مائة عام على وعد بلفور، 1917-2017

مائة عام على وعد بلفور، 1917-2017

نظرة إلى سياسة التحالفات الصهيونية

صبري جريس

في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر)، قبل مائة عام، أي سنة 1917، أرسل وزير الخارجية البريطاني ارثور جيمس بلفور رسالة إلى والتر روتشيلد، أحد زعماء الجالية اليهودية في بريطانيا، بهدف تحويلها إلى فرع المنظمة اليهودية العالمية في بريطانيا (وهي آنذاك برئاسة الدكتور حاييم وايزمان، فيما بعد رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، وأول رئيس لإسرائيل بعد إقامتها)، نصت على ما يلي:‏‏

“إن حكومة جلالته تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، على أن يفهم بجلاء بأنه لا يؤتى أمر من شأنه أن يجحف بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين، أو بالحقوق والأوضاع التي يتمتع بها اليهود في أية بلاد أخرى”.‏‏‏

وعرفت هذه الرسالة في الأدبيات العربية، منذ ذلك الوقت، باسم “وعد بلفور”. وأصبحت فيما بعد، الأساس السياسي “العقائدي” لحكم بريطانيا، ثم انتدابها على فلسطين خلال السنوات 1918-1948، الذي أرسيت استناداً إليه أسس “الوطن القومي اليهودي”، الذي مهّد لإعلان قيام دولة إسرائيل على جزء من أرض فلسطين سنة 1948.‏

ولسنا هنا في صدد تقديم بحث أكاديمي تاريخي عن بلفور، أو متابعة كيفية تبلوره، إذ صدرت في هذا الصدد العديد من الكتب والدراسات والأبحاث، لمن قد يعنيه الأمر. بل إن ما يهمنا هو الوقوف على الخلفيات وتشابك المصالح السياسية العالمية، على الصراعات التي رافقتها، وأفرزت من بين ما أفرزته، ذلك الوعد.‏

فمع بداية القرن الماضي، أي في مطلع سنة 1900، كان الاستعمار الغربي، ممثلاً بالدول الأوروبية أساساً، قد تمكن من بسط سيطرته، بشكل أو بآخر، على كافة مناطق وشعوب وكيانات قارتي آسيا وأفريقيا، سعياً وراء توسيع النفوذ والتحكم في الموارد الاقتصادية لمنفعة المستعمرين الأجانب، على حساب سكان القارتين الأصليين بالطبع. وقد أدى هذا الاتجاه إلى تعاظم المشاحنات والمنافسة والخلافات بين الدول المستعمرة نفسها، إلى أن استفحلت الخلافات، وارتفعت حدة التوتر بينها، مهدت في نهاية الأمر، لنشوب الحرب العالمية الأولى (1914-1918). ومع انتهاء هذه الحرب، بانتصار الحلفاء، تم رفع أسس نظام عالمي جديد للحلفاء المنتصرين، وعلى رأسهم بريطانيا، أقوى دول الحلفاء، وهي “الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغرب عن مستعمراتها”، المنتشرة في كافة أنحاء العالم. اليد الطويلة في وضعه وإرساء أسسه.‏

لم تشهد المرحلة الأولى من الحرب العالمية أي تطور أو مكسب ملموس بالنسبة للصهيونيين، الذين لم يكونوا، في أي حال، لا في العير ولا في النفير، في تلك المرحلة. كما أن القوى المتحاربة كانت أساساً منهمكة، من جهتها، في حشد التأييد، وكسب الحلفاء الجدد لها، سعيا للانتصار في تلك الحرب. وفي هذا الإطار، قامت بريطانيا، في مرحلة مبكرة، بإجراء اتصالات، على شكل رسائل متبادلة، بين الشريف حسين في مكة، والسير هنري مكماهون، المفوض البريطاني في مصر، تم تبادلها خلال الفترة من تموز (يوليو) 1915، حتى 10 آذار (مارس) 1916.‏

وملخص هذه الرسائل، هو اقتراح البريطانيين على الشريف حسين بأن يعلن الثورة على الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تسيطر آنذاك على معظم بلدان المشرق العربي، ومن ثم يدخل الحرب إلى جانب البريطانيين ضدها، وذلك بعد أن تحالفت مع ألمانيا، وراحت تحارب إلى جانبها، وفي مقابل سياسة كهذه، وعد البريطانيون الشريف حسين بالاعتراف باستقلال المشرق العربي، بعد الحرب، كدولة مستقلة قائمة بحد ذاتها. وقد أوفى الشريف حسين بوعوده، حسب الاتفاق مع البريطانيين، وأعلن الثورة فعلا على الحكم العثماني، وانخرط في الحرب مع رجاله إلى جانب البريطانيين، ضد العثمانيين وتركيا.‏

