الفكر السياسي الصغير لمخاتير فلسطين الكبار
أين حركة “تمرّد” الفلسطينية ؟
صبري جريس
تمكنت المقاومة الفلسطينية المسلحة في غزة، خلال الحرب التي شنتها على اسرائيل، في تموز وآب 2014، نسبياً ووفق المفاهيم الفلسطينية، من تحقيق انتصار لا بأس به على المحتل الإسرائيلي، تتمثل في إقناع الصهاينة أنهم غير قادرين عسكرياً على احتلال قطاع غزة، وان فعلو ذلك فرضاً فإنهم لن يستطيعوا الاستمرار في السيطرة عليه، وذلك على الرغم من آلة التدمير العسكرية التي يملكونها، والخسائر الفادحة التي لحقت بقطاع غزة وأهله، مادياً وبشرياً. بل إن لجوء جيش الاحتلال إلى عمليات التدمير الواسعة وقتل المدنيين دون تمييز ليس، بحد ذاته، إلا دليلاً على فشله في المواجهات مع جنود فلسطين من رجال المقاومة، إذ لم تحدث هناك ولو مواجهة قتالية واحدة، وكلها تم إسرائيليا مع ما تسمّى وحدات النخبة في جيشهم، إلا وأسفرت عن وقوع قتلى وإصابات بينهم، وبصورة لا يستطع معها جيشهم ومجتمعهم “المدللين” تحملها طويلاً. ولم يكن صدفة أن تبدي اسرائيل، خلال هذه الحرب، استعدادها، أكثر من مرة، للوصول إلى اتفاق تهدئة أو إطلاق النار. وإسرائيل، أصلا، لم تكن معنية بهذه الحرب ولا باستمرارها، وهذه المرة لم تكن أساسا هي التي بدأتها، بل إنها فرضت عليها من قبل المقاومة التي راحت تعد لها وتعمل على استدراج اسرائيل وجرها إليها، لاعتبارات لا يبدو أنها كانت كلها خاطئة، وخصوصاً تلك منها المتعلّقة بمحاولة كسر الحصار المفروض إسرائيليا على قطاع غزة من خلال “تفاهم”، والأدق “تواطؤ” فلسطيني وعربي رسميين.
بين هواة السياسة وهواة المقاومة
لم تختلف النتائج السياسية، التي ترتبت على جولة القتال الأخيرة، كثيراً عن تلك التي سبقتها وجاءت في أعقاب الاعتداءات الاسرائيلية السابقة على القطاع. فقد انتهت هذه الجولة، كسابقاتها، بـ”اتفاق” وقف لإطلاق النار تضمنته “تفاهمات” أو “ترتيبات” أو “تسهيلات”، يفترض أن تساهم في عودة الهدوء إلى المنطقة. والفرق الوحيد بين هذه الجولة وسابقاتها هو أن ” التسهيلات” التي نجمت عنها جاءت، هذه المرة، اكثر شمولية، نسبياً، عما عهدناه سابقاً. وليس في ذلك إي ضرر، بالطبع، إلا أن هذا، بحد ذاته، ليس إلا دليلاً آخر ساطعاً على ذك الفكر السياسي الصغير، السخيف، التافه والمتخثر، المسيطر على عقليات كافة من تسمى “قيادات” فلسطينية، ودون استثناء. فتلك الزعامات كلها، ابتداء من وجهاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي أولهم رئيسها عباس، مروراً بحركة فتح ولجنتها المركزية وانتهاء بحماس ومكتبها السياسي، وعلى رأسهم مشعل وهنية، وباقي شلل التنظيمات القزمية، العاملة هنا او هناك، عسكرية كانت ام مدنية، لا يستحق أي منها أن يوصف إلا بأنه مختار أو “عمدة” (على الطريقة المصرية)، ولا يرى ابعد من انفه؛ بل ان وصف أي من أولئك بأنه “قائد” ليس إلا اهانة لمفهوم القيادة في أي زمان أو مكان.
إن المختار، وهي الوظيفة التي ورثتها المنطقة عن العثمانيين، ليس إلا “زعيماً” عادياً، ولكنه جبان، متلوّن، وانتهازي قمة “طموحه” إرضاء مأمور قسم الشرطة، ومؤخراً أضيف إليه مدير المخابرات، وكذلك المحافظ المسؤولين عن منطقته، وذلك حفاظاً علي كيانه ومصالحه، أولا وأخيرا، وان تم ذلك على حساب “رعيته”. وهذا الأسلوب في القيادة، بل كنه “التفكير” و”التخطيط” الناجمين عنه، هو ما يميز أداء مخاتير فلسطين جميعاً، فكلهم يحسب خطاه ويتحرك في ظل مأمور القسم او ما يفهمه على انه رغبته. ومأمور القسم بالنسبة لأولئك جميعاً، كلهم وكلهن، هو الاحتلال الإسرائيلي. والواضح إن ذلك المستوى البائس من الأداء لمجموعات المخاتير تلك، القائم على “مراعاة خاطر” الاحتلال واخذ مصالحه بالاعتبار لا يؤدي إلا إلى تقزيم قضية فلسطين وتحجيمها، في أحسن الأحوال، ونهاية كارثة أخرى، إن لم يتم تداركه، وهو ما ينبغي عمله، بالتي هي أحسن – أو أسوأ.
