مشروع حل لمشكلة الاستيطان اليهودي في فلسطين

مشروع حل لمشكلة الاستيطان اليهودي في فلسطين

صبري جريس

   قامت إسرائيل بعد احتلالها لما بقي من فلسطين، سنة 1967، في الضفة الغربية وقطاع غزة، بالسيطرة على تلك المناطق، وراحت تزرع فيها المستوطنات والأحياء السكنية، بل المدن اليهودية في بعض الحالات، عن يمين وشمال. وتم ذلك، كما هو معروف، من خلال السيطرة على الأراضي الفلسطينية، الخصوصية منها والعمومية، عنوة وقسراً بمختلف الحجج “القانونية” الواهية والزائفة. وبنشاطهم هذا سعى الصهيونيون، ولا زالوا، إلى تقطيع أوصال المناطق الفلسطينية والسيطرة على أراضيها، ومن ثم سكانها، من خلال السعي إلى منع قيام أي كيان فلسطيني متماسك وقابل للحياة.

   والاتجاه إلى السيطرة على الأراضي في فلسطين، ومن ثم إقامة المستوطنات اليهودية عليها، إستراتيجية صهيونية أساسية وقديمة، رافقت الحركة الصهيونية، ولا تزال، منذ نشوئها. بل أنها حققت لها المكاسب التي مكنتها، في نهاية الأمر، من إقامة إسرائيل على أرض فلسطين سنة 1948. فخلال أواخر فترة الحكم العثماني لفلسطين، التي انتهت مع نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918، ومن ثم خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين (1918 – 1948)، التي تبعتها، تمكن الصهيونيون من شراء ما بلغت مساحته نحو 6 (ستة) بالمائة فقط من مساحة فلسطين بأسرها، وإن كان معظمها من الأراضي الخصبة. وتركزت معظم عمليات الشراء تلك، على وجه التحديد، في الجليل الشرقي الشمالي (مناطق طبريا وصفد) وكذلك في السهل الساحلي الممتد بين حيفا ويافا (تل أبيب)، دون غيرها. ومما سهّل عمليات شراء تلك الأراضي آنذاك، في تلك المناطق دون غيرها، كان امتلاك عدد من الإقطاعيين لها، ومن بينهم من كان يقيم في بيروت أو دمشق بصورة دائمة، والذين سارعوا إلى بيعها للصهيونيين لقاء مبالغ طائلة دفعت لهم. وكان أولئك الإقطاعيون قد تمكنوا من الاستيلاء على تلك المساحات الواسعة من الأراضي، على حساب الفلاحين الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون عليها، من خلال استغلال التشويهات والتناقضات التي خلقها قانون الأراضي العثماني المؤقت لسنة 1858، الذي أصدرته الإمبراطورية العثمانية في أواخر عهود انحطاطها (والذي رغم كونه “مؤقتاً” بقي ساري المفعول في فلسطين على الأقل لمدة تزيد على قرن من الزمن). ومع بيع تلك المساحات من الأراضي للصهيونيين سارع “المالكون” الإقطاعيون السابقون إلى الاختفاء، بينما تولّى الصهيونيون عملية إجلاء الفلاحين الفلسطينيين عن تلك الأراضي تمهيداً لإقامة المستوطنات اليهودية عليها.

ومما لا شك فيه أن هذا النشاط الاستيطاني عاد، آنذاك، بفوائد جمة على الصهيونيين؛ واستغل في نهاية المطاف لدعم مشروع إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. وتكفي نظرة سريعة على خريطة تقسيم فلسطين إلى دولتين، يهودية وعربية، الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1947، للإيضاح أن المناطق التي خصصت للدولة اليهودية في الجليل الشرقي والسهل الساحلي (ومن ثم ألصق بها النقب على اعتبار أن اليهود قادرين على إعمار الصحراء، وهو ما لم يقوموا به) كانت تلك التي تواجدت فيها، بصورة ملحوظة، مستوطنات يهودية عديدة.