غير أنه لم يمر إلا وقت قصير، حتى اتضح أن بريطانيا، وفقاً لـِ “تقاليد” السيطرة والتآمر الامبريالية، لم تكن معنية كثيراً بالالتزام بوعودها للشريف حسين أو تنفيذها تماماً. بل إن تلك الوعود، جاءت أساساً لكسب تأييده، وتأييد العرب لها في الحرب، مما يساهم في سعيها إلى النصر، وبعد ذلك لكل حادث حديث. فبعد نحو شهرين فقط على تبادل رسائل الشريف حسين- مكماهون، أي خلال أيار (مايو) 1916، توصلت دول الحلفاء الثلاثة، بريطانيا وفرنسا وروسيا، لنص اتفاق عرف فيما بعد باسم اتفاقية سايكس- بيكو (نسبة للمسؤولين البريطاني والفرنسي اللذين بادرا إلى عقده)، مفاده أن تقوم تلك الدول، بعد انتهاء الحرب، بتقسيم المشرق العربي، وبصورة أكثر دقة، تركة الإمبراطورية العثمانية، إلى مناطق نفوذ تابعة لها، وخاضعة لسيطرتها أو لانتدابها كما عُرف ذلك النظام الذي أنشئ بعد الحرب العالمية الأولى، وذلك في خلاف واضح مع التعهدات التي قطعت للشريف حسين. وقد تنصلت روسيا، في أي حال، من هذا الاتفاق بعد نشوب الثورة فيها، ثم تغيير نظام الحكم سنة 1917، بل إنها قامت بفضح ذلك الاتفاق بإعلان مضمونه على الملأ. إلا أن ذلك لم يمنع الطرفين الآخرين، بريطانيا وفرنسا، من المضي قدماً في مخططاتهما بموجبه، حيث عمدتا فعلاً إلى تقسيم المشرق العربي بعد الحرب إلى عدة دول، هي العراق وسوريا (ثم لبنان) وشرق الأردن وفلسطين، التي أخضعت جميعاً لانتداب بريطاني أو فرنسي، فيما فرضت الدولتان سيطرتهما على تلك المناطق/ الدول. إلا أن ذلك لم يتم بمثل تلك السهولة التي جرى توقيع اتفاقية سايكس- بيكو بموجبها. فقد دخلت بريطانيا وفرنسا في مشاحنات داخلية فيما بينهما، حول توسيع مناطق نفوذ ومنافع كل منهما على حساب الأخرى، فيما يشبه الخلافات التي تنشب بين اللصوص عند توزيع غنائم سرقاتهم. وهنا جاء دور الصهيونيين لاستغلالهم ضمن سعي بريطانيا إلى ضمان المزيد من المكاسب لصالحها على حساب حليفتها- مناوئتها فرنسا.‏

ومن جهتهم، لم يكن الصهيونيون، مبدئياً على الأقل، بعيدين كثيراً عن المفاهيم والنظريات، وأنماط الفكر الاستعماري، فهم أساساً، آخر الحركات الاستعمارية التي ظهرت إلى الوجود وتبلورت بالشكل الذي برز فيما بعد خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما كان الاستعمار الأوروبي في قمة جبروته وعنفوانه. ويظهر تأثير الاستعمار ومفاهيمه على آباء الحركة الصهيونية ، ومفكريها جميعاً، بصورة واضحة للغاية في كتبهم ومقالاتهم ومشاريعهم. فكل أولئك دعوا إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، بمساعدة الدول الأوروبية الاستعمارية، دون لف أو دوران، مقابل لعب دور الحلفاء. وعملياً “عملاء” القوى الاستعمارية في المشرق، بل إن ثيودور هرتسل، مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية، قضى معظم سني حياته، منذ المؤتمر الصهيوني الأول، في بازل سنة 1897، وحتى وفاته سنة 1904، سعياً وراء مقابلات مع ملوك وأمراء وحكام زمانه، في أكثر من دولة أوروبية، لشرح مخططه لهم، وحملهم على تبني الفكر الصهيوني، ورعاية ومساعدة اليهود على إقامة دولتهم، دون أن يحظى، في أي حال، بنجاح يذكر.‏

ومع نشوب الحرب العالمية، فقد الصهيونيون توازنهم، وبان كأنهم لا يدرون ما يفعلون، إذ لم يكن واضحاً، في بداية الحرب، من الذي سينتصر فيها. ولذلك، توخى الصهيونيون الحذر في مواقفهم، منتظرين منعطفاً واضحاً يمكن الاستناد إليه، أو الانطلاق منه، للاستمرار في مساعيهم، فيما اتجهت رئاسة المنظمة الصهيونية العالمية إلى اتباع “الحياد” بين الأطراف المتحاربة، وقامت بنقل مكتبها الرئيسي، الذي كان حتى نشوب الحرب في ألمانيا، إلى كوبنهاجن في الدنمارك المحايدة التي لم تشارك في الحرب.‏

