الاتجاهات السياسية المختلفة.‏

قانون القومية هذا، في أساسه، ليس إلا محاولة سخيفة، من قبل غلاة الصهيونيين اليمينيين، العنصريين والمتعصبين، لـ”شرعنة” أساطير يهودية قديمة، تتعارض حتى مع ابسط مكونات الديانة اليهودية من جهة ومحاولة لـ”تثبيت” مفاهيم عنصرية، بوقاحة وعلنا على رؤوس الأشهاد، خلافا لكل الأعراف والمواثيق الدولية من جهة أخرى. ‏

المغالطات في هذا “القانون” تبدأ من اسمه، الذي يعلن اسرائيل “الدولة القومية للشعب اليهودي”، وهو، في أساسه، ليس إلا قولا على قول، ومحاولة صهيونية فارغة لتشبيه اليهود وإسرائيل بالدول القومية التي تبلورت ونشأت في أوروبا، خلال القرون الثلاثة الأخيرة، نتيجة لتطور تاريخي مستمر استغرق قرونا طويلة، ولم يكن لليهود أو للصهيونيين تحديدا علاقة تُذكر به. كما أن الادعاء بأن “ارض اسرائيل”، وهو مصطلح يشمل فلسطين الانتدابية بأسرها مع الجزء المأهول من الأردن وأجزاء من جنوب كل من سوريا ولبنان وشمال سيناء، هي “الوطن التاريخي للشعب اليهودي”، يتعارض بشكل صارخ حتى مع ابسط أسس الديانة اليهودية وتاريخ اليهود في العالم بأسره. فوفقا للتوراة بالذات، دون غيرها، جاء إبراهيم إلى فلسطين من اور (العراق)، إما اليهود فقد نشأوا في مصر ومن هناك هاجروا شمالا نحو ارض كنعان/فلسطين، ووصلوها بعد أن تاهوا 40 سنة في صحراء سيناء، حيث احتلوا أجزاء منها، وأقاموا فيها ممالك/قبائل، ثم جاء غيرهم واحتلها وطردهم منها. ومنذ نجو إلفي سنة واليهود مشتتون، كطوائف دينية في كافة بقاع الأرض. والادعاء أنهم قومية وشعب متماسكين، لهم تاريخ مشترك طويل ليس إلا بدعة صهيونية، تم ترويجها من قبل الصهيونيين جميعا وكذلك كافة الدوائر الامبريالية الطامعة في السيطرة على المشرق العربي.‏

بعد هذه المقدمة “التاريخية” الخاطئة والمظللة يترك ذلك “القانون” ما يسميه أرص اسرائيل، وينتقل إلى “دولة اسرائيل”، وهو مصطلح يضم حصرا، وفق المعايير الصهيونية والإسرائيلية، اسرائيل ضمن حدود 1967 بالذات.‏

“الأقربون أولى بالمعروف”

يتجنب قانون القومية الإسرائيلي، رغم تطرقه إلى “ارض اسرائيل”، وبصورة واضحة للغاية، أية إشارة إلى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي برمته، أو الحلول المطروحة له، مثل حل “الدولتين لشعبين” أو اتفاقيات اوسلو أو غيرها، ويقصر “منافعه” على اسرائيل وسكانها حصرا دون غيرهم. وبلغة أخرى، هذا “القانون” موجه، أساسا وحصرا، ضد الأقلية العربية الفلسطينية التي بقيت في اسرائيل منذ إقامتها، وهم من يُعرفون باسم “فلسطينيي الداخل” أو “عرب 48” (وانأ واحد منهم، تواجدت قبل أن توجد دولة اسرائيل العتيدة)، وذلك على اعتبار أن الأقربين أولى بالمعروف.‏