إن أزمة غزة، في أساسها، لبست إلا نتاجاً لمفاهيم وممارسات مخاتير فلسطين، نشأت وتبلورت تحت تأثير لعنة اوسلو والأحجبة التي تستعمل في التعاطي معها. فقطاع غزة هو، أساسا، منطقة فلسطينية محررة اضطر العدو المحتل إلى الجلاء عنها سنة 2005، تحت ضربات المقاومة، على كل فصائلها. صحيح إن اسرائيل عرضت انسحابها آنذاك من غزه بأنه “فك ارتباط” بالقطاع، من جانب واحد فقط، وذلك لكي لا تضطر إلى التنسيق مع سلطة اوسلو أو عقد اتفاقيات سياسية معها، أو مع الفلسطينيين عموما. إلا أن الحقيقة هي إن قوات الاحتلال ومستوطنيه اضطروا إلى الجلاء عن تلك المنطقة، إن لم نقل الهرب منها، بعد أن أصبحت حياتهم هناك لا تطاق ولم يعد بإمكانهم السيطرة على ما يجري في القطاع، نتيجة للمقاومة المسلحة المستمرة، التي أجبرتهم في ساعات الليل على الانكفاء في جحورهم وفي النهارعلى الاهتمام بالمحافظة على أنفسهم من الهجمات التي تشن ضدهم. فخلال تلك الفترة بثت، مثلاً، الإذاعة العبرية الإسرائيلية، في إحدى نشرات إخبارها الصباحية، خبراً يقول أن الليلة الماضية كانت الاولى منذ سبعة أشهر التي لم تسمع خلالها أصوات إطلاق نار في غزة. إي، باختصار، إن ما حدث في قطاع غزة آنذاك كان شبيهاً بما حدث في جنوب لبنان قبل ذلك ببضعة سنوات. ففي المنطقتين فقدت اسرائيل، نتيجة للمقاومة الشرسة التي واجهتها، السيطرة على الأرض وسكانها، ولم يعد لديها ما تستفيد منه مع استمرار احتلالها، فانسحبت بانتظام من المنطقة الأولى سنة 2000 والثانية سنة 2005.
ولو كان هناك تفكير سياسي سليم، أو تخطيط للنشاط المستقبلي، ولو بالحد الأدنى، لكان من المفترض بسلطة اوسلو الفلسطينية التعامل مع القطاع كمنطقة فلسطينية محررة خالية من الصهيونيين ونفوذهم، والمسارعة إلى الانتقال اليها تدريجيا والعيش فيها والعمل منها، بعيداً عن الضغوطات الشخصية والسياسية التي تتعرض لها في رام الله، ومن ثم جعلها مركز النشاط السياسي الفلسطيني ومقر مخططاته المستقبلية، بما في ذلك “التفاوضية” منها، التي يكاد أبو مازن يموت ولعاً بها، وان كانت عبثية ومدمرة. إلا أن هذا بالذات ما لم يحدث، ليس فقط لضيق الأفق والتخثر الفكري والانهزامية لدى أهل اوسلو، بل لأن اسرائيل، التي تعرف تلك الجماعة جيداً، وخصوصاً تخاذلها ونقاط ضعفها، سارعت إلى إملاء شروطها عليها، من خلال العربدة الإسرائيلية المعهودة، وأجبرتها تحت تهديدات عديدة، منها إخراج المناطق الفلسطينية المحتلة من اطار ما يسمى الحزام الجمركي الإسرائيلي، القبول بـ”الرؤية” الإسرائيلية لمستقبل القطاع، وفرضت على الزعامة الفلسطينية تنفيذ شروطها لفرض حصارها على القطاع، بحيث يستمر الكيان الصهيوني في التحكم بمقدراته، ولكن هذه المرة بأيد فلسطينية. وتولّى يومها صبي المخابرات محمد دحلان، حبيب أجهزة الأمن والتجسس الإسرائيلية جميعاً، في إطار منصبه كـ”وزير” في حكومة اوسلو الفلسطينية، تنفيذ هذه الخطة في إطار ما يسمى “اتفاق المعابر” مع اسرائيل، الذي منح الكيان الصهيوني سيطرة مطلقة على كافة المعابر إلى غزة وفرض عليها حصاراً محكماً، لم يتعهد الفلسطينيون فقط بتنفيذه، بل تم جر الأوروبيين وحتى مصر مبارك إلى المشاركة في ذلك، لضمان أقصى مدى ممكن من الرقابة المحكمة على القطاع واستمرار التحكم بمصيره ومصير أهله، بما في ذلك حتى كميات ونوعية الأغذية المسموح بإدخالها للقطاع ، وذلك حفاظاً على “امن” اسرائيل – وكذلك على نِعَم العيش لأهل اوسلو في رام الله.