أما في بريطانيا، فإن صهيونييها، وعلى خلاف موقف المنظمة الأم، لم يلتزموا بأي حياد، بل استمروا في مساعيهم للفت نظر السلطات البريطانية إلى مشاريعهم، وحملها على تأييدهم، وهو ما كانوا يقومون به سابقاً. في أي حال، وإن لم يحظوا بأي إنجاز يذكر، فالدكتور وايزمان، رئيس فرع المنظمة في بريطانيا، مثلاً، قضى 10 سنوات من حياته، بعد أن استقر في ذلك البلد، وهو يسعى لمقابلة، ولو مسؤول بريطاني رفيع واحد لشرح مواقف منظمته وخططها، ولكنه لم يفلح في ذلك. ولكن هذا الموقف البريطاني، المتجاهل للصهيونيين، تغير فجأة، بعد توقيع اتفاقية سايكس- بيكو، عندما راح البريطانيون يبحثون في دفاترهم القديمة؛ للتفتيش عن حلف جديد يساعدهم على إحكام سيطرتهم على بلدان المشرق العربي، مقابل طلبات حلفائهم، وخصوصاً فرنسا. وعندها تغير موقفهم، وأرسلوا من جهتهم، الدعوات لزعماء الصهيونيين لمقابلتهم، وبحث مطالبهم. وعلى الأثر جرت جولات من المفاوضات بين الطرفين، أعرب البريطانيون خلالها عن استعدادهم لتبني طلبات الصهيونيين، واحتضانها، ومحاولة العمل على تحقيقها، ضمن المفهوم البريطاني لها على الأقل، ملمحين للصهيونيين أنه في سبيل ذلك قد يتوجب عليهم إجراء الاتصالات الملائمة، واستغلال نفوذهم لدى دول الحلفاء الأخرى، حتى لا تعارض منح بريطانيا بالذات الانتداب على فلسطين. وكانت بريطانيا آنذاك، معنية بإحكام سيطرتها على فلسطين؛ لضمان الدفاع عن الجناح الشرقي لقناة السويس، شريان اتصالاتها مع الهند، التي كانت آنذاك أكبر المستعمرات البريطانية، بما تدره من منافع مادية وميزات اقتصادية على الإمبراطورية البريطانية.‏

ولم يخيب الصهيونيون آمال البريطانيين بعد ذلك التفاهم بين الطرفين. فقد انطلقوا بعد ذلك، خلال السنة الأخيرة من الحرب وبعدها قبيل انعقاد مؤتمر الصلح، ثم توقيع اتفاقية سيفر سنة 1920، وبعدها اتفاقية لوزان سنة 1923، للعمل بهمة ونشاط لدى دول الحلفاء وغيرها لحملها على منح بريطانيا الانتداب على فلسطين، وذلك بعد أن اقنعوا، السلطات الفرنسية، ثم الإيطالية، وأخيراً الأميركية بذلك. وقد كافأت بريطانيا بدورها الصهيونيين على نشاطهم هذا، وضمّنت نص وعد بلفور في اتفاقية الصلح مع تركيا، ثم جعلته جزءاً من صك الانتداب البريطاني على فلسطين، الذي أقرته عصبة الأمم، المنظمة “الأم” للأمم المتحدة الحالية، وأصبح الأساس الدولي لحكم بريطانيا في فلسطين.‏

بقيت بريطانيا، خلال العشرين سنة الأولى من حكمها في فلسطين (1918-1938) على الأقل، عند حسن ظن الصهيونيين بها، لجهة التزامها بتنفيذ سياسة “الوطن القومي اليهودي” في البلد، وذلك على الرغم من معارضة العرب الفلسطينيين لذلك، وقيامهم في أكثر من مناسبة، بهبات وانتفاضات وثورات ضد نظام الحكم البريطاني. فخلال تلك الفترة، سهّلت بريطانيا دخول المهاجرين اليهود إلى فلسطين وغضت الطرف عن نشاطهم في شراء الأراضي، خصوصاً من الإقطاعيين العرب، وإقامة المستوطنات اليهودية عليها. ولم تفلح كل أشكال المقاومة الفلسطينية في ثني البريطانيين عن سياستهم تلك. ونتيجة لذلك، نما الوطن القومي في فلسطين، وخصوصاً خلال منتصف الثلاثينات، بصورة ملحوظة للغاية. فقد ارتفع عدد السكان اليهود في فلسطين، لما يعادل 5% من سكان فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى، ليصل إلى نحو ثلث السكان هناك عشية الحرب العالمية الثانية سنة 1939. إضافة إلى عشرات المستوطنات الجديدة التي أقيمت في أنحاء متفرقة من فلسطين. كذلك سعت سلطات الانتداب إلى منح ما يمكن أن يسمى “حكماً ذاتياً” للمستوطنين اليهود، وذلك بسن قوانين خاصة للسلطات المحلية، من بلديات، أو مجالس محلية/ قروية، منحتها مدى لا بأس به من الصلاحيات لإدارة شؤون القاطنين فيها، مما سهّل إقامة كيان يهودي منفصل، له طابعه الخاص، داخل فلسطين، رغم الأكثرية العربية التي كانت تقطنها آنذاك.‏