*

* *

   تعلم الصهيونيون دروسا واضحة من تجاربهم الاستيطانية قبل قيام اسرائيل، خلاصتها أن الأراضي التي يسيطرون عليها استيطانياً ستسلم لهم في نهاية الأمر. ولهذا ما أن انتهت حرب 1967 حتى راحت إسرائيل تزرع المستوطنات، هنا وهناك وهنالك، ليس فقط في الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل أيضاً على السورية والمصرية منها، في هضبة الجولان وسيناء.

   وفي بداية تلك الفترة، أي ما بعد 1967 لسنوات، حين كانت إسرائيل غير واثقة مما سيؤول إليه مستقبل احتلالها الجديد للمزيد من الأراضي العربية، سار الاستيطان في تلك المناطق المحتلة حديثاً بخطى متعثرة وغير واضحة الاهداف. وبدا اّنذاك كأن النشاط الاستيطاني يُعنى أساساً بإقامة بؤر استيطانية تصلح لأن تكون ركائز سيطرة عسكرية أكثر من كونها مستوطنات عادية. وبقي الحال على هذا المنوال، حتى بالنسبة للأراضي الفلسطينية، فترة غير قصيرة؛ ولم يطرأ عليه أي تغيير ملحوظ إلا بعد توقيع اتفاقيات أوسلو سنة 1993 ومن ثم إقامة السلطة الفلسطينية.

   ولسبب ما يبدو أن كبار “الاستراتيجيين” الإسرائيليين أقنعوا أنفسهم أن إسرائيل، مع توقيعها على أوسلو، رغم المعارضة لها داخل إسرائيل من هنا وهناك، تمكنت أخيراً من “احتواء” القضية الفلسطينية ووضعها في الجيب الصهيوني، من خلال حشرها في قضايا منطقتي الضفة الغربية وقطاع غزة، وتجاهل أو تهميش أبعادها الأخرى، كحق تقرير المصير والعودة وما شابه. وعندها عادت حليمة إلى عادتها القديمة، وراح الإسرائيليون، بعد أن سلموا السلطة الفلسطينية السيطرة على المواقع الفلسطينية الآهلة بالسكان، في مدن الضفة وجوارها، فيما سمى المناطق “أ”، يزرعون المستوطنات، بوتيرة متصاعدة، في مناطق الضفة الريفية، فيما عرف سمي المناطق “ج”، التي تضم معظم اراضي الضفة، خلال هدف واضح للسعي إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية، شرط أن تضم أقل عدد ممكن من السكان الفلسطينيين، حتى لا يؤدي ضمها لإسرائيل، إن حدث ذلك يوماً، إلى الإخلال بـ”التوازن” السكاني داخلها، مما قد يعرّض “طابعها” اليهودي للخطر. ويلاحظ، في هذا الصدد، أن النشاط الاستيطاني الصهيوني، في الضفة الغربية خصوصاُ، قد استشرى وتضاعف مرات عديدة بعد أوسلو بالمقارنة ما كان عليه الوضع قبلها.

   ومع انطلاقه للتعامل مع هذا الوضع الجديد، في إطار البحث عن حلول للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، قام من عُرف فيما بعد باسم “المفاوض” الفلسطيني بطرح فكرة تبادل الأراضي بين إسرائيل وفلسطين، وبموجبها تقوم إسرائيل بضم الأراضي المقامة عليها كتل استيطانية كبيرة، في الضفة الغربية، إليها لقاء تعويض الفلسطينيين عنها بمساحات مماثلة من أراضي فلسطين المحتلة قديماً. ولعله من المناسب هنا إضافة ملاحظة تبدو خارجة عن السياق، وإن كانت هامة للغاية، وهي أن “المفاوض” الفلسطيني، نتيجة لانعدام التكافؤ في ميزان القوى، لم يكن عملياً “يفاوض” إسرائيل، في أي من جولات اللقاءات معها، بل كان يتلقى إملاءاتها من جهة ويفتش عن عروض قد ترضيها من جهة أخرى.