وكأن هذه الكارثة، على الفرص التي ضاعت جراء ذلك، لم تكن كافية، إذ سرعان ما تبعتها كوارث أخرى، وكلها ناجم عن قلة عقل وقصر نظر سياسيين مذهلين لدى الزعامات الفتحاوية. ففي عام 2006 جرت الانتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني، بعد إن كانت قد عقدت في السنة السابقة، 2005 الانتخابات لرئاسة السلطة وفاز فيها محمود عباس، ليحل محل الراحل عرفات الذي توفى مسموماً من قبل الصهيونيين سنة 2004. وأراد عباس تدشين فترة رئاسته الميمونة بإجراءات “ديمقراطية” فذة، لا مثيل لها، تتماشى مع حنكته السياسية، فقام بتعديل قانون الانتخابات الفلسطيني، بحيث يتم اختيار نصف أعضاء المجلس وفق نظام الدوائر الانتخابية والنصف الآخر وفق قوائم شخصية. وكانت النتائج كارثية، إذ تحولت الأقلية إلى أكثرية مطلقة، في إجراءات غريبة يبدو أنها لا يمكن أن تتم إلا في فلسطين. فقد انقسم مرشحو قبائل فتح على أنفسهم، في تلك الانتخابات، خصوصاً بعد أن راح عباس يعمل حتى على لجم حركته، على اعتبار انه “رئيس” للفلسطينيين جميعاً، وبات من غير اللائق أن يحسب على فتح لوحدها، مما قد يمس بـ”عظمته”، فترشح عنهم وعن بغض التنظيمات القزمية عدد كبير نسبياً في كل دائرة راحوا ينافسون بعضهم البعض جميعاً. أما أتباع حماس، الذين يسيرون كالقطيع وراء شيخهم ويلتزمون بلعب الدور المناط بهم، فقد رشحوا فقط العدد المطلوب من الأشخاص وصوتوا لهم جميعاً . وبالتالي اسقط مرشحو فتح المتنافسين مع زملائهم بعضهم البعض، بعج أن تناثرت الاصوات بينهم، ولم يحصل إي منهم على عدد الأصوات الكافية لانتخابه، بينما فاز مرشحو حماس بأكثريتهم. وكانت النتيجة أن حصلت حماس، التي حصدت اقل من نصف أصوات الناخبين عموماً، على ثلثي المقاعد في المجلس التشريعي، في إجراءات “ديمقراطية” زائفة، لم يحدث مثلها إلا مرة في الجزائر، وفي حينه ألغيت نتائجها. ومضى عباس في “ديمقراطيته” فكلف إسماعيل هنية بتشكيل أول حكومة حمساوية، وهكذا كان. وحتى الآن لم يعرف من هما ذاكين الجاسوسين الإسرائيلي والحمساوي، الذين اخترقا مخيخ عباس ومخيخات مستشاريه وبطانته، من جهتي اليمين والشمال، ودفعوهم إلى اختيار طريق، بمحض إرادتهم، فقدوا معها الأكثرية السياسية التي كانوا يتمتعون بها لصالح اكبر مناؤيهم وأعدائهم السياسيين.
ولم تكن هذه الكوارث الوحيدة التي رافقت قدوم عباس إلى السلطة. فقد أراد الرجل، كما بدا واضحاً مع بداية عهده، التخلص من ارث عرفات من جهة وانتهاج طريق يمكن أن يكون خاصاً به من جهة أخرى. ولذلك عمد بعد اختياره/ تعيينه/ تسميته رئيساً للمنظمة اثر وفاة عرفات مباشرة واستمر في ذلك بعد انتخابه، إلى التخلص من كل من كان محسوباً على عرفات، أما بنقلهم من أماكن عملهم وإحالتهم إلى التقاعد. وطبّق ذلك بشكل خاص مع العاملين في الاجهزة الامنية، الذين تعرّضوا لإغراءات مالية تقاعدية غير مسبوقة لحملهم على ترك الخدمة ومن ثم الاستعاضة عنهم بكوادر جديدة، ممن يعتبرون العمل في مجال الأمن مجرد وظيفة وليس خدمة وطنية، بما يساعد على “التنسيق”، إي التعاون مع أجهزة الأمن الإسرائيلية والتبعية لها. وتولى الجنرال الأميركي دايتون تدريب تلك القوات، التي أطلق عليها بعضهم عليها اسم “كتائب دايتون”، بصورة جاءت معها ملائمة للغاية للحفاظ على “الهدوء” و “الاستقرار” في الضفة، بما يخدم المصالح الامنية الإسرائيلية ورخاء مستوطنيها على أحسن وجه. والى جانب ذلك سعى الرجل حثيثاً إلى حل مشاكل المطاردين، وخصوصاً من كتائب شهداء الأقصى، وذلك بعقد “صلح” بينهم وبين أجهزة الأمن الإسرائيلية، فساد الهدوء تماماً وترسخت السيطرة الإسرائيلية، وراح عباس يطلق أناشيد “المفاوضات” و”السلام” في آذان طرف صهيوني لم يكن أساسا معنياً بها، ثم تعاظم اشمئزازه منها بعد أن احكم سيطرته على فلسطين، وخصوصاً في الضفة، وانطلق لتنفيذ مخططاته الخاصة به، وبالذات توسيع استيطانه وتقويته، تمهيدا لابتلاع فلسطين بأسرها.
وبموازاة ذلك قامت حكومة حماس، من جهتها، بتأسيس جهاز امن رسمي خاص بها في غزة أسمته “القوة التنفيذية”، راح يسيطر تدريجياً على الأوضاع في غزة عامة ويجيّرها لصالح حماس دون غيرها. ولم يحظ هذا التطور، على ما ينطوي عليه من بسط السيطرة الحمساوية، بإعجاب اسرائيل أو موافقتها فقامت، كما يليق باحتلال غاشم و”مدلّل” فلسطينياً، باعتقال نحو ثلث أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني ونصف وزراء الحكومة الفلسطينية الحمساوية، فيما راح الإعلام الإسرائيلي يتحدث علناً عن انقلاب يعده محمد دحلان ضد سلطة حماس في غزة بهدف القضاء عليها وضبط الأمن هناك، لصالح التنسيق مع اسرائيل بالطبع. فما كان من حماس إلا أن سارعت بتنفيذ انقلابها الخاص بها، على طريقة “افطر بهم قبل أن يتغدوا بك”، فإنقضّت بوحشية ودموية على نظام السلطة في غزة وأمعنت في قتل أبناء فتح والتنكيل بهم، ومنهم من رماه اشاوسة حماس من الطابق السادس عشر إلى الأرض، وأقامت سلطة حمساوية “نيّرة” راحت تتحكم في أوضاع قطاع غزة على هواها. ومن جهتها لم تتردد سلطة رام الله في الرد على ذلك فسارعت إلى “إقالة” حكومة حماس، التي رفضت القبول بذلك، ومن ثم تشكيل حكومة جديدة في الضفة. ومنذ ذلك الوقت، إي منذ 2006، تواجدت في فلسطين 1967، المقسّمة أصلا إلى جزأين، حكومتان متناحرتان، تتنازعان على شرعية التمثيل الفلسطيني، واحدة في الضفة وأخرى في القطاع، على بؤس أداء كل منهما – إلى أن أقيمت ما سميت حكومة التوافق الوطني قبل فترة وجيزة من نشوب جولة القتال الأخيرة. ولم يكن في ذلك إلا ما يزيد في حالة الضياع والتشرذم وانسداد الأفق والتيه التي كانت مسيطرة أساسا على النشاط الوطني الفلسطيني برمته، ويحكم السيطرة الإسرائيلية عليه.