و”عرب 48″ هم تلك القلة من الفلسطينيين، الذين بقوا في ديارهم، بعد انتهاء حرب 1948 بين العرب واليهود في فلسطين، في المناطق التي احتلها اليهود وأقاموا اسرائيل عليها. وقُدّر عدد هؤلاء وقتها بنحو 170 إلفا، راح يزداد بصورة طبيعية حتى وصل اليوم إلى نحو مليون و800 إلف نسمة. ويُفترض أن يصل عددهم، خلال سنتين أو ثلاثة، وربما اكثر أو اقل، إلى نحو مليونين اثنين، أي ما يعادل خمس سكان اسرائيل. وكل أولئك يعتبرون رسميا في اسرائيل مواطنين إسرائيليين، يحملون جنسية وجوازات سفر إسرائيلية ويشاركون في الانتخابات العامة للكنيست، ولهم، في مدنهم وبلداتهم وقراهم، بلدياتهم أو مجالسهم المحلية الخاصة بهم.‏

قانون القومية هذا عجيب غريب، يبدو متناقضا مع كل ما سبقه من تشريعات، بل يكاد يتناقض حتى مع نفسه. فقد ضم فقط، بناء على تصريحات رسمية وعلنية للمشرفين على صياغته، ما أمكن الاتفاق عليه بين مكونات الائتلاف الحاكم في اسرائيل، من أحزاب ذات اتجاهات سياسية أو عقائدية أو دينية مختلفة ومتناقضة. واوا ما يلفت النظر فيه هو خلوه، رغم المطالبة بذلك، من كلمتي “الديمقراطية” و”المساواة”، وذلك كي لا تستطيع المحاكم الإسرائيلية منح العرب حقوقا كاملة أن اشتكوا من التمييز ضدهم (!). وبتعليماته هذه سحب القانون البساط من تحت أرجل الصهيونيين “المستنيرين” وافسد عليهم حججهم بوصف اسرائيلهم “دولة يهودية ديمقراطية”، لتبقى يهودية خالصة المعالم فقط، وكل من فيها من غير اليهود يحظى بحقوق اقل من تلك الممنوحة لليهود، ليؤسس بذلك لنظام عنصري واصح المعالم، لا لبس حوله.‏

ومن هذه الارضية ينطلق ذلك القانون ليعلن أن “حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصري للشعب اليهودي”، وهو ما يكاد يشبه سذاجة دون كيشوت الذي استل سيفه وهجم على طواحين الهواء لاعتقاده أنها فرسان تشهر سيوفها تحديا له. فمنذ قيام اسرائيل قبل 70 ستة وحتى اليوم لم تظهر فيها قوة أو مجموعة عربية معتبرة طالبت بحق تقرير المصير للعرب داخلها، بل أن كافة الطلبات العربية تركز على الدعوات إلى المساواة والديمقراطية والعدالة، أو “دولة كل مواطنيها”، كما يحلو لبعضهم القول. وان كان هناك من دعوات لحلول سياسية فإنها لا تبتعد كثيرا عن السياسة الفلسطينية العامة ودعواتها لحل القضية الفلسطينية ضمن الأطر الدولية والإقليمية. وإضافة إلى ذلك كله ليست هناك، استنادا إلى الواقع الجغرافي السكاني، إمكانية تذكر لممارسة حق تقرير المصير للفلسطينيين العرب داخل اسرائيل، على افتراض انه مطروح أساسا.‏

وان كانت هذه الثرثرة حول حق تقرير المصير ليست، على ارض الواقع، إلا نوعا من التحشيش الفكري الصهيوني، فان باقي بنود الفانون عنصرية فاقعة الألوان ومؤذية للغاية. فهو ينص، من بين ما يحتوي عليه، على مادة تقضي بان اسرائيل تعتبر “تطوير الاستيطان اليهودي قيمة قومية، وتعمل لأجل تشجيعه ودعم إقامته وتثبيته”. ويتم ذلك، بالطبع، لمصلحة اليهود دون العرب، التي تكاد العديد من مدنهم وقراهم “تتفجر” من الكثافة السكانية العالية التي تعاني منها، اثر زيادة عدد سكانها من جهة مقابل التضييق عليها وتجميد مسطحاتها من جهة أخرى. وهذه السياسة قائمة عمليا منذ إنشاء اسرائيل، إلا أنها تتخذ من الآن فصاعدا صفة “رسمية” أيضا.‏