   وقد قبلت إسرائيل، بصورة أو بأخرى، بفكرة تبادل الأراضي هذه. إلا أنها، انطلاقاً من طبيعتها الاستيطانية التوسعية، راحت توسّعها وتطورها بما يخدم أهدافها وتطلعاتها الإحتلالية. فإذا كان هنالك قبول، مثلاً، ولو من ناحية المبدأ، بفكرة تبادل الأراضي المستوطنة وضمها إلى إسرائيل، فلماذا لا يقوم مزيد من الاستيطان على أراض أخرى ليصار أيضاً إلى ضمها لإسرائيل استناداً لتلك القاعدة؟ بل لماذا لا يوسّع مفهوم التبادل ليشمل حتى مناطق من إسرائيل القديمة، مثل اقتراح مبادلة منطقة أم الفحم في فلسطين الوسطى وضمها إلى فلسطين، وبذلك ترتاح إسرائيل من عشرات الآلاف من سكانها الفلسطينيين، وهم من كبار “المشاغبين”، متنازلة بذلك عن بضع عشرات من الكيلومترات المربعة من الأراضي لقاء الاستيلاء على مئات غيرها في الضفة؟ بل وصل الوضع إلى أخطر من ذلك، إذ راح بعضهم يفتش عن “حلول” مماثلة لأكثرية السكان العرب في إسرائيل، بينما ارتفعت بموازاة ذلك حدّة النبرة العنصرية المعادية لهم. وفيما اعتاد عرب الداخل على السماع، عادة، عن نيات حكومات إسرائيل المتعاقبة سابقاً، في العمل على “دمج” “مواطينها” العرب في حياة الدولة، نجد أن حكومات اليمين، خصوصا تلك التي رئسها نتنياهو، تعمل جهاراً على سن القوانين العنصرية ضدهم، مثل قوانين النكبة والولاء وتعديل قانون الجنسية، إلخ.

   والموقف الفلسطيني، في تعامله مع الاستيطان، يقضي بصورة أو بأخرى بضرورة تفكيك المستوطنات وسحب مستوطنيها إلى إسرائيل مع انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية، عند قيام الدولة الفلسطينية وبسط سلطتها على الأراضي التابعة لها. ويرى بعضهم أسبقية ملزمة، تدعم هذا الموقف، في ممارسات إسرائيل عند انسحابها من كل من سيناء في أواخر السبعينات الماضية، إثر توقيع اتفاق السلام الإسرائيلي-المصري، ومن ثم غزة عند الانسحاب أحادي الجانب منها سنة 2006. ففي كلتا الحالتين قامت إسرائيل بتفكيك كافة المستوطنات التي كانت قد أقامتها على تلك الأراضي، ثم توّلت هدمها كلها، حتى آخر واحدة منها، وأجلت كافة مستوطنيها عنها بالقوة السافرة، في عمليات عسكرية مخططة مسبقاً، قادها الجيش وشاركت فيها قوات الشرطة وحرس الحدود، وأحياناً حتى بعض القوات من حرس السجون. ولذلك لا غرابة أن يعتقد البعض أن هذا هو النموذج الذي ينبغي الأخذ به عند التعامل مع المستوطنات في الضفة الغربية.