الإخوان اليهود يسرحون ويمرحون
لم يكن الكيان الصهيوني، في إي حال، بحاجة إلى هذه الحالة من الوهن الفلسطيني لكي يثابر على التمسك بمواقفه المتصلّبة، المعادية للفلسطينيين وحقوقهم، ومن ثم سعيه المستمر إلى السيطرة عليهم، تمهيداً لإلغائهم والحلول محلهم. فليست هناك شكوكاً كبيرة في أن الموقف الإسرائيلي عامة بمختلف سياساته واتجاهاته، قد تغيّر نحو الأسوأ، بل حقيقة الأسوأ كثيراً، خلال العشرين سنة الماضية، إي منذ اغتيال رابين وحتى اليوم. فقد اختفت تدريجياً خلال تلك الفترة، المواقف التي كانت تبدو وكأنها عقلانية، وان لم تكن ملائمة في أسسها لأي حل معقول للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وحل محلها خطاب ديني يهودي متعصب ومتزمت، منغلق على ذاته وغارق في الغيبيات والأوهام. ففي اسرائيل يسيطر حالياً الإخوان اليهود (على وزن الإخوان المسلمين)، بكافة إشكالهم وصورهم واتجاهاتهم . والمنطق الذي يحكم تصرفاتهم ويحركهم ويحدد مواقفهم هو موقف إخواني صرف، عدا على انه يستند، في الحالة الإسرائيلية، إلى الافتراضات الدينية اليهودية، بدلا من تلك الاسلاموية، وان كان التياران، المتهود والمتأسلم، لا يختلفان كثيراً في منطلقاتهما الدينية عن بعضهما البعض – إن كانت “هَلَخاه” هنا أو “شريعة” هناك.
ولا يحتاج المرء إلى جهد كبير للوقوف على عمق هذه التيارات الأصولية اليهودية واتساع نفوذها وتغلغلها داخل الكيان الصهيوني، وفي اكثر من مجال وناحية، ومن ثم سيطرتها على سيامات اسرائيل بأبعادها المختلفة . فرئيس حكومة اسرائيل نتنياهو يلخص، مثلاً، الموقف الإسرائيلي في مسألة حل الصراع الصهيوني مع الفلسطينيين في ضرورة استجابة أولئك، ومن ثم إعلان موافقتهم، على طلبين إسرائيليين اثنين فقط، “بسيطين” للغاية، أولها الاعتراف بـ”يهودية” اسرائيل والثاني مراعاة متطلبات “أمنها”، والالتزام بها. والتفسير البسيط للغاية لهذين المطلبين “البريئين” هو انه على الفلسطينيين الإقرار بصحة الرواية الصهيونية وتبنيها، وبالتالي الاعتراف بـ”حق” اليهود في “ارض اسرائيل”، باعتبارها ملك لهم جاءهم “هبة” من العناية الإلهية، ولهذا لا حق لغيرهم، سواء كانوا الفلسطينيين أو أي شعب آخر، في السيادة عليها. ومن هذا المنطلق يصبح الفلسطينيون المقيمون في “ارض اسرائيل” مجرد سكان، بحكم الأمر الواقع على الأقل، تكون كافة حقوقهم، السياسية أو غيرها، خاضعة لحقوق الأسياد اليهود أصحاب البلاد “الأصليين”، ولمتطلبات معيشتهم وأمنهم ورفاهيتهم. ومن هنا ينبغي أن تطبق في المناطق ذات الأكثرية السكانية الفلسطينية إجراءات “أمنية” تهدف إلى الحفاظ على أمن الأسياد اليهود قبل غيرهم، وتضمن استمرارية كيانهم ومناعته.
وإذا كان نتنياهو يسعى إلى بث هذه “النظريات” مواربة، دون الخوض كثيراً في التفاصيل، فان شركاءه في الحكم، وفي قيادة قطاعات لا باس بها من يهود اسرائيل، أكثر صراحة ووضوحاً، إذ يبوحون علناً وفي كل مناسبة تسمح لهم بذلك، بأسس هذه السياسات وما يصبون إلى تحقيقه من ورائها. فزعيم حزب البيت اليهودي، الصبي الأرعن نفتالي بينيت، يدعو صراحة إلى إقامة مناطق عزل عنصري تضم التجمعات السكانية الفلسطينية الكبيرة في الضفة، بينما ينبغي ضم المناطق غير المأهولة أو قليلة السكان منها إلى اسرائيل. والرجل يتحدث، صراحةً وعلناً، صباح مساء، من منطلقات شريعة يهودية ظلامية لا تختلف كثيراً عن منطق الجماعات التكفيرية المتأسلمة. وحزب البيت اليهودي هذا هو الطبعة الأخيرة من الحزب الديني القومي، الذي كان الحاخامون المنضمون إليه أول من تطوع لـ”تصحيح” الشريعة اليهودية، التي ترفض في أساسها قيام دولة يهودية بقوى بشرية، إذ يجب أن تقام تلك من قبل المسيح المخلص عندما يظهر لخلاص اليهود وجمع شملهم، وجعلها مترادفة مع النظرية الصهيونية القائلة أن اليهود هم قومية وشعب ودين في الوقت نفسه، مندمجين يبعضهم البعض ولا يمكن فصل إي منهم عن الآخر. والحقيقة أن هذا “التصحيح” للشريعة اليهودية قد نجح نجاحا باهراً منذ راح يطرح علناً مع بداية نشوء الصهيونية قبل قرن ونصف القرن من الزمن، وأصبح التيار الفكري المسيطر لدى معظم الجاليات اليهودية. ومن هنا يأتي الدعم، الذي لا ينضب، لفكرة مركزية اسرائيل بالنسبة لليهود، أينما كانوا، وبالتالي مسارعتهم إلى الدفاع عنها، ظالمة كانت أم مظلومة.