إلا أن هذا “الدلال” البريطاني للصهيونيين تغيّر، بشكل ملحوظ، مع أواخر الثلاثينات؛ نتيجة لنشوب الثورة العربية الكبرى (1936-1939) من جهة، ثم ظهور نذر حرب عالمية جديدة في الأفق من جهة أخرى. فمع نهاية الثلاثينات، تأزمت الأوضاع عامة في أوروبا، خصوصاً بعد وصول النازية إلى الحكم في ألمانيا، وبدا أن صراعاً كونياً جديداً قادم لا محالة. وإزاء مثل هذه التحديات الوجودية، لم تعد بريطانيا قادرة على الاستمرار في معاداة عرب فلسطين والدول المجاورة المتعاطفة معهم. وهي تتوقع حرباً طاحنة قد تنشب في أية لحظة. وبذلك لم يبق أمامها إلا استرضاء وكسب سكوتهم، وهدوئهم على الأقل، ومن ثم منعهم من الانضمام إلى المعسكر المعادي لها، لكي تتفرغ لمجهودها الحربي في الأماكن الضرورية. ولهذا، وبعد أن فشلت كافة المحاولات للوصول إلى اتفاق يهودي- عربي في فلسطين، بما في ذلك طرح مشروع لتقسيم فلسطين، لم يقبل به أحد، بادر البريطانيون إلى اتخاذ سياسة مستقلة خاصة بهم للحفاظ على ما اعتبروه مصالحهم الحيوية. واستطردا لذلك نشروا “كتاباً أبيض” سنة 1939، أعلنوا بموجبه أنهم سيفرضوا قيوداً على الهجرة اليهودية إلى فلسطين بشكل قاسٍ، بحيث لن يدخل البلد خلال السنوات العشر القادمة أكثر من 5 آلاف مهاجر يهودي جديد. كما فرضوا قيوداً أخرى على شراء الأراضي من قبل اليهود، وإقامة المستوطنات عليها. ولم يقبل الصهيونيون بهذه القيود، وأحتجوا عليها بشدة. ولكن دون اتخاذ قرارات تذكر ضدها. ففي الحرب على ألمانيا النازية، وسياساتها المعادية لليهود، لم يكن لدى اليهود الصهيونيين من خيار إلا التعاون مع بريطانيا، حفاظاً على وجودهم، وانتظار الفرج بعد انتهاء الحرب. وقد نشطت القيادة الصهيونية بشكل خاص، خلال سنوات الحرب، في دعم وتنظيم حملات تطوع الشبان اليهود، ذكوراً وإناثاً، في النشاط العسكري إلى جانب البريطانيين، فاندفع المئات منهم إلى القيام بذلك، وتلقي كافة التدريبات العسكرية، ليصبحوا مع تسريحهم، بعد نهاية الحرب سنة 1945، نواة القوات اليهودية، ثم الإسرائيلية، التي خاضت حرب 1948 ضد العرب.‏

ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كان واضحاً، بالنسبة للصهيونيين وغيرهم، أن وعد بلفور قد أصبح جزءاً من التاريخ، بعد أن ولى عهده، خصوصاً بعد أن “خفّضت” الحرب مكانة بريطانيا، ومعها فرنسا أيضاً، وحولتهما إلى قوى عالمية من الدرجة الثانية، فيما راح الأميركيون والسوفييت، يتصدرون المشهد العالمي، ويتبوأون مراكز القوى العالمية الصاعدة الجديدة. وعند بداية هذا المنعطف، مع الحقبة التاريخية الجديدة، عاد الصهيونيون إلى ممارسة سياستهم القديمة التي كان هرتسل نفسه هو من وضع أسسها أصلاً، وذلك بالتفتيش عن قوة كبرى جديدة “يتحالفون” معها، وبالتالي يأتمرون عند الضرورة بأمرها، حتى تتبنى مشروعهم وتساعدهم على تنفيذه. وفي هذا الصدد وجدوا، هذه المرة بالذات، قوتين اثنتين، وليس قوة واحدة فقط.‏