ولا يخلو ذلك القانون الأخرق حتى من محاولات صبيانية للمس بمكانة اللغة العربية والتقليل من شأنها، بل ربما جعلها حتى مجرد لهجة منبوذة في اسرائيل، ليس من المحبذ التحدث بها أو استعمالها في الحياة العامة. والعربية، إضافة إلى الانكليزية والعبرية، كانت قد أُعلنت لغات رسمية في فلسطين مع تثبيت الانتداب البريطاني على البلد خلال عشرينات القرن الماضي. وبعيد إقامة اسرائيل سنة 1948 ألغيت تلك التعليمات التي منحت الانكليزية مكانة مفضلة في البلد، فيما بقيت العبرية والعربية لغتين رسميتين لا أفضلية لأي منهما على الأخرى، عدا عن كون العبرية لغة الأكثرية. ولكن للمس بالعرب ومحاولات اضطهادهم وتحقيرهم والتضييق عليهم كان لا بد للعنصريين الصهيونيين من محاولة “زعزعة” مكانة العربية والمس بوضعها “الرسمي”. ولذلك نص القانون في مادته الرابعة على “إن العبرية هي لغة الدولة”، وعلى أن يحدد وضع العربية وطرق استعمالها في مؤسسات الدولة في قانون خاص يصدر لهذا الغرض. وحتى يصدر مثل ذلك القانون مستقبلا، إن صدر، ليس في قانون القومية ما يمكن تفسيره على انه مس بمكانة اللغة العربية كما كان قائما قبل صدور قانون القومية. وعلى رأي المثل: “مطرح ما عملها شنقوه”، أي أن مكانة العربية كلغة رسمية بقيت على حالها، رغم كل تلك الفذلكة. ‏

تجارة الكراهية بضاعة رائجة في اسرائيل

المطّلع على أوضاع اسرائيل، بسياساتها وممارساتها وقوانينها المختلفة، لا يستطيع إلا أن يستغرب، بل حقا يستهجن صدور مثل هذا القانون في هذا الوقت بالذات، إذ لبست له حاجة أساسا؟ ففي اسرائيل، ما شاء الله، ومنذ إقامتها قوانين كثيرة ومتنوعة عنصرية الطابع معدة للتمييز ضد سكانها – وان شئتم “مواطنيها” – العرب، واستعملت ولا تزال تستعمل ضدهم. ولذلك، منطقيا على الأقل، لم تكن هناك حاجة لسن مثل هذا القانون أساسا، الذي لم يضف شيئا إلى شبكة/ نظام التمييز القائم حاليا. وببساطة، ومرة أخرى لم يضف أية أصناف تمييز أخرى، عدا عن تلك المحاولة البائسة السخيفة، والفاشلة، للمس بمكانة اللغة العربية و”تخفيض” قيمتها. إلا انه في مقابل ذلك دمغ الكيان الإسرائيلي الصهيوني رسميا، في إطار “من فمك أدينك يا اسرائيل”، بعنصرية مقيتة، وجعل منها دولة ابارتهايد واضحة المعالم، منهيا بذلك أكذوبة “واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”، التي كثيرا ما تغنى الصهيونيون ومناصريهم في كافة إنحاء العالم بها، زورا وبهتانا. ‏

ليس هناك عاقلا، خصوصا إذا كان مسؤولا سياسيا معروفا، يقدم علة مثل هذه الخطوة؛ بل أن مجرد تبنيها، من ناحية ثانية، لا يدل إلا على انه لم يبق هناك عاقل في النظام الحاكم في اسرائيل حاليا، خصوصا بعد أن سيطرت على اليمين الأرعن المتحكم في مقدراتها عقلية الاستعمار والاحتلال والهيمنة والاستعلاء واحتقار الغير. ويزداد الأمر غرابة إذا علمنا أن هذا القانون أقر في هذا الوقت بالذات لغايات حزبية انتخابية أساسا.‏