   إلا أن اتجاهاً كهذا، استناداً إلى معطيات عديدة، قد ينطوي على خطأ كبير، بل يشك حتى فيما إذا كان قابلاً للتطبيق. فالاستيطان في الضفة الغربية عميق الجذور، في العقلية الإسرائيلية الاستعلائية والتوسعية، وإن لم يكن كذلك  في الأرض الفلسطينية، بل له مؤيدوه واسعي النفوذ في إسرائيل الحالية خصوصاُ، التي يتجه أكثر من نصف سكانها اليهود إلى التصويت للأحزاب اليمينية، سواء العلمانية منها أو تلك الدينية المتزمتة أو شبه الفاشية. كما أن لزعمائه نفوذاً لا بأس به في أوساط الجيش والمؤسسة السياسية عموماً. وهنالك فعلاً شكوك حقيقية فيما إذا كانت المؤسسة الإسرائيلية الحالية بأسرها، بشطريها المدني والعسكري، قادرة على التعامل مع المستوطنين في الضفة مثلما فعلت سابقاً في سيناء وغزة. فهؤلاء المستوطنون يحظون في إسرائيل اليمينية بنفوذ يكاد يشابه ذلك الذي يمارسه اليهود في أميركا، بقدرتهم على إرهاب أي زعيم يعارضهم ومن ثم حشره في الزاوية. ومن لا يصدق ذلك يمكنه استقصاء أسباب “تراجع” القاضي غولدستون، وهو يهودي، عن تقريره حول الحرب على غزة الصادر سنة 2009. كما أنه ليس هنالك، من ناحية ثانية، زعماء في إسرائيل حاسمون وسلطويون مثل بيغن وشارون، الذين نفذا انسحابي سيناء وغزة؛ ولا يبدو أن شبيهاً لهما سيظهر في المستقبل المنظور. وفي أحسن حال، وحتى لو افترضنا حسن النية لدى إسرائيل بالموافقة على سحب مستوطنيها في الأراضي الفلسطينية، فلا شك أنها ستشترط ذلك بمنحها فترة من الزمن، قد تطول، حتى تستطيع الإعداد لاستيعاب أولئك داخلها. وإن تم ذلك ليس من المستبعد أن تتلكأ في تنفيذ ما التزمت به، مخترعة مختلف الأعذار لذلك، بحيث يتحول وجود أي عدد قليل من المستوطنين في الأراضي الفلسطينية إلى ما يشبه مسمار جحا، يستغله الصهيونيون للتدخل في الشؤون الفلسطينية الداخلية. ومن ثم تبقى الأوضاع على ما هي عليه، ويعود الحال إلى ما كان عليه سابقاً.

*

* *

   في وضع كهذا يستحسن ألا يقف الفلسطينيون جانباً “متمتعين” بالنظر إلى صعوبات إسرائيل ومشاكلها مع مستوطنيها، وما قد ينتج عن ذلك من عقد مفتعلة فيما بعد، بل أن المصلحة تقتضي التقدم باقتراحات “خلاقة” من شأنها حل مشكلة الاستيطان بتقويضه من أساسه وإفراغه من مضمونه السياسي التوسعي. ولا يحتاج مثل هذا الاتجاه إلى جهد كبير أو تضحيات جمة، بل أن المطلوب هو القليل من سعة الأفق، من خلال النظر إلى المستقبل بصورة أكثر شمولية وعمقاً.

   فمع الاعتراف بفلسطين دولة، ضمن حدود 1967، من قبل الجمعية العمومية للامم المتحدة، باكثرية تزيد على ثلثي الاصوات، نشأ وضع قانوني جديد فقد بموجبه الاستيطان اليهودي في فلسطين اية صفة شرعية؛ وهولم يكن أساسا يحظى بشرعية، في أي حال، حتى عندما كانت الضفة والقطاع تعتبران مجرد مناطق محتلة. ومن هنا فإن أي حل للصراع الاسرائيلي-الفلسطيني يجب أن يبدأ، أولا، بتثبيت مسألة الحدود دوليا والاصرار على إعتراف اسرائيل بها عنوةً. وبعد ذلك فقط تأتي البنود الأخرى، ومن ضمنها مسألة تبادل الأراضي وغيرها. ولا ضرورة للتنويه بمدى الأهمية القصوى في التمسك بجدول أعمال كهذا وتثبيته دولياً: الحدود، الحدود أولاً؛ وبعد ذلك المسائل الأخرى. ومن ناحية ثانية لا يبدو، حقيقة، أن هناك صعوبات ملموسة قد تعترض مثل هذا الاتجاه أو ما قد يترتب عليه. فالمؤسسات الدولية بأسرها، وعلى رأسها الجمعية العمومية للأمم المتحدة، اعتبرت في عشرات، بل ربما مئات القرارات الصادرة عنها، منذ الاحتلال الإسرائيلي سنة 1967 كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة آنذاك، بما فيها القدس، وحدة جغرافية سياسية قائمة بحد ذاتها؛ كما أنها لم تحد مرة عن هذا الموقف. أما الاستيطان اليهودي في الأراضي الفلسطينية فقد جوبه دائما بعداء واضح من قبل دول العالم كافة، التي لم تعترف بشرعيته ولو مرة واحدة ولم تتوقف، ولو مرة واحدة أيضاً، عن التنديد به. وحتى الولايات المتحدة، رغم اتجاهاتها المتصهينة، لم تؤيد الاستيطان الإسرائيلي مرة؛ بل على العكس من ذلك، ما أن تعلن إسرائيل عن مشروع، أو توسع، استيطاني هنا أو هناك حتى تسارع الخارجية الأميركية إلى إصدار بيانات الشجب والمعارضة. لهذا ينبغي إعتبار تثبيت حدود 1967 مطلباً مطلقا لا رجعة عنه، يجب تأمينه قبل التعاطي مع أية موضوعة أخرى.