إما الشريك الثالث في حكومة نتنياهو، مبيض الأموال ومهربها وصاحب العلاقات الودية مع مافيات أوروبا الشرقية والعنصري عديم الخجل، زعيم حزب اسرائيل بيتنا أفيغدور ليبرمان فانه بصفته علمانياً ولا يشعر بالحرج، مثلاً، عند أكل لحم الخنزير، المحرم على اليهود، مثل أكثرية المهاجرين اليهود الروس، فانه لا يتردد كثيرا في شرح نظرياته ومواقفه العنصرية. وكان هذا الحزب، خلال الانتخابات العامة قبل السابقة التي عقدت في اسرائيل، قد أرسى دعايته الانتخابية على شعارات عنصرية معادية جهاراً لفلسطيني الداخل، وبذلك تمكن من حصد أصوات إعداد كبيرة من الناخبين. ومن هذا المنطلق يدعو ليبرمان صراحة إلى تقطيع أوصال فلسطين (وعند الضرورة اسرائيل أيضا) وإعادة تركيبها بما يخدم المصالح الصهيونية أساسا. فهو، مثلاً، مستعد لإعادة منطقة المثلث (مدينة أم الفحم وجوارها) إلى فلسطين، ليتخلص من الكثافة السكانية العربية هناك، مقابل ضم المستوطنات في الضفة أو معظمها إلى اسرائيل. وهو يعتبر، مثلاً، الرئيس عباس أو إي فلسطيني آخر لا يوافقه على رأيه “ارهابياً”. وبصفته وزير خارجية اسرائيل (نعم، مثل هذا العنصري المتخلف وضيق الأفق يشغل منصب وزير خارجية، مثل ما شغل المنصب نفسه مرة محمود الزهار، الذي استقال من حكومة حماس احتجاجا على “اعتدالها”)، اخترع عبارة “الإرهاب الدبلوماسي الفلسطيني”، لوصف التحركات الفلسطينية على الصعيد الدولي، باعتبار أن الاحتكام إلى الشرعية الدولية هو “إرهاب” إن كان فيه ما قد يمس المصالح الصهيونية.
وان كانت هذه هي منطلقات التيار اليهودي الاخواني بين الصهيونيين، الذي يضم حالياً أكثريتهم، فان مواقف كبار “العلمانيين” الصهيونيين لا تختلف كثيراً عنها. فقد اخترع هؤلاء “نظرية” جديدة مفادها إن القضية الفلسطينية، في أساسها، غير قابلة للحل، ولذلك يجدر بإسرائيل أن لا تضيع الوقت والجهد في البحث عن “حلول” لها، غير موجودة أساسا، وبالتالي من الأجدى لها متابعة الاهتمام بمصالحها، واعتبار القضية الفلسطينية مجرد عائق في الطريق لا يستحق التعامل معه إلا لإزالة الإضرار التي قد تنجم عنه أو تحييدها، ومن ثم القفز عنها لاستمرار المسيرة الصهيونية.
ولا ضرورة، في أي حال، للإسهاب في وصف منطلقات اسرائيل الصهيونية العنصرية، التي لم تعد خافية على كل من له عيون ترى أو آذان تسمع، وما يصبو ذلك الكيان إلى تحقيقه والوسائل التي يدعو إلى انتهاجها من اجل ذلك، من استعلاء على الآخر ومحاولة إقصائه، ومن ثم الاحتفاظ في السيطرة عليه بعد ذلك. والانكى من هذا كله أن ذلك يتم دون خجل أو وجل، بل انه ينفّذ ضد اليهود غير المرغوب فيهم من مواطني اسرائيل، فما بالك بالعرب منهم.
ففي استطلاع للرأي العام، مثلاً، نشرته قبل بضعة أشهر جريدة “يسرائيل هايوم” (اسرائيل اليوم)، التي يموّلها مليونير بيوت القمار اليهودي موسكوفيتش، راعي الاستيطان أيضا، والتي توزع بعشرات آلاف النسخ يومياً مجاناً، وكل ذلك لتأييد صديقه نتنياهو ودعم سياساته اليمينية الاستيطانية، أوضح 95% من المشاركين في ذلك الاستفتاء أنهم يقرون بوجود عنصرية في اسرائيل. ومن بين هؤلاء يعتقد 79% أن العنصرية موجهة أساسا ضد المهاجرين من يهود اثيوبيا، فيما يعتقد 68% منهم أن عرب الـ48 هم الذين يعانون من العنصرية و42 % يرون ذلك قائماً بالنسبة لليهود الحريديم أصحاب السوالف و34% أفادوا أن اليهود الشرقيين ومهاجرو الاتحاد السوفياتي سابقاً هم الذين يتعرضون للعنصرية.
وإذا كان الصهيونيون لا يترددون في التمييز ضد أبناء “شعبهم” على اعتبار أن ذلك الخليط من المهاجرين اليهود من مختلف إنحاء العالم، أصبحوا “شعباً” واحداً، وهم ليسوا كذلك في إي حال، فأنهم لن يتوانوا أيضا عن التمييز ضد العرب الفلسطينيين ومعاداتهم والتنكر لحقوقهم، ولن يتوقفوا عن ذلك ما لم يحملوا عليه قسراً.