قُدمت النسخة الأولى من مشروع “فانون” القومية هذا سنة 2011 من فبل النائب عن الليكود آفي ديختر، كمشروع فانون خاص، مقدم من قبله شخصيا، دون أية علاقة لأي حزب أو كتلة سياسية به. واثأر ذلك المشروع، في حينه، لغطا سياسيا، ومعارضة واسعة أيضا للتعليمات العنصرية واضحة المعالم التي تضمنها، والتي أدت، إضافة إلى الأوضاع السياسية الداخلية التي لم تكن مواتية آنذاك، إلى إهماله ووضعه على الرف. إلا أن قوى اليمين الصهيوني التي سكتت على ذلك لفترة ما عاودت التجربة بعد 3 سنوات، في 2014، حيث قُدمت نسخة جديدة من قبل النائب الليكودي الكين لتظهر بعدها بفترة قصيرة نسخة مضادة من قبل النائبة عن حزب “البيت اليهودي” شاكيد، مما دفع نتنياهو نفسه الى الادلاء بدلوه وتقديم “مخطط” خاص به. ومرة اخري نشبت الخلافات حول هذا القانون، مما ادى الى عدم اتخاد أي اجراء بشأنه لمدة 3 سنوات اخرى، عندما عاد ديختر، صاحب المشروع الأصلي إلى تقديم نسخة معدلة من مشروعه، لتقوم نائبة أخرى عن الليكود، ها موعلم، بتقديم نسخة خاصة بها أيضا. ‏

وخلال فترة السنوات السبع، التي كان فيها مشروع القانون ذلك مطروحا للنقاش لوحظ أن نتنياهو توخى الحذر عموما في التعاطي معه وعمل على تأجيل البت فيه اكثر من مرة، إلى أن أعلن فجأة، قبيل فترة قصيرة من إقراره انه ينبغي القيام بلك خلال أسبوع، وهو ما تم فعلا. وعند التمحيص اتضح، على ما في ذلك بحد ذاته من كشف عورات النظام الإسرائيلي، أن تلك الطريقة المفاجئة والسريعة لإقرار القانون لم تكن ضرورية إلا لكي يستطيع بنيامين نتنياهو، زعيم الليكود، استعماله ضد نفتالي بينيت، زعيم “البيت اليهودي”، المتحالف / المنافس الليكود، في الانتخابات الإسرائيلية العامة القادمة، التي راحت بوادرها تلوح في الأفق، في إطار التنافس على الأصوات اليمينية.‏

والتنافس على تلك الأصوات، في الواقع السياسي الراهن في اسرائيل، على أرضية ما يشبه التعادل بين القوى السياسية مختلفة الاتجاهات والتيارات، هي مسألة واقعية وملحة، لها إبعادها العملية الواضحة للغاية، التي يمكن أن تؤدي، مثلا، إلى انتقال الحكم من فريق إلى آخر. ويكفي أن نشير، في هذا الصدد، إلى أن ائتلاف نتنياهو يحكم اسرائيل حاليا بأكثرية صوتين اثنين فقط في الكنيست (62 من 120). ولذلك فان أي تغيير في ميزان القوى، وهو أمر ليس من المستبعد حدوثه، بفوز هذا المعسكر أو ذاك بأكثرية 3 أو 4 مقاعد فقط في الكنيست، مثلا، زيادة على الفريق الآخر، لكي ينتقل الحكم إليه. ومن هنا الشراسة في التنافس حول كسب المزيد من أصوات الناخبين، أيا كانت المبررات لذلك، وحتى العنصرية منها، إذ أن الغاية تبرر الواسطة.‏

وعلى أرضية تفشي العنصرية والتعصب، والاتجاه المتزايد نحو اليمين، تتسع أيضا تجارة الكراهية وتوجيه العنصرية والغضب نحو العرب، وهو ما عُمل به اكثر من مرة في اسرائيل، خصوصا خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ليعود بنتائج “حميدة” على ممارسيه. ‏