فخلال المرحلة الأخيرة في الحرب العالمية الثانية، وبعد أن بات واضحاً أن الانتصار على ألمانيا النازية، أصبح مسألة وقت فقط، راحت الاتصالات والمشاورات، ومعها المشاريع والخطط تطرح بين الحلفاء وغيرهم؛ تمهيداً لترتيب الأوضاع العالمية مجدداً بعد انتهاء الحرب. وكما حدث مع نهاية الحرب العالمية الأولى، شهدت هذه المرحلة أيضاً ذلك النوع من الشد والجذب، والتحالفات وتشابك المصالح وتناقضها. وهنا أيضاً، مرة أخرى، كما حدث خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، أدلى الصهيونيون بدلوهم، وهم يطالبون علناً بالتحرر من سيطرة بريطانيا على فلسطين، وإقامة دولة لهم فيها أو عليها. ولم تكن القوتان الكبيرتان، اللتان برزتا بعد الحرب، أميركا وروسيا، من المتعاطفين كثيراً، في أي حال، مع بريطانيا، أو المعنيين كثيراً بالسماح لها بالاستمرار في السيطرة على مستعمراتها، ومناطق نفوذها. ولذلك، وجدت الدعوات الصهيونية لإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين آذاناً صاغية لديهما. ولم تمانع أي منها، مبدئياً على الأقل، في إقامة دولة يهودية في قلب المشرق العربي، يمكن أن تساعد تلك القوى، لقاء تبنيهم لها، على مد سيطرتها، وتوسيع نفوذها في العالم العربي، في مشرقه على الأقل، ولذلك، وجدت المقترحات الصهيونية قبولاً لديها في بادئ الأمر، ليتغير موقفها، بعد إجراء المزيد من الاتصالات والتفاهمات مع الصهيونيين إلى تأييد واضح لمشروع الدولة اليهودية. وخلال المداولات في الأمم المتحدة، التي أسفرت في نهايتها عن صدور قرار تقسيم فلسطين سنة 1947، وإقامة دولتين، عربية ويهودية فيها، كان الأميركيون والسوفييت يتنافسون فيما بينهم حول حشد الدعم الأكبر لمشروع التقسيم. بل إن المندوب السوفيتي غروميكو (فيما بعد وزير خارجية الاتحاد السوفييتي لسنوات طويلة) ألقى خلال تلك المداولات خطاباً رناناً في دعم الطلبات الصهيونية يخجل به أكثر الصهيونيين تزمتاً.‏

ولم يكتف الصهيونيون بذلك، بل إنهم لفرط ثقتهم بأنفسهم، أقاموا “منافسة” بين الأميركيين والسوفييت، بشأن من منهم سيكون الأسبق إلى الاعتراف بالدولة اليهودية بعد الإعلان عن إقامتها، وكانت “الغلبة” في هذا المضمار للأميركيين، إذ أعلن الرئيس الأميركي ترومان عن اعتراف بلاده بإسرائيل بعد 7 (سبعة) دقائق من الإعلان عن إقامتها، فيما “تأخر” السوفييت إلى اليوم التالي.‏

وعلى هذه الخلفية تمتعت إسرائيل، عند إقامتها، عملياً بـِ “وعدي بلفور” جديدين، أحدهما أميركي والثاني سوفييتي، على التأييد والدعم الذي ينطوي عليه ذلك، بل إن السوفيت زودوها بالأسلحة، في المرحلة الأخيرة من حرب 1948، عن طريق تشيكوسلوفاكيا (كما فعلوا ذلك فيما بعد، مع مصر عبد الناصر في منتصف الخمسينات). وقد ساهم ذلك الدعم، إضافة إلى عوامل الثورة الصهيونية الذاتية، في انتصار إسرائيل في حرب 1948، ومن ثم فرض اتفاقيات هدنة على الدول العربية المجاورة، وبالتالي إرساء أسس دولة واضحة المعالم، لا تخلو من عناصر القوة في مراحل تأسيسها الأولية. وقد كانت إسرائيل، في سنواتها الأولى، بمثابة الطفل المدلل، لكل من الأميركيين والسوفييت. فيما حافظت بدورها على مسافة واحدة من كليهما. إلا أن هذا الوضع تغيّر مع مطلع الخمسينات، بعد تصاعد حدة الحرب الباردة بين المعسكرين العالميين، التي أدت، من بين ما أفرزته، إلى نشوب الحرب الكورية. وعندها لم تعد إسرائيل قادرة على التزام “الحياد”، إذ لم يكن بد من اتخاذ موقف مؤيد لهذا الطرف أو ذاك، فاختار بن غوريون رئيس حكومة إسرائيل آنذاك، أميركا وانحاز إلى جانبها، معلناً تأييده لها. وقد ساهم ذلك في توتير العلاقات مع السوفييت وأتباعهم، وبقيت علاقات إسرائيل معهم جميعاً متأزمة حتى انهيار النظام الشيوعي في أوائل التسعينات.‏