من سراب “المفاوضات” إلى هذيان “الخلافة” والخرافة
لم ينجم العداء الإسرائيلي للفلسطينيين وحقوقهم، المطعّم أيضا بالاستخفاف بهم، عن عوامل إسرائيلية ذاتية فقط، بل ساهمت فيه عوامل فلسطينية بحتة، نتجت عن سوء أداء النخب السياسية الفلسطينية الفاعلة، سلطوية فتحاوية كلنت أم حمساوية، بمستوى الهواة الذي سيطر على أنشطتها، سياسية كانت أم عسكرية. ولا ضرورة هنا لعرض الأداء الفلسطيني، في الصراع مع الصهيونية وإسرائيل، منذ بدايته، إذ تكفينا في هذا الصدد حقبة اوسلو وما تلاها.
إن اتفاقيات اوسلو عند توقيعها، وعلى الرغم مما قيل عنها، لم تكن تخلو من ايجابيات بالمفاهيم الوطنية الفلسطينية. ففي مقابل اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل اعترفت هذه بالمنظمة ممثلاً للشعب الفلسطيني. وفي ذلك انتصار، وان كان جزئياً ومنقوصاً، للعشب الفلسطيني، الذي اضطر الصهيونيون أخيراً إلى الاعتراف به، بعد أن أنكروا وجوده وتنكروا لحقوقه خلال عشرات السنين، بل عملياً منذ ظهور الحركة الصهيونية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وفي أعقاب هذه الاتفاقيات انتقل الحركة الوطنية الفلسطينية لتواجه الصهيونيين واحتلالهم على ارض الوطن ومن داخله، بعد أن عملت لعقود من الشتات، ومن خارج فلسطين، على ما في ذلك من قيود. ومما نشر حتى الآن من قبل العديدين، وفي أماكن ومناسبات مختلفة، يتضح أن رابين، رئيس حكومة اسرائيل الذي وقّع تلك الاتفاقيات كان ملتزما بها وينوي فعلاً العمل على استكمالها . وسبب ذلك يعود إلى تقدير تكوّن لدى الرجل وحزب العمل الذي رأسه، تبين فيما بعد أنه صحيح، مفاده أن اسرائيل، لأسباب عديدة لا مجال للخوض فيها هنا، تتجه تدريجياً، ولكن بثبات، نحو تبني المواقف السياسية اليمينية المتصلبة، التي ترفض القبول بأي حل مع الفلسطينيين، وهو ما سيؤدي في نهاية الأمر إلى تحويل اسرائيل إلى دولة ثنائية القومية قد تشكّل، في المدى البعيد، خطراً على المشروع الصهيوني الهادف إلى إقامة دولة يهودية نقية، وتؤدي إلى إحباطه في نهاية المطاف . ولهذا سعى الرجل إلى الوصول لاتفاق مع الفلسطينيين، ينقذ اسرائيل ويحفظ صهيونيتها – ويبقى حزب العمل في السلطة. وهذا ما لم يرضى اليمين عنه، فقاموا باغتيال الرجل بعد نحو سنتين من توقيع اوسلو، على أرضية حملة من الدعاية والتحريض المسعورين ضده كان اكبر “أبطالها” بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء اسرائيل حالياً.
ومع اغتيال رابين انتهت اوسلو عملياً، وكان على الطرف الإسرائيلي أن يدرك ذلك جيداً،إذ لم يبق في اسرائيل رجل بحجمه يستطيع إقناع أكثرية الإسرائيليين وحملهم على تأييد سياسته، بل ظهر أن شخصاً كهذا غير موجود عملياً ولا يبدو أن بديلاً له قد يظهر في المدى المنظور. وقد اقتصر عملياً ما أحرز من تقدم ما، هنا أو هناك، في إطار اوسلو، على عهد رابين دون غيره. صحيح أن “المفاوضات” بين الفلسطينيين والإسرائيليين إستمرت على مراحلها المختلفة، بشكل أو بآخر، وبين الفينة والأخرى، إلا أنها لم تسفر رغم طول مدتها عن نتائج تذكر. بل أنها، على العكس من ذلك، ساهمت في بلورة وخلق “مفاهيم” صهيونية جديدة لا تنطوي إلا على إضرار فادحة للفلسطينيين وقضيتهم . فخلال تلك الفترة الطويلة من المفاوضات العبثية أمعنت اسرائيل في التنكر لالتزاماتها وراحت ترسي الأسس لواقع جديد على الأرض، بتوسيع الاستيطان في المناطق المحتلة من جهة ولجم وتحجيم الأنشطة الفلسطينية من جهة أخرى، فيما راح الفلسطينيون يفتشون عن حلول “بنّاءة” للمشاكل التي يخلقها الاحتلال، والذي لم يكن معنياً أساسا بمثل تلك الحلول أو حتى الأفضل منها. فقد كان همه الرئيسي، ولا زال، محصوراً في استمرار السيطرة على فلسطين بكاملها وتحويلها إلى أرضية صالحة لخدمة المشروع الصهيوني دون غيره.