فبعد الهجرة اليهودية الواسعة إلى اسرائيل من روسيا، مثلا، إثر انهيار الاتحاد السوفييتي ، في تسعينات القرن الماضي، ارتأى، مثلا، المولدوفي المافياوي ليبرمان إقامة حزب جديد، هو “اسرائيل بيتنا”، يعتمد أساسا على تأييد أولئك المهاجرين، وذلك من خلال دعاية عنصرية تقوم على العداء للعرب، علنا وعلى رؤوس الأشهاد، وكان له ما أراد، بل أن حزبه أصبح قوة سياسية تشارك في حكومات اسرائيل. و”القاعدة” نفسها تنطبق على حزب “البيت اليهودي”، بزعامة الأصولي بينيت، الذي لا هم له إلا منافسة الليكود وفي عالم التطرف بالذات، ومن خلال التحريض العرقي ضد العرب طبعا.‏

الاعتراف بحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره

وبحقوق أقلية قومية للعرب في اسرائيل

الظواهر العنصرية، على اختلاف أنواعها، الآخذة في التفشي في اسرائيل، وتتسع يوما بعد آخر، ليست إلا رأس جبل جليد، يكبر يوما بعد آخر ويهدد بتدمير كل ما يصادفه في طريقه، إن لم يصار إلى احتوائه وصده. ونفسية الاستعلاء على الغير والسعي الدؤوب إلى احتوائه، ومن ثم تهميشه أو حتى إلغاءه، الموجهة أساسا ضد العرب، وان كانت لا تستثني أبضا غيرهم من الأجانب، ناجمة عموما عن تنامي وانتشار الفكر الأصولي الديني اليهودي، بما لا يبعد كثيرا عن مفاهيم الاخونة أو الدعوشة، وان كانت هذه المرة يهودية. وهذه كلها تيارات تسعى إلى “إلغاء” الشعب الفلسطيني وتهميشه أولا، على طريق إقامة مملكة اسرائيل الثالثة، لتصبح في نهاية المطاف “إمبراطورية” تفرض هيمنتها على دول الجوار العربية على الأقل. وليس هذا مما يمكن التعامل معه بهدوء أو التغاضي عنه نظرا لمخاطره الكبيرة.‏

لعل أوضح مثال على تنامي تلك التيارات المتعصبة بين قطاعات واسعة في اسرائيل، واتجاهها تدريجيا نحو الفاشية، كامن في “تاريخ” قانون القومية الإسرائيلي، على المراحل المختلفة التي مر بها، وان لا يجوز أيضا التغاضي عن القوانين الإسرائيلية العنصرية الأخرى. فهذا “القانون” طُرح في أساسه، كما اشرنا، من قبل النائب عن الليكود آفي ديختر سنة 2011. وديختر هذا شغل أيام الانتفاضة الثانية منصب رئيس الشاباك، جهاز الأمن العام في اسرائيل، وبصفته تلك اشرف عل عمليات اغتيال عشرات النشطاء الفلسطينيين خلال تلك الانتفاضة، علنا ودون رادع، لدرجة دفعت احد التواب العرب في الكنيست إلى وصفه خلال النقاش حول قانون القومية، وبحضوره، بأنه “قاتل” تسبب في موت عشرات، وربما مئات الفلسطينيين، دون مبرر. ولم يعلق ديختر على هذا الاتهام، بل يبدو انه حتى لا ينكره ولو ضمنا. فخلال اجتماعات ومداولات أعضاء الليكود، في اجتماع عام عُقد لاختيار مرشحيه للكنيست، قبيل إجراء الانتخابات العامة في اسرائيل، كان الرجل يدور بين المجتمعين متفاخرا بوصف نفسه بأنه “بطل التصفيات” (آلوف هاحيسوليم)، إشارة إلى من أوعز باغتيالهم خلال الانتفاضة الثانية، لكسب ما يكفي من الأصوات الليكودية لضمه إلى قائمة مرشحي الحزب للكنيست، وهو ما ذكره اكثر من مصدر إعلامي إسرائيلي. بل يمكن القول أن الرجل، بحكم منصبه، كان أيضا واحدا من تلك الشلة من المسؤولين الإسرائيليين الذين عملوا واشرفوا على اغتيال الشهيد الرئيس ياسر عرفات بتسريب مواد ذرية مشعة إلى طعامه أدت إلى وفاته.‏