   ومع تثبيت الحدود، وبعد ذلك، يجدر بالفلسطينيين أن يبادروا إلى “مساعدة” إسرائيل على حل مشكلة استيطانها وتوفير هذا العناء عليها، ومن ثم خدمة أنفسهم. ولأجل ذلك، لن تكون هناك ضرورة إلا لسحب الجيش الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية، الذي يفترض بإسرائيل تنفيذه، بينما يتولى الفلسطينيون حل مشكلة الاستيطان وذلك بإعلانهم، مع بداية الانتقال لعهد الدولة أو حتى قبل ذلك، أن المستوطنين اليهود المتواجدين في الضفة الغربية يستطيعون، إن شاءوا، البقاء في أماكنهم والاستمرار في العيش فيها، شرط أن يتحولوا إلى مواطنين في الدولة الفلسطينية، فيتقدمون بطلب للحصول على جنسيتها ويتنازلون عن جنسيتهم الإسرائيلية (تماماً كما يطلب من الفلسطيني المقيم في إسرائيل أن يفعل إذا شاء أن ينتقل إلى فلسطين ويصبح من مواطنيها)، ويخضعون لقوانينها؛ ومن لا يوافق منهم على ذلك ما عليه الا أن ينسحب مع جيشه إلى إسرائيل، ولمعظمهم مساكن هناك. أما المنشآت الاستيطانية، كالمساكن وغيرها، فلا ينبغي هدمها أو تخريبها، بل يجب تسليم ما يصلح منها إلى السلطات الفلسطينية، كدفعة أولية بسيطة على حساب التعويضات الجسيمة التي يفترض أن تدفعها إسرائيل للفلسطينيين ولاجئيهم عن الأضرار التي لحقت بهم خلال عقود. وبهذا ترتاح إسرائيل، ويرتاح معها الفلسطينيون، من مسرحيات الإخلاء القسري والهدم وما شابه، ويضمن الفلسطينيون حلاً معقولاً لمشكلة كثيراً ما ضايقتهم، بل قد تستغل للمس بسيادتهم.

   وقد يرى بعضهم في اقتراح كهذا نوعاً من الاعتراف الفلسطيني، وإن بصورة غير مباشرة، بشرعية الاستيطان أو، ربما، نوعاً من “الانتصار” الذي يحققه، وهذه المرة بتعاون فلسطيني. إلا أن نظرة سريعة إلى مجال التطبيق، إن تم ذلك، تظهر عكس ذلك تماماً. إن معظم أولئك المستوطنين، ونقصد هنا على وجه التحديد أولئك المتواجدين في المناطق الريفية الفلسطينية (والتي تقدّر سلطات إسرائيل عددهم بنحو مائة ألف، وإن كان هذا رقما مبالغاً به) قد جاؤوا إلى الضفة بتشجيع من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، التي كانت ولا زالت تغدق عليهم الأموال الطائلة، يقيمون في أماكنهم بحماية جيشهم فقط، الذي يتستر على عربدتهم، دون أن تكون لهم القدرة على الصمود في تلك الأماكن ولو يوماً واحداً في حال انسحابه. كما أن معظمهم، إن لم يكن كلهم، ينتمون إلى التيارات اليهودية  السلفية (المسيحيائية) الغارقة في عالم الغيبيات والأساطير والشعوذة. ومعظمهم، ومرة أخرى إن لم يكن كلهم، لن يستطيع، ببساطة، تدبير أمور حياته اليومية العادية، إن ترك وحده. ويقيناً أن الأكثرية الساحقة من هؤلاء، لو سمعت أن الجيش الإسرائيلي ينوي الانسحاب من مناطقهم لقاموا بالانسحاب منها قبله، دون أن يلتفتوا ورائهم.