ويبدو أن إسرائيل، وحتى بعد أن أرست أسسها وأصبحت دولة معترفاً بها من قبل الأمم المتحدة، والعديد من شعوب العالم، غير قادرة على التخلي عن فلسفة “وعد بلفور”، بالمفهوم الذي يدعو إلى “تحالف” مع قوة عظمى واحدة على الأقل، يمكن أن تستند إلى تأييدها عند الضرورة. بل إنها تكاد تفقد صوابها، وتأتي بما لا يخطر على بال إن شعرت أنها خارج دائرة الاهتمام والضوء. ففي النصف الأول من خمسينات القرن الماضي، مثلاً، اتجهت الولايات المتحدة إلى إقامة حلف من الدول العربية والإسلامية في الشرق الأوسط “لاحتواء الخطر الشيوعي” (حلف بغداد، فيما بعد). ولم توافق الدول العربية، المرشحة للانضمام إلى الحلف، وعلى رأسها العراق، على قبول إسرائيل عضواً فيه. كما أن الإدارة الأميركية آنذاك، في عهد ايزنهاور، ووزير خارجيته دالاس، لم تكن بدورها تعوّل على إسرائيل كثيراً، وفي مواجهة المعارضة العربية قررت، إخراجها من مشاريع الأحلاف المقترحة ووضعها جانباً. ونتيجة لذلك، دخلت إسرائيل حالة من “الاكتئاب”، والهوس لم تعهدها سابقاً؛ لشعورها أنها مستثناة من أية مشاريع سياسية أو عسكرية في الشرق الأوسط، وهو ما يبقيها على عزلتها. ولذلك، راحت تفتش عن إجراء تقوم به للفت الأنظار إليها، على غرار قصة جحا، عندما كسر مزراب النبع. ففي إطار الاستعدادات لإنشاء تلك الأحلاف، طرحت قضية انسحاب البريطانيين من منطقة قناة السويس في مصر، وهو ما لم تحبذه إسرائيل؛ لأنه سيعطي المصريين حرية تحرك كاملة في بلدهم. وفي وضع كهذا، لم يجد الإسرائيليون من حيلة، إلا الايعاز لبعض جواسيسهم من اليهود في مصر، بالقيام بإلقاء المتفجرات في بعض الأماكن العامة في مصر؛ وذلك، “لإثبات” أن النظام المصري برئاسة عبد الناصر، ضعيف، ولا يسيطر على بلده. ولذلك، يجدر بالبريطانيين أو غيرهم عدم الوصول إلى أي اتفاق معه. وكانت النتيجة أن ألقت السلطات المصرية القبض على أعضاء تلك الشبكة المخربة، وأعدمت اثنين منهم. وقد كشفت هذه المغامرة في إسرائيل لاحقاً، وعرفت باسم “القضية المشينة” وترتبت عليها تداعيات كادت تهز أركان النظام الإسرائيلي.‏

الا ان الزمن في اي حال لن يستمر طويلاً في التكشير في وجه اسرائيل ففي الفترة اياها في منتصف الخمسينات ، وفيما كانت تبذل المساعي لإقامة الاحلاف العسكرية الموالية للغرب في الشرق الغربي نشبت في مغربيه الثورة في الجزائر ، ضد الاستعمار الفرنسي للبلد ، وقد أنبرت مصر عبد الناصر ، منذ نشوء الثورة ، الى مساعدتها بالمال والسلاح، علناً ودون تحفظ ، مما أثار حفيظة الفرنسيين ، الذين لم يكونوا يعتبرون الجزائر في ذلك الوقت مستعمرة بل جزءاً من فرنسا البلد الام (!) ولم تكتف مصر بذلك ، بل ان عبد الناصر ، بعد ان راح الغرب يعاديه ، في اعقاب سياسة الحياد الإيجابي التي أنتهجها محاولاً مع بعض الدول ، مثل الهند ويوغوسلافيا ، الحفاظ على المسافة نفسها تجاه المعسكرين العالميين ، الغربي والشيوعي الشرقي ، ونتيجة لذلك تعرض لحصار المال والسلاح، فامتنعت الدول الغربية عن بيع السلاح لمصر ثم الغى البنك الدولي تعهده بالمساهمة في انشاء السد العالي في اسوان وردّ عبد الناصر على ذلك بتأميم شركة قناة السويس في صيف 1956 ، مما أعتبر تحدياً غير محمود العواقب للغرب، يستوجب بالتالي رداً . وعلى الأثر نسجت مؤامرة بين زعماء اسرائيل وفرنسا ، انضمت اليها بريطانيا سريعاً ، لشن حرب على مصر بهدف اسقاط حكم عبد الناصر ، وتمثلت أسس المؤامرة في قيام اسرائيل لشن هجوم على الاراضي المصرية في سيناء ، فتستغل بريطانيا نشوب العمليات القتالية لارسال قواتها” للفصل” بين الطرفين المتحاربين ” حفاظاً” على حسن سير الملاحة في قناة السويس وقد تم ذلك فعلاً ، فيما عرف باسم العدوان الثلاثي ، الفرنسي- البريطاني – الاسرائيلي على مصر في اواخر سنة 1956 فقد هاجمت اسرائيل سيناء واحتلت اجزاء كبيرة منها اضافة الى قطاع غزة فيما راح الطيران الفرنسي والبريطاني بقصفان بورسعيد وضواحيها.‏