العقلية التي تتحكم في منطق ديختر، وحتى منطق اليمين الصهيوني بأسره، هي أن القضاء على الانتفاضة الثانية، وإحكام السيطرة الامنية الاستيطانية على الضفة الغربية، افرغ اتفاقيات اوسلو من مضمونها، قضى على حلم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ضمن إطار حل الدولتين، ومهد الطريق لضم الضفة إلى اسرائيل مستقبلا، من خلال تحويل مدنها الكبرى إلى بانتوستانات، أو محميات منفصلة عن بعضها البعض، لا كيان سياسي يذكر لها. ولكن هذا بحد ذاته لا يكفي صهيونيا لاحتواء القضية الفلسطينية برمتها، إذ لا يزال هناك عرب 48، الذين يتمتعون بقدر ما من الحرية السياسية في اسرائيل، يمكنهم من “خربشة” المخططات الصهيونية وربما إفشالها. ولذلك لا بد من معالجتهم بـ”تخفيض” قيمتهم وزلزلة أوضاعهم وتحجيمهم، للقضاء على أي دور سياسي لهم في المستقبل. ومن هنا جاء قانون القومية، وتلك هي بعض أهدافه.‏

هذه المخططات و”الطموحات” اليمينية التوسعية الإسرائيلية، رغم الأوضاع العربية والفلسطينية غير المريحة، لبست قضاء وقدرا، وليس من الصعب احتوائها وإفشالها من خلال نشاط سياسي عقلاني ودؤوب، فقد تم إفشال مخططات من هم اكبر بكثير من اسرائيل، ونقصد بذلك حاميتها الولايات المتحدة الأميركية. لقد كان لموقف سياسي فلسطيني عقلاني وصلب دورا مهما، إن لم يكن أساسيا، في احتواء وصد مشاريع ذلك الرئيس الأميركي البلطجي ترامب في إطار ما اسماه “صفقة القرن”، التي لا تختلف كثيرا في سعيها إلى تصفية القضية الفلسطينية عن المخططات الإسرائيلية المختلفة.‏

لقد أدت المعارضة الفلسطينية، على ما رافقها من أنشطة دولية وعربية وإسلامية، إلى رفض أكثرية دول العالم، ومن بينها كافة الدول الكبرى، الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل وحدها. كما أدت أيضا إلى اتخاذ موقف واضح وحاسم من فبل من تسميها اسرائيل “الدول السنية المعتدلة” (وعلى رأسها مصر والأردن والسعودية)، والتي تحلم كثيرا بعقد أحلاف معها، من خلال الالتفاف على الفلسطينيين، برفض أية مشاريع تنتقص من حقوقهم في دولة مستقلة خاصة بهم؛ وتم الإعلان عن هذه المواقف وإبلاغها رسميا لأميركا وإسرائيل. ومهما بلغ من التفاوت في مواقف هذه الدولة العربية أو تلك، والتأويلات التي تنسب لذلك، ينبغي أن يكون واضحا انه ليس بإمكان أي زعيم أو دولة عربية، أو إسلامية، التنازل عن حقوق الفلسطينيين أو الموافقة على تسليم القدس والأقصى لإسرائيل.‏

كما أن الأوضاع الدولية عامة، منذ اتضاح السياسات الأميركية والإسرائيلية، بطبعاتها الأخيرة، تبدو مواتية للغاية لشن حملة عالمية مضادة لها. فالامتعاض من السياسات الإسرائيلية العنصرية والمعارضة لها تشمل دولا وقطاعات واسعة في مختلف إنحاء العالم، بل حقيقة ليس هناك، على الأقل، من يجاهر علنا بتأييدها أو تبنيها. وهذا بحد ذاته يشكل أرضية مواتية لمزيد من الأنشطة المناوئة للعنصرية الصهيونية، على طريق التصدي لها وإبطال مفعولها. إن قانون القومية هذا، بتبنيه العنصرية رسميا، يمكن أن يصبح بداية لحملة دولية لتصنيف الكيان الصهيوني عالميا كدولة ابارتهايد، شبيهة بنظام التمييز العنصري الذي كان قائما أيام زمان في جنوب إفريقيا، وبحيث يكون مصيره، في نهاية المطاف، مشابها له.‏