   ولا يعني هذا بالضبط أن كافة المستوطنين سيغادرون المناطق المتواجدين فيها عن بكرة أبيهم، إذ من المعقول للغاية أن يبقى هنالك منهم، لأسباب دينية محضة، أو ربما إقتصادية، بضع مئات أو ربما آلاف. إلا أن هذا، إن وقع، لن يؤخر أو يقدم كثيراً في شيء. ففي إسرائيل، مثلاُ، نحو مليون ونصف المليون من الفلسطينيين، ولن يضير فلسطين تواجد واحد في الألف أو حتى واحد في المئة من ذلك العدد من المواطنين اليهود فيها. كما أن تطوراً كهذا، إن وقع، سيعتبر، على صعيد آخر، تحدياً كبيراً للعقيدة الصهيونية العنصرية، القائمة على افتراض أن اليهود لا يستطيعون العيش بأمان واطمئنان إلا في دولتها إسرائيل، بإثبات عكس ذلك، وفي دولة فلسطين بالذات دون غيرها.

   ولعله من المناسب التنويه، أخيراً، أننا لا نطالب بحق الأولوية قي تقديم اقتراحات كهذه، إذ أن غيرنا قد سبقنا إلى ذلك. فقد نسبت الصحافة الإسرائيلية، مرة، مثل هذه التصريحات لرئيس الحكومة الفلسطينية السابق سلام فياض، وإن تم ذلك على عجل واختفى بسرعة. والمطلوب هنا، لإزاحة عقبة الاستيطان وما قد يترتب عليه عن طريق استقلال فلسطين، ليس تصريحات عابرة، بل إعلاناً رسمياً ملزماً، تتبعه خطة عمل ملائمة لذلك.

   أما الموضوعة الأخرى، المتعلقة بمسألة تبادل الأراضي، فلا تتعلق بنوعية تلك الأراضي ومواقعها. ففيما يكاد يكون واضحاً أين تقع الأراضي التي تطالب إسرائيل بضمها إليها، لا يبدو واضحاً، أبداً، أين تقع الأراضي التي ستلحق بالدولة الفلسطينية في مقابل ذلك؛ وإن كان الحديث قد دار مرة عن أراض في صحراء النقب، بموازاة قطاع غزة، يفترض أن تضم للقطاع لتوسيع رقعته. ويبدو أن خطأ فلسطينياً جسيماً يرتكب في هذا الصدد، إذ رغم الأهمية في توسيع قطاع غزة المكتظ بالسكان، هنالك ضرورة أخرى، أكثر إلحاحاً من ذلك، بل أنها مسألة إستراتيجية كبرى بمفاهيم الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، ألا وهي موضوع الممر الآمن، المفترض أن يصل بريا بين شطري ما تبقى من الوطن الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، قاطعاً الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل بين الشطرين الفلسطينيين. ورغم أهمية هذا الموضوع لا يبدو أنه استوفي حقه من البحث والتمحيص. ويبدو أن الإتجاه العملي والمجدي هو مبادلة الأراضي التي تطالب إسرائيل بضمها إليها بتلك التي ينبغي أن تتنازل عنها للممر الآمن، ثم تأتي أراضي النقب المحاذية للقطاع في المرتبة الثانية من حيث أهميتها. فليس هنالك أية شكوك حول الأهمية الاستراتيجة الكبرى لممر بري آمن بين شطري فلسطين في الضفة والقطاع، بل بدون ذلك لا يمكن أن تقوم دولة فلسطينية متكاملة تجمع هذين الشطرين بصورة عملية ناجحة. ولضمان تحقيق هذا الهدف لا بد من المطالبة بسيادة فلسطينية، ولو من ناحية مدنية على الأقل، أو سيطرة ملموسة على الممر الآمن وربط التنازل عن السيادة على التكتلات الاستيطانية الكبرى بتنازل مقابل عن أراضي الممر الآمن. إن هذا الممر، عدا عن كونه ضرورياً لضمان التواصل البري بين الضفة والقطاع، وهو بحد ذاته حاجة ماسة، فإنه ضروري أيضاً لمتطلبات فلسطينية عدة حيوية للغاية، وفي أولها حركة التجارة والاستيراد ؤالتصدير بين فلسطين وباقي انحاء العالم. كما ان أرضه ستكون ضرورية، دون شك، مثلاً، لمد أنابيب الغاز والمياه وخطوط الكهرباء من غزة إلى الضفة، أو العكس، إذا كان ذلك من محطات تحلية المياه على شواطئ غزة أو شرائه من مصر، وهو ما ينطبق على الكهرباء أيضاً. كما أنه سيكون ضروريا لمد شبكات الاتصالات والانترنت والمعلومات، على اختلاف أنواعها، وغير ذلك من الخدمات والمرافق الضرورية. وإن كانت إسرائيل تطالب بالسيادة هنا عليها أن تتنازل عنها هناك. والمطلوب هنا تنازل اسرائيلي رسمي من ناحية وسيطرة فعلية فلسطينية من ناحية أخرى، وليس “تنسيقاً” مع اسرائيل لتشغيل مثل هذا الممرأو ما شابه ذلك، إذ رأينا كيف تطور “التنسيق” في أعقاب أوسلو، وما هي الكوارث التي نجمت عنه، في اعقاب ربط أي تحرك فلسطيني بموافقة اسرائيل –  ولا ضرورة لشروح إضافية.

