هل يعود الربيع العربي الى مساره الصحيح ؟

 

هل يعود الربيع العربي إلى مساره الصحيح؟

جريس جريس (ابو سامر)

   تقترب ثورات الربيع العربي من مرور ثلاث سنوات على انطلاقتها منادية بعدد من الأهداف والشعارات تشكل ما يشبه القاسم المشترك لها جميعاً، أي الثورة على الدكتاتورية والتسلّط والتوريث والفساد بكل أشكاله، والدعوة لإقامة أنظمة حكم ديمقراطية تمنح السلطة للشعب وتحمي حقوق المواطن وكرامته وتحقق الحرية والعدالة والمساواة.

   لكن هذه الثورات ما تزال تتخبط في طريقها ببطء وارتباك وتراجع أحياناً، بل وتتعرض للاختطاف والسطو من جانب القوى المضادة وعلى رأسها القوى الأصولية المستغلة للدين أو فلول الأنظمة السابقة التي تحاول إعادة تنظيم نفسها لاستعادة السلطة.

   ففي مصر وتونس تمكنت القوى الاسلاموية من خطف الثورة والوصول إلى سدة الحكم دون أن يستقر لها الأمر، وهي تواجه حالة من التخبط والفوضى دون القدرة على تقديم أي بديل. وفي ليبيا حسم الأمر مؤقتاً لصالح تحالف برلماني شبه حزبي قبلي غريب. وفي المغرب استطاع الاسلامويون خطف الثورة والوصول غلى سدة الحكم تحت جناح النظام الملكي. وفي سوريا تحولت إلى حرب أهلية وحشية ومدمرة لا تبدو لها نهاية في الأفق القريب. وفي اليمن والعراق والبحرين والسودان والصومال ولبنان تتفشى كل أنواع الحروب والصراعات. وفي الأردن ولبنان يبدو أن الحالة مستعصية وتحتاج لأكثر من ثورة أو إصلاح. أما في دول الخليج العربي وعلى راسها السعودية فقد احبطت هذه الثورات وهي في مهدها، ومن غير المتوقع حصول تغيير قريب بسبب التركيبة الخاصة لتلك الدول.

   ولا شك أن لهذا التخبط والفوضى، بل والضياع أحيانا،ً أسباباً يصعب حصرها كلها او مناقشتها في مقال كهذا، حيث سنكتفي هنا بعرض عدد من ألاسباب الرئيسية تكفي في اعتقادنا إلى دفع المرء لاستشفاف العوامل المؤثرة على هذه المسيرة وأهدافها السامية، وتحديد مواطن الضعف والأخطار المحدقة بها.

*

* *

   هناك، اولا، اسباب ذاتية نكتفي هنا بمحاولة عرض تشخيصي عام لها، ناجمة عن تخلف الانسان والمجتمع، المتمثل في جملة من الرواسب  السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية، وعلى رأسها تعدد الانتماءات والهويات الأثنية والدينية والاقليمية والطائفية والقبلية بل والعائلية وما ينجم عن ذلك من تفاقم للصراعات والتوترات والاحباطات والانحرافات السياسية والاجتماعية، كالتمسك  بالتقاليد وسيادة الروح الفردية والاحتماء بالدين أو الطائفة أو القبيلة. وكل ذلك يقود حتماً إلى تفاقم الفساد الإداري والمالي والوساطة والمحسوبية والغش، وما يترتب على ذلك من من خلل في أنماط التفكير والسلوك ومن قصور في الانتاج والتطوير وفي استخدام العلم والمعرفة.

   يضاف إلى ذلك القمع المتواصل الذي تعرض له الانسان العربي عبر الاجيال، مما جعله يعاني من قلق وجودي شامل على حياته وأسرته ومستقبله ومصيره، وأصبح يسيطر على قيمه ومواقفه ويملي عليه سلوكه إلى درجة تنفي عنه إنسانيته وتفقده توازنه وتحركه. وهذا يدفعه نحو انفعالات وتصرفات بدائية خطيرة، وقرارات عاطفية وغريزية متخبطة وأحكام تعسفية متشنجة وغياب لعقلانية اتقدير والتفكير.