وهذه الأوضاع تتطلب أيضا المزيد من توضيح المواقف العربية وجعلها اكثر إصرارا وحدة، وخصوصا فيما يتعلق بما بسمي مشاريع السلام، بما في ذلك الفلسطينية منها. إن مشروع السلام العربي، المعلن من قبل القمة العربية سنة 2002، والتي لا تزال اسرائيل تتجاهله حتى اليوم، وهو بسيط للغاية، غير ملائم للتعامل مع الخبث الصهيوني، بتشعباته و”تقليعاته” التي لا تتوقف. فهو يتطرق إلى الاعتراف اسرائيل وإقامة سلام معها ضمن شروط عمومية للغاية، ومثله أيضا مشروع السلام الفلسطيني الذي طرحه الرئيس عباس قبل نحو سنة في الأمم المتحدة، لا تأخذ في الحسبان العنصرية التي قد تخطر على بال الصهيونيين عند الاتجاه إلى التضييق على العرب أو المس بهم؛ وهو ما آن الأوان لتداركه.‏

خلال المفاوضات على اتفاقيات اوسلو وبعدها، في تسعينات القرن الماضي، طالبت اسرائيل صراحة، كشرط من شروط “إحلال السلام” تعديل أو إلغاء تلك المواد من الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنم عن عداء لإسرائيل أو تنفي حقها في الوجود؛ وكان لها ما أرادت، إذ عقدت جلسة خاصة بذلك في غزه، وبحضور الرئيس الأميركي كلينتون أيضا. وآن الأوان لمعاملة اسرائيل بالطريقة نفسها، بمعنى تعديل مشاريع السلام العربية أو الفلسطينية لضمان حقوق الفلسطينيين والعرب ومركزهم ومكانتهم عند التعامل مع الكيان الصهيوني. ‏

يصر معظم الإسرائيليين، بما يكاد يشبه الهوس، على الاعتراف بإسرائيل من قبل العرب عموما والفلسطينيين خصوصا بأنها “دولة يهودية”، وان كان الأمر كذلك ينبغي اشتراط مثل ذلك الاعتراف، إن وقع، باعتراف صهيوني-إسرائيلي مقابل، لا لبس فيه، بحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة؛ وذلك إضافة إلى منح عرب 48 حقوق أقلية قومية، كتلك التي منحت للأقليات في العديد من الدول الأوروبية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين. فلا يمكن، ولا يجوز، منح اسرائيل اعترافا بها، ومن ثم إقامة سلام معها، وترك وضع الفلسطينيين عامة وعرب الداخل خاصة، عرضة لنزوات هذا التيار الفاشي أو ذاك، التي قد “تفرخه” الصهيونية، من حين إلى آخر.‏

وباعتقادنا أن فلسطينيي الداخل وقياداتهم أيضا يجب أن يغيروا من سياساتهم ومواقفهم، ويتبنوا هذا المطالب علنا، تجاه النظام الإسرائيلي عامة، وفي أية مداولات لإقامة جبهة يهودية-عربية مشتركة خاصة، إن تم ذلك، لمواجهة السياسات والتيارات العنصرية الصهيونية. إن الحديث عن “ديمقراطية” و”مساواة” في ظل الهجمة العنصرية الصهيونية، وهي مفاهيم يمكن تحديدها أو تقنينها أو حتى دوسها بواسطة سن “قانون” خاص بذلك لم يعد كافيا لضمان وضع العرب الفلسطينيين في الداخل وحقوقهم

وان كانت اسرائيل تعطي نفسها الحق في التدخل في شؤون الدول الأخرى، لـ”حماية” اليهود فيها، حتى وان لم يكونوا مواطنين إسرائيليين، وفقا لتعليمات قانون القومية أو غيره، فمن حق العرب أيضا التدخل لـ”حماية” إخوتهم الفلسطينيين.‏

سبل مقاومة العنصرية الصهيونية الإسرائيلية عديدة ومتنوعة، والمطلوب فقط الإصرار والمثابرة على انتهاجها. ‏

الأرشيف