بينما يحاول الاسطولان البريطاني والفرنسي اقتحام قناة السويس ولكن الرياح لم تجرِ بما تشتهيه سفن المعتدين فقد أثار هذا العدوان حفيظة الاتحاد السوفييتي الذي كانت تربطه آنذاك علاقات جيدة بمصر فانبرى للدفاع عنها بقوة ، موجهاً انذاراً علنياً الى الاطراف المعتدية بالكف عن عدوانها وايقافه والا فإن السوفيت سيتدخلون عسكريا ، وقد تتعرض كل من لندن وباريس للضرب بالصورايخ الباليستية السوفيتيية فيما ترددت انباء عن استعدادات لإنزال انباء سوفيتية جواً في مصر, للقتال الى جانب جيشها. وادى هذا التدخل الحاسم الى صد المعتدين ، خصوصاً بعد ان اعربت الولايات المتحدة أيضاً عن معارضتها لتلك المغامرة ، فكان ان توقفت الحملة العسكرية على مصر ، ثم انسحبت بعد فترة كافة القوات الغازية التي دخلت مصر، بما في ذلك القوات الاسرائيلية.‏

غير انه رغم الفشل الذي مني به العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956 فقد كانت له ، من ناحية ثانية ، آثاراً بعيدة المدى ، عالمياً واقليمياً فقد ادركت بريطانيا أخيراً انها اصبحت فعلاً دولة كبرى من الدرجة الثانية ، فأعلنت انها ستغلق كافة قواعدها الواقعة ” شرق السويس” وتتخلّى عنها، ممهدة بذلك الطريق للأميركيين للتمدد في تلك المناطق بدلاً منها بعد ذلك ، وسارعت في الوقت نفسه الى الابتعاد عن اسرائيل والتنسيق معها، أما فرنسا ، وعلى العكس من ذلك ، فقد وثقّت علاقاتها مع اسرائيل بصورة قوية للغاية، ودخلت في تنسيق معها في حالات عدة . كما دعمتها عسكرياً بصورة ملحوظة وراحت تبيعها كل ما تحتاجه من اسلحة ، بما في ذلك الحديثة منها، وكل ذلك على ارضية عداء الدولتين للعرب وسعيها الى كسر شوكة مصير من جهة والاحتفاظ بالسيطرة الفرنسية الاستعمارية على الجزائر من جهة أخرى. وقد توسعت مجالات التعاون بين الطرفين خلال النصف الثاني من الخمسينات وكاد يصبح شاملاً ولا يترك مجالاً وعُني به بعده لدرجة كاد يبدو معها أن ” بلفور” القديم غير جنسيته واصبح فرنسياً ، ولم يخبو ذلك التحالف وتظهر علامات التباعد بين الطرفين تدريجياً الا مع مطلع الستينات ، بعد أن قرر الفرنسيون الاعتراف باستقلال الجزائر والانسحاب منها وعلى الأثر راحت العلاقات الفرنسية الاسرائيلية تفتر تدريجياً مع اتجاه فرنسا لادارة ظهرها صوب سياستها الاستعمارية السابقة ومن ثم الانسحاب عن العديد من مناطق نفوذها في افريقيا ، معترفة باستقلالها ، ومع نشوب حرب 1967 تحولت العلاقات الفرنسية –الاسرائيلية الى جفاء واضح ، عندما فرضت فرنسا حظراً على تصدير السلاح الى اسرائيل بعد ان اعتبرتها المعتدية في تلك الحرب.‏

وأيا كان مصير العلاقات الفرنسية –الاسرائيلية بعد حرب 1967 ، ومن ثم انتهاء دور” بلفور” الفرنسي كان واضحاً ان التعاون الفرنسي مع اسرائيل حتى تلك الفترة كانت له آثار كبيرة ، لجهة دعم قوة اسرائيل العسكرية ، على نكسة 1967 ، التي انتصرت فيها اسرائيل على ثلاثة جيوش عربية واحتلت مساحات شاسعة من اراضي تلك الدول ، مع ما بقي من فلسطين، لتخلق بذلك وضعاً جديداً في العالم العربي لا نزال نعيشه منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، اي خلال الخمسين سنة الأخيرة دون انقطاع.‏

ومع نهاية الحرب دخلت اسرائيل في حالة من النرجسية والغطرسة والاستخفاف بالغير الى درجة كاد يبدو معها وكأنها لم تعد بحاجة الى أي ” بلفور” جديد ، كائناً من كان، وأنها قادرة على تدبير امورها بنفسها، دون حماية من اية قوة عظمى او التنسيق مها. واستناداً الى مثل هذا التقدير أمعنت اسرائيل في ازدراء العرب وكذلك الاستخفاف بأي رأي او مشروع، كائنا من كان صاحبه، سواء أكانت الامم المتحدة بأكملها او أية دولة أخرى، لحل المشاكل التي نجمت عن تلك الحرب او السعي الى سلام بين دول المنطقة، وبشكل خاص رفض اية مشاريع تتعلق بالقضية الفلسطينية ، التي لم تكن اسرائيل آنذاك تعترف بوجودها أساساً.‏