   وليس فيما قدمنا إلا بعض ما ينبغي التطرق إليه والتعامل معه على طريق إقامة الدولة الفلسطينية وتثبيت ركائزها.

* * * * * * * * * *

[وهذا ملخص للمقال أعلاه، نشره حسن البطل في جريدة “الايام” (رام الله)، بتاريخ 25/1/2014]

أطراف النهار

صبري جريس: الحل للاستيطان اليهودي

تعريف: صبري جريس، ابن فسوطة الجليلية، خريج الحقوق من الجامعة العبرية. أحد ثلاثة أركان في “حركة الأرض” إبان ستينيات القرن المنصرم. رئيس مركز الابحاث – م.ت.ف في بيروت وقبرص. رئيس تحرير شهرية “شؤون فلسطينية” في بيروت وقبرص.

له “تاريخ الصهيونية” من جزأين. أول مرجع يستند الى مصادر في ثلاث لغات: عبرية، إنكليزية، عربية، وهو مرجع جدير للدراسات الأكاديمية العليا في جامعات فلسطين عن الحركة الصهيونية.

حالياً، عاد الى قريته فسوطة بعد اتفاقية اوسلو.

* * *

يضيق المجال عن نشر نص “مقالة بحثية”، لكنها أضافت معلومتين إلى معلومة مثبتة حول موضوع شراء الاستيطان اليهودي (الييشوف) ٦٪ من مساحة أراضي فلسطين قبل النكبة ومعظمها للإقطاعيين العرب في لبنان وسورية؟

معلومة أولى: هي من أخصب الأراضي وأغلاها في الجليل الأعلى وبين حيفا ويافا.

معلومة ثانية: استغلت الصهيونية (الييشوف قبل الدولة) تشويهات وتناقض في قانون الأراضي العثماني المؤقت لعام ١٨٥٦، لكنه بقي سارياً طيلة قرن [لاحقاً استفادت من قوانين الانتداب والحكم الأردني – ح.ب].