   ويترافق مع هذا قصور وهشاشة المؤسسات التعليمية والتربوية والثقافية والاعلامية التي يفترض أن تعمل على بناء الانسان الصالح لكنها بدلاً من ذلك تعمد، من حيث تدري أو لا تدري، إلى ترسيخ كل هذه السلبيات بل وإلى “تطويرها” أحياناً خدمة للمصلحة الذاتية أو الآنية الضيقة أو ضماناً للمحافظة على الوضع القائم لصالح المتسلطين أو المستفيدين منه.

   هذه الرواسب تدفع الانسان العربي إلى اليأس والإحباط وإلى الهروب من واقعه نحو التعلق بالاوهام والاحلام. والهرب إلى أمجاد الماضي ، أو اللجوء إلى الدين، أو السعي إلى النزوح والاغتراب اللذين أصبحا حلماً للكثير من المواطنينً. ولذلك يغامرون بحياتهم في سبيل تحقيقه، أو إلى الثورة على الواقع دون القدرة على الخروج من تأثير هذه الترسبات، فتتفاقم لدى هذا الانسان مشاعر النقص والخزي الذاتي والانحراف إلى الوحشية والعنف والإجرام الذي شهدنا الكثير منه عبر هذه المسيرة.

*

* *

   أما العامل الثاني فهو ذلك المسلسل الذي لا نهاية ولا حصر له من الاختراقات الأجنبية، عموماً، والغربية خصوصاً على كل المستويات السياسية والاقتصادية والجغرافية والفكرية بل والنفسية، التي تسهم في تعزيز قابلية البعض للتبعية وتطويع إرادتهم للأذعان، للانتهاء بهم إلى الفوضى واليأس وشل الإرادة. ومن المفجع حقاً أن تتحول التدخلات والاختراقات الاجنبية إلى حلم بل استجداء من جانب القوى المستضعفة أو القوى الحاكمة على السواء. ولا حاجة هنا لتقديم الأدلة على ذلك، إذ تكفي الاشارة هنا، للدلالة على ذلك، إلى الحالتين الليبية والسورية.

   ولا شك أن تدخلات الدول الاجنبية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تابع ومحكوم لمصالح تلك الدول والتنافس فيما بينها، وليس لواجب انساني أو مبدأي أو قانوني، كما تدعي، كنصرة المظلوم وحماية حقوق الانسان ومقاومة الاضطهاد وتطبيق القانون. وتكفي الاشارة هنا لبعض الأمثلة، وذلك حين تدخلت الولايات المتحدة على رأس تحالف من 33 دولة، بينها عدد من الدول العربية، للقضاء على حكم الرئيس صدام حسين في العراق “لتخليص” الشعب العراقي من الدكتاتورية و”حماية” جيرانه والعالم من خطر أسلحة الدمار الشامل، التي لم يعثروا على أي وجود لها. ولكنهم، رغم ذلك، فشنوا حرباً مدمرة وأقاموا، كما يدعون، نظاماً ديمقراطياً سرعان ما تبين أنه أسوأ بأضعاف مضاعفة من سابقه، إذ أنه يرتكز على العنصرية والطائفية والاقليمية أو الجهوية والقبلية، بل أنه يحوي كل اشكال الفساد والاجرام. وبذلك نجحت في إثارة كل التناقضات في ذلك البلد وأدخلته في صراع دموي لا تبدو نهاية له، ربما لأجيال.

   ويعتبر تعامل القوى الأجنبية مع النظام السوري مثالاً أكثر وضوحاً لصراع المصالح بين تلك الدول. ففجأة لم يعد حكم الديكتاتور والطاغية والجزار بشار يشكل أي خطر أو إحراج لكل تلك الدول، ولم تعد كل صنوف القتل والتنكيل والجرائم المرتكبة يومياً كافية للدعوة لاسقاطه أو محاكمته، بل ينبغي فقط الاكتفاء “بتأديبه” عن طريق نزع أحد أسلحة الاجرام والتدمير والقتل، على ايقاع التدخل الخارجي ومصالحه الذي يحرص، كما يبدو، على إطالة أحد الصراع لأجيال اخرى.