وقد بقيت اسرائيل على حالها هذا حتى نشوب حرب تشرين الاول( اكتوبر ) 1973، التي فاجأتها وكادت تفقدها توازنها فعشية نشوب تلك الحرب كانت اسرائيل قد وصلت الى درجة من الصلف والغرور اقنعت نفسها معها ان اية دولة عربية لن ” تجرؤ” على مهاجمتها، وان فعلت ذلك سيكون الدمار من نصيبها، ولذلك فاجأتها تلك الحرب ونتائجها تماماً ، خصوصاً بعد ان تمكن الجيش المصري من تحطيم تحصينات خط بارليف على الضفة الشرقية من قناة السويس ، وراحت القوات المصرية المدرعة تعبر الى سيناء ، قبل ان تنتهي الساعات الست الاولى من اندلاع القتال( ولهذا اطلق بعضهم على تلك الحرب اسم ” حرب الساعات الستة” مقابل ” حرب الأيام الستة ” سنة 1967 ),على الخسائر التي تكبدتها اسرائيل خلالها ووصلت الى نحو 2700 قتيل وكانت تلك الحرب قد استمرت نحو اسبوعين او اكثر ، الا أنها ، وقبل نهايتها بمدة ، تحولت سريعاً الى حرب سياسية ، عندما راح الرئيس المصري السادات ، وقبل ان تنتهي العمليات القتالية ، يطالب بعقد مؤتمر للسلم في جنيف لحل المشاكل المعلقة بين اسرائيل والعرب وارساء الأسس لسلام في المنطقة.‏‏

وعند هذا المنعطف شعرت اسرائيل بحاجتها الى ” بلفور ” جديد ، وكان هذه المرة اميركياً ، خصوصاً بعد أن انبرت الولايات المتحدة لمساعدتها خلال الحرب وأقامت جسراً جوياً لتزويدها بكميات ضخمة من الذخائر الجديدة ، بعد ان أوشكت ترسانة الجيش الاسرائيلي على النفاذ خلال الأيام الاخيرة من القتال. وكانت هذه ” اللفتة ” بمثابة بادرة لحضور أميركي قوي ، ومتجدد في المنطقة ، ممثلاً في المفاوضات السياسية التي تلت انتهاء العمليات القتالية.‏

وكانت الولايات المتحدة العنصر المهيمن في الاتصالات والمفاوضات بين المصريين والاسرائيليين ، إلى ان انتهت ، مع نهاية السبعينات ، بعقد صلح مصري –اسرائيلي منفرد، من خلال قفز مصر على مصالح العالم العربي كافة، بل نسيانها والتخلي عنها.‏

ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم لا تزال اسرائيل محتمية بظل ” بلفور” الأميركي، تعمل كل ما في وسعها للتنسيق مع الاميركيين مراعية عدم ازعاجهم او الاختلاف بصورة جدية مهم، مسوقة نفسها كاحدى اكبر حلفائهم في المشرق وأقواها وأكثرها مراعاة لمصالحهم والتزاما بها ، وساعدها في ذلك أيضاً اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، والذي يبدو ان تأثيره ليس هامشياً، وقد نجحت اسرائيل في مساعيها هذه بصورة ، ملحوظة ، فراحت الولايات المتحدة تغدق عليها المساعدات عسكرية وغيرها بصورة لا سابق لها. بل ان بعض الدوائر راحت الأميركية تدعو الى جعل اسرائيل قوية تغدق بما يوازي قوة العرب جميعاً.‏

ولكن رغم هذا الالتزام الأميركي باسرائيل ومساعدتها لا يبدو ان اسرائيل على استعداد لوضع كل بيضاتها في سلة الأميركيين ، خوفاً من ان ينفضّوا عنها كما فعل الفرنسيون مرة . ولذلك يلاحظ انه ، اضافة الى الاحتفاظ بالعلاقات مع الأميركيين، فإن اسرائيل تحاول في الوقت نفسه مد الجسور مع العديد من القوى العالمية بما في ذلك روسيا والصين والهند وغيرها من القوى الصاعدة بل إنها تقيم مع العديد منها مستوى لا بأس به من العلاقات المتبادلة ، على المصالح المتعلقة به.‏

لقد مات بلفور، ومات وعده معه، منذ فترة طويلة، وأصبحا جزءاً من التاريخ. ولكن النفسية “البلفورية” لا تزال تسيطر على الفكر والنشاط الصهيوني، من حيث بناء الأحلاف والعمل في إطار المصالح المتبادلة، مما يعود على الصهيونيين بالفوائد، دون التسبب في أضرار للمتعاونين معهم.‏

ولعل هذا درس من التاريخ، في إقامة التحالفات، يجدر بالفلسطينيين تعلمه واتقانه في سعيهم نحو نيل استقلالهم واسترجاع حقوقهم.‏

[نشرت في مجلة “اوراق فلسطينية”، الصادرة عن مؤسسة ياسر عرفات (رام الله)، العدد 15/16، شتاء وربيع 2017]‏

الأرشيف