نقلت اسرائيل الصهيونية خبرتها في استيطان فلسطين الى استيطان الأراضي الفلسطينية عن طريق متلازمة: أمن. استيطان. ضم. سيادة. ولا يشبه استيطان الضفة سابقا في استيطان سيناء وقطاع غزة. لذا، يقترح صبري جريس اقتراحات “خلاّقة”:

١- نشأ وضع قانوني بالاعتراف بفلسطين دولة ضمن حدود ١٩٦٧.
٢- أولاً تثبيت الحدود دولياً، وبعد ذلك تأتي مسألة تبادل الأراضي. مطلب تثبيت حدود ١٩٦٧ يشكل مطلباً مطلقاً لا رجعة عنه”.
٣- حل مشكلة الاستيطان يبدأ بسحب الجيش الإسرائيلي [فك الارتباط بين الأمن والاستيطان والسيادة ح.ب].
٤- المستوطنون يستطيعون – إن شاؤوا – البقاء مواطنين فلسطينيين (مثل الفلسطينيين في إسرائيل). من لا يوافق عليه الانسحاب مع جيش الاحتلال.
٥- المستوطنات المخلاة تبقى دون هدم (كما هُدمت في سيناء وغزة) كتعويضات تدفعها إسرائيل عن أضرار عقود من الاحتلال للضفة [نهب مياه الضفة، ومصادرات أراض .. الخ].
٦- “يقيناً أن الأكثرية الساحقة من المستوطنين لو سمعت أن الجيش ينوي الانسحاب من مناطقهم لقاموا بالانسحاب قبله”.
٧- سيبقى فهم اقلية لأسباب دينية محضة / او اقتصادية .. ربما بضعة آلاف.
٨- في مسألة تبادل الأراضي غير معروف أين تقع الأراضي التي ستلحق بالدولة الفلسطينية.
يقال: توسيع قطاع غزة، الأهم من توسيع قطاع غزة هو “الممر الآمن” مع الضفة اولاً وتحت “سيطرة” فعلية مدنية فلسطينية وليس عبر “التنسيق” كما جرى في أعقاب أوسلو لفترة.
٩- مدّ أنابيب مياه وغاز ونفط وكهرباء واتصالات وانترنت ..الخ عبر الممر الآمن. “بدون ذلك لا يمكن أن تقوم دولة فلسطينية متكاملة تجمع هذين الشطرين بصورة عملية وناجحة. لا بد من المطالبة بسيادة فلسطينية على الممر الآمن ولو من ناحية مبدئية على الأقل”.

* * *

“ولسبب ما يبدو أن كبار “الإستراتيجيين” الإسرائيليين اقنعوا أنفسهم أن إسرائيل، مع توقيعها على أوسلو، رغم المعارضة لها داخل إسرائيل من هنا وهناك، تمكنت أخيراً من “احتواء” القضية الفلسطينية ووضعها في الجيب الصهيوني، من خلال حشرها في قضايا منطقتي الضفة الغربية وقطاع غزة، وتجاهل أو تهميش أبعادها الأخرى، كحق تقرير المصير والعودة وما شابه. وعندها عادت حليمة الى عادتها القديمة، وراح الإسرائيليون، بعد ان سلموا السلطة الفلسطينية السيطرة على المواقع الفلسطينية الآهلة بالسكان، في مدن الضفة وجوارها، فيما سمى المناطق “أ”، يزرعون المستوطنات، بوتيرة متصاعدة، في مناطق الضفة الريفية، فيما عرف بالمناطق “ج”، التي تضم معظم أراضي الضفة، خلال هدف واضح للسعي الى السيطرة على اكبر مساحة ممكنة من الاراضي الفلسطينية، شرط ان تضم اقل عدد ممكن من السكان الفلسطينيين، حتى لا يؤدي ضمها لإسرائيل، ان حدث ذلك يوماً، الى الاخلال بـ “التوازن” السكاني داخلها، ما قد يعرّض “طابعها” اليهودي للخطر. ويلاحظ، في هذا الصدد، ان النشاط الاستيطاني الصهيوني، في الضفة الغربية خصوصاً، قد استشرى وتضاعف مرات عديدة بعد اوسلو بالمقارنة ما كان عليه الوضع قبلها (..) المفاوض الفلسطيني، نتيجة لانعدام التكافؤ في ميزان القوى، لم يكن عملياً “يفاوض” إسرائيل، في اي من جولات اللقاءات معها، بل كان يتلقى إملاءاتها من جهة ويفتش عن عروض قد ترضيها من جهة أُخرى.

حسن البطل

تاريخ نشر المقال 25 كانون الثاني 2014

الأرشيف