ولكن على الرغم من هذا السجل التعيس للأداء الفلسطيني السياسي الرسمي هناك، على الأقل، بقعة ضوء واحدة ساهم في إيجادها، وهي الحصول على اعتراف عالمي بدولة فلسطين في حدود 1967 من قبل أكثر من ثلثي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. وهذا دون شك انجاز تاريخي مهم، وان كان مخاتير فلسطين جميعاً لا يقدرونه حق قدرة، بل يكاد يبدو أنهم لا يفقهون مغزاه ولا يستطيعون الوقوف على إبعاده ولا العمل على ترجمته واقعاً على الأرض. وأساسا، تم ذلك الاعتراف بعد فترة طويلة من التردد وجرجرة الأرجل، بل انه تبلور وظهر إلى حيز الوجود، من وجهة نظر المخاتير و”مخططاتهم”، على طريقة مكره أخاك لا بطل. وان كان هذا لا يكفي نشير إلى أن مختار فلسطين الأكبر، بعد عودته من الأمم المتحدة مع انتهاء التصويت على الاعتراف بدولة فلسطين، رأى من المناسب التوضيح أن ذلك الاعتراف لن يغيّر من الواقع شيئاً إذ لا بد، حسب وجهة نظره الساذجة، من العودة، مرة أخرى، إلى المفاوضات…..وقد عاد إليها فعلاً، خلال 2013-2014، بل هذه المرة بمشاركة أميركية نشطة من قبل “الراعي” الأميركي، ولكن مرة أخرى دون فائدة أيضاً، إذ سكب الإسرائيليون الماء البارد، ليس على رأسه فقط بل على كافة أعضاء جسمه.
وان كانت حصيلة “النضال” السلطوي – الفتحاوي، خلال ما يزيد على عشرين عاماً، هي تقريباً لا شيء، فإن “مآثر” حركة حماس لا تقل بؤساً عن ذلك . لقد تلخصت “انجازات” هذه الحركة الاخوانية منذ وصولها إلى السلطة سنة 2006 وحتى اليوم بانقلاب دموي فاشي وشن 3 حروب لم تسفر حتى الآن عن نتيجة تذكر. صحيح انه، في هذا الصدد، لا بد من التنويه بذلك التقدم الملحوظ في مستوى الأداء العسكري للمقاومة، الآخذ في التحسن بين كل جولة وأخرى من الاشتباكات مع العدو المحتل. فليس من السهل أن يتمكن مقاومو غزة، الخاضعة للحصار الصهيوني براً وبحراً وجواً من إمطار معظم مناطق اسرائيل، وحتى البعيدة منها للغاية عن غزة، بعشرات الصواريخ الثقيلة يومياً، خلال نحو 50 يوماً. وقد مس ذلك بصورة واضحة بالشعور بالأمن والقوة لدى الإسرائيليين، كما كبدهم خسائر اقتصادية كبيرة، لا يعرف كيف سيتعامل معها اقتصاد الرخاء الإسرائيلي مستقبلاً، وكيف سيمتص الإسرائيليون المدللون اقتصادياً تبعاتها. وليس في ذلك كله إلا دلالة على تخطيط وتنفيذ سليمين وقدرة ملحوظة على التنظيم والضبط والربط. إلا انه صحيح أيضا أن هذا الأداء جاء محدوداً وناقصاً ولم يتسع مداه ليشمل نواح عسكرية أخرى. فلماذا، مثلاً، تضم ترسانة غزة المئات، بل حقيقة الآلاف من صواريخ ارض – ارض، بأنواعها المختلفة، ولا يوجد بينها ولو دزينة واحدة من صواريخ ارض – بحر، للمساهمة في كسر الحصار البحري على القطاع، أو دزينتين من صواريخ ارض – جو للتعامل مع الغارات الجوية الإسرائيلية؟ إن من يقيم نظام صواريخ ارض – ارض قادر على حرب اسرائيل يومياً لما يزيد عن شهر ونصف الشهر، ومن يحفر أنفاقا هجومية أو دفاعية، يفترض إلا يُعدم وسيلة لإدخال الصواريخ في مجالات أخرى، ولو على نطاق محدود؛ إلا أن هذا ما لم يتم فعله.
والأنكى من ذلك انه ليس هناك، كما يبدو، هن هو قادر على متابعة نتائج المعركة مع المحتل، فيسارع إلى تطبيق المستجد منها على الأرض مباشرةً، وهو ما لا يدل على أن هناك أفقاً سياسياً واضحاً لدى قيادات حماس، بل أنهم لا يختلفون في هذا الصدد، من حيث ضيق النظر وقلة الاستيعاب على اقرأنهم من سلطويي اوسلو.
لقد كان بإمكان حماس، مثلاً، خلال الحرب الأخيرة، وبمنتهى الوضوح ودون مبالغة، فرض حصارعلى اسرائيل لا يقل قسوة عن ذاك الذي تفرضه اسرائيل على قطاع غزة، ولكنها لم تفعل ذلك، بل يبدو وكأنه ليست هناك أدمغة تستطيع استيعاب هذا المجال. فخلال الحرب الأخيرة، مثلاً، سقط صاروخ حمساوي، عن طريق الخطأ بالطبع، في موقع قريب من مطار بن-غوريون، وهو المطار الدولي الوحيد في اسرائيل، وتناثرت شظاياه لتصل إلى مشارف المطار، فما كان من عشرات شركات الطيران المدني في العالم إلا أن أوقفت رحلاتها إلى بن-غوريون، وانقطعت الاتصالات الجوية بين اسرائيل والعالم الخارجي لمدة يومين، على الوجوم والشعور بالحصار الذي سببه ذلك للإسرائيليين؛ ثم عادت الأوضاع إلى حالتها الطبيعية. ومن ذلك الوقت لم يظل أي من صواريخ حماس الطريق ولم يقترب أحدها من المطار، مع أن العشرات منها سقط في عشرات المناطق الأخرى. وفي السياق نفسه أطلق صاروخ باتجاه منصات استخراج الغاز الإسرائيلية في البحر فانخفضت على الأثر أسهم الغاز بصورة ملحوظة؛ إلا أن هذا الصاروخ أيضا بقي يتيماً، لا أهل له. وفي السياق نفسه ايضا أطلقت عشرات الصواريخ على النقب، بكل مدنه، ولكن أي