   فليس صدفة أن تتراجع دول الاتحاد الاوروبي عن تسليح المعارضة السورية تحت ضغط الولايات المتحدة، بعد أن اعلنت بريطانيا وفرنسا أنهما ستمضيان في تسليم المعارضة حتى دون موافقة بقية دول الاتحاد الاوروبي. وبذلك تتمكن الولايات المتحدة من خلق حالة من “الفوضى المنظمة” ، وفقاً لآخر ابتكاراتها، فيستمر الصراع بالوتيرة التي تختارها بما يخدم مصالحها ويبعد الخطر عنها وعن حلفائها؛ ضاربة بعرض الحائط الواجب الانساني أو القانون الدولي الذي تتشدق به. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال جوهري : كيف يكتفي القانون بانتزاع أحد أسلحة المجرم واطلاق يده في مواصلة الاجرام بكل الوسائل الأخرى؟

   ويعتبر موقف هذه القوى من الثورة المصرية نموذجاً آخراً لهذه السياسات الامبريالية الخبيثة والمعيبة بما تنطوي عليه من خزي وعار لتلك الدول سواء في مواقفها من نظام مبارك او تأييدها العلني للمتآمرين على الثورة ومبادئها وأهدافها وانجازاتها، بعد ان ركب هؤلاء على موجاتها وسارعوا باختطافها لاقامة نظام شمولي أصولي أسوأ من نظام مبارك الذي ثار الشعب المصري ضده. والهدف من ذلك واضح للغتية، وهو “تمكين” تلك القوى من التحكم بمصير مصر، لما في ذلك من انعكاسات على بقية العالم العربي، وبهدف إثارة صراع مرير آخر في مصر، على الطريقتين العراقية والسورية، ولكن “بنكهة” مختلفة وفقاً لمقتضيات الواقع. وعليه أصبحت فجأة حركة الاخوان المسلمين، المعادية للديمقراطية والحرية والمساواة وسيادة الشعب، حركة مظلومة تستحق التأييد والتعاطف بل تقديم الدعم لها؛ وهنا أيضاً بالقدر الكافي لإدخال مصر في صراعات دموية لا تعرف لها نهاية بسبب التناقضات القاتلة بين طرفي الصراع العلماني والديني.

*

* *

   والعامل الثالث الذي أثّر في هذه المسيرة هو ركوب الأحزاب الاصولية والدينية على أمواج هذه الثورات واختطافها أو محاولة اختطافها لإقامة أنظمة حكم بديلة تشكل النقيض الكامل لها ولأهدافها. وقد عمد الاصوليون إلى إتباع أكثر من أسلوب للوصول إلى السلطة كالانقلاب او الثورة كما في أفغانستان وايران، أو اختطاف السلطة كما في السودان سنة 1986 وفي غزة سنة 2006 وفي المغرب قبل سنتين تقريباُ، ثم اخيراً الابتكار الجديد عن طريق التظاهر بتأييد أهداف تلك الثورات وطموحاتها، بل أيضا تشكيل احزاب سياسية وخوض الانتخابات، وهو ما يتنافى مع تعاليم الشرع، مستخدمين أسماء رنانة كالعدالة والتنمية، الوطن، الفضيلة، الحرية والعدالة، النهضة، إلخ، كما حدث في مصر.

   ومن أجل الوقوف على الاساليب الملتوية والمواقف المتناقضة التي تنتهجها التيارات الأصولية للسيطرة على تلك الثورات للوصول الى السلطة، حتى وإن كانت متنافية مع أبسط ما تؤمن به أو تدعو أليه، لا بد هنا من الإشارة إلى حدّة ومدى التناقضات بين هذه التيارات من جهة وبين الدولة المدنية والعلمانية والليبرالية من جهة أخرى.

•  تؤمن العلمانية ودولتها المدنية بمفهوم الدولة والوطن بينما تؤمن الأصولية بمفهوم “الأمة” العابر للقارات، وإن أكل الدهر عليه وشرب، وتعتبر الدول والأوطان اموراً ثانوية.

•  تؤمن العلمانية بأن السلطة للشعب ومن الشعب بينما تؤمن  الأصولية بان الحاكمية لله وان الحاكم منفذ للأحكام الشرعية.

•  تؤمن العلمانية بالمساواة بينما تؤمن الدولة الدينية بالتمييز فهناك المسلم، الذمي، المراة، الكافر، الفاسق،الخ، والحقوق متفاوتة جداً بين هذه الفئات أو الطبقات.

•  العلمانية والديمقراطية نظام ديناميكي متغير وفقاً للاحتياجات، بينما الأصولية نظام جامد فالحلال والحرام ثابتان مدى الزمن.

•  تؤمن الديمقراطية بالتناوب على السلطة وفصل الدين عن الدولة بينما تدعو الأصولية إلى نظام ثابت يدمج بين الدين والدولة ولا مكان إلا لسلطة واحدة.

•  تتعاطى الديمقراطية مع الحاضر والمستقبل بينما تنظر الأصولية إلى الوراء، إلى الخلافة والفتوحات واستعادة الماضي المستحيل.

•  تقوم الديمقراطية على حرية الاختيار (للانتخابات) بينما تقوم الاصولية على الشورى، وحكم الشورى غير ملزم حتى بالاكثرية، كما يستثني منه غير  المسلمين والمراة وغيرهم.

•  الديمقراطية تؤمن بالحرية بينما لا تعطي الأصولية الحق في الخروج عن سلطة الحاكم إلا إذا خالف الشرع وارتكب جرماً بواحاً.

•  تؤمن الديمقراطية بالفصل بين السلطات بينما ترتكز الأصولية على سلطة واحدة هي المسؤولة عن كل شئ.

   وهناك بالطبع أسباب فرعية كثيرة تشكل هي الاخرى موانع وحواجز وعثرات أمام امكانية تحقيق أي توافق أو تفاهم بين المعسكرين. لكن ما أشرنا إليه يعتبر كافياً لتسليط الضوء على ما ينبغي إصلاحه أو تغييره أو تقليص أخطاره إلى أقصى الحدود الممكنة. وباختصار فإن عزل الطغاة وتبني بعض أدوات الديمقراطية لصندوق الاقتراع أو  إقامة البرلمانات ليس كافياً وقد يقود أحياناً إلى العكس من المرجو أو قد يستغل من قبل القوى المضادة للثورة التي ينبغي اعتبارها فعلاً مستمراً ومتواصلاً للبناء والتطوير الدائمين ووضع الحلول الواقعية والعلمية.

   ولا بد من التحذير هنا أنه حتى لو وصلت القوى الأصولية إلى السلطة واستقر لها الحال فالنار ستأكل بعضها بعضاً لكثرة التيارات داخل هذه القوى واشتداد الصراع بينها على السلطة. وتكفي الإشارة هنا إلى أن العراق وحده يعاني من وجود 35 تنظيماً وميليشيا لهذه التيارات، التي ترتكب ابشع الجرائم والمذابح ضد بعضها البعض. والوضع لا يختلف كثيراً عن العراق في بقية الدول العربية.

   من هنا نعتقد أنه إذا لم تتجه ثورات الربيع العربي إلى التعاطي الجدي مع هذه الأسباب والعوائق وإزالتها بل محوها إن أمكن، فإنها ستغرق في الضياع والفوضى والفشل، بل ستنحرف نحو الأسوأ دون تحقيق أي من أهدافها كما يطمح أعداؤها من الخارج والداخل.

   وهذا يتطلب إعادة بناء الانسان المؤمن بالعلم والمنطق والعدل والمساواة والحلم والهدف المشترك، ونبذ كل أشكال التعصب الديني والطائفي والعرقي والقبلي، والقيام بإصلاح جذري لكل مؤسسات الدولة وعلى راسها المؤسسات التعليمية والتربوية والثقافية والإعلامية والإدارية والفصل بين السلطات الحاكمة والقضائية والتشريعية والتنفيذية. والاهم من ذلك كله فصل الدين عن الدولة. وبدون ذلك ستستمر الصراعات وتتأجج لتتحول إلى حروب دموية مدمرة لا تعرف نهاية لها.

*

* *

   على الرغم من هذا الوضع شبه المأساوي، هناك بوادر مشجعة نحو بداية تغيير إيجابي، على الأقل في طليعتي دول الربيع العربي، مصر وتونس، يبدو معها أن طريق الثورة في البلدين يشهد تصحيحا واعدا نحو تحقيق الآمال المعلقة على هذا التحول التاريخي.

   ففي مصر لم تمر إلا فترة قصيرة، لا تزيد عن سنة، حتى إتضح لجماهير الثورة عقم أطروحات المتاجرين بالدين وممارساتهم. ولذلك سرعان ما نشأت، بشكل شبه عفوي، حركات تصحيحية، لعل أبرزها حركة “تمرد” التي ساهمت في تفجير ثورة ثانية، مشكلة صمام أمان للنضال ضد الانحراف عن المسار الصحيح، لتتحول فيما بعد إلى عنصر رئيسي في العمل لتحقيق التغيير المنشود، بإعادة المسار والجهد نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.

   فهل يعود الربيع العربي إلى مساره الصحيح؟

         

 

Archives