منها لم يقترب من ميناء اشدود، وهو من أكبر الموانئ في اسرائيل ولا من محطة الكهرباء فيها، وهي أيضاً من كبرى محطات توليد الكهرباء في اسرائيل. ويبدو أن ذلك جاء لمراعاة الوضع الخاص لقطاع غزة وحماس سوية. فالبضائع التي يستوردها القطاع تصل عن طريق ذلك الميناء والكهرباء الإسرائيلية التي تصل للقطاع تولّد في تلك المحطة – والحال من بعضه. والأنكى من ذلك كله هو أن القطاع محاط بأبراج هوائيات إسرائيلية مختلفة تستعمل للتجسس الكترونياً على القطاع وما يدور فيه. وهذه الأبراج بذلك المستوى من القرب والوضوح بحيث يمكن لقذيفة هاون من النوع البدائي تدميرها. إلا أن هذا لم يحدث أيضاً، وكما يبدو لحفظ خط العودة للتعاون الأمني بين حماس وإسرائيل، عندما يحين الوقت لذلك. لقد دأبت حماس على انتقاد السلطة بحدة ومرارة بسبب سياسة “التنسيق” الأمني التي تتبعها مع اسرائيل،على التبعية لها الكامنة في ذلك، وهي طبعاً على حق في هذا. إلا أن حماس نفسها لم تحجم عن القيام بذلك الدور نفسه عندما بدا لها أن ذلك يصب في مصلحتها. فخلال حكم الاخواني مرسي في مصر، مثلاً، حرصت حماس على منع المنظمات الأخرى العاملة في القطاع من إطلاق أية قذيفة باتجاه اسرائيل، بل أنها نشرت عناصر تابعة لها في كافة الأماكن الحساسة على الحدود بين القطاع وإسرائيل لمنع التسلل من غزة إلى الكيان الصهيوني أو القيام بعمليات داخله. فبماذا يختلف موقف حماس في هذا الصدد، عن ممارسات سلطة رام الله؟
إلا أن تلك النواقص التنفيذية العملياتية تتقزم وتكاد تضمحل عند مقارنتها ببؤس “الفكر” والأهداف السياسية لدى حماس، الذي يعم ويطم، ويظهر أكثر ضرراً من أحلام عاشقي “المفاوضات” من فرسان اوسلو
لقد قدمت حماس، مثلاً، خلال جولة الاشتباكات الأخيرة مع المحتل الصهيوني مقترحات وطلبات عدة اشترطت الاستجابة لها للموافقة على وقف إطلاق النار. ونظرة سريعة على هذه الطلبات تظهر أنها كلها ذات صفات فئوية مناطقية – غزاوية أساسا، مثل فتح المعابر والطرق البرية والبحرية المؤدية إلى القطاع، وإقامة مطار وميناء في غزة، وكذلك السماح للغزاويين بالصلاة في المسجد الأقصى (ولماذا، بالمناسبة، ليس في كنيسة القيامة أيضا بالنسبة للمسيحيين منهم، ولو تم ذلك فقط من قبيل محاولة كسب الرأي المسيحي العالمي)، وما شابه ذلك من طلبات معيشية تتعلق بأهل القطاع. وليس في هذا بحد ذاته أي ضرر، على كل حال. ولكن إذا كانت الطلبات الحمساوية تركز أساسا على فك الحصار عن قطاع غزة فلماذا لا يوجد بينها، مثلاً، طلب تشغيل الممر الآمن بين الضفة والقطاع لإعادة التواصل بين شطري ما بقي من فلسطين وبالتالي المساهمة في كسر الحصار بكامله، بحيث يستفيد أهالي الضفة من ميناء حماس ومطارها ويساهموا في تشغيلهم وتحسين جدواهم الاقتصادية؟
ومن ناحية ثانية، يبدو أن مختار فلسطين الأكبر محمود عباس يسعى أيضاً لتحقيق ذلك، فهو أساساً “خبير” في عقد الاتفاقات “التوافقية” مع المحتل، ويجد في هذا الإطار شيئا ما يفعله . وليس في المطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية في قطاع غزة إي ضرر، مرة أخرى، بل يفترض أن يكون ذلك تحصيل حاصل. إلا أن هذا ليس إلا دليلاً ساطعاً على مدى البؤس والتخثر والانهزامية والاستسلام المسيطرين على تلك “القيادات” الخائبة، على سخافة خططها وتفاهتها.
فهل يعقل أن تختزل كل تلك التضحيات، التي قدمت خلال الجولة الأخيرة من القتال مع المحتل، بالشهداء الذين سقطوا خلالها وعلى الأضرار الفادحة التي لحقت بالقطاع وأهله، مادياً وبشرياً، في مطالب آنية معيشية فقط، على أهميتها، دون أية إشارة إلى مطالب سياسية على صعيد القضية الفلسطينية برمتها؟ فهل وصل السخف بالزعامات الفلسطينية جميعاً إلى حد نسيان القضية الوطنية السياسية والاكتفاء بالترتيبات المعيشية؟
إن الجواب على هذه التساؤلات هو، للأسف، ايجابي. أن حماس ليست حركة وطنية فلسطينية، بالمفاهيم السياسية المتعارف عليها، بل انها إحدى أيتام حركة الإخوان المسلمين، همها الأول ليس فلسطين ولا شعبها، بل إقامة دولة الخلافة، وهي تعيش عميقاً داخل هذه الخرافة، ولا تستطيع الخروج من تلك التفاهة، التي تسيطر على “الفكر” المتأسلم المتحجر، الغارق في الغيبيات. وفي سبيل السعي لتحقيق تلك الخرافة هي على استعداد لـ”بيع” فلسطين، بكيانها وأهلها. وليس هذا كلاماً يلقى على عواهنه، بل انه حقائق موثّقة جاءت من قبيل – على حد قول الشاعر – “ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد”. ففي كتاب نشرته مؤخراً هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، بعنوان “خيارات صعبة” أوردت المؤلفة حقائق مذهلة عن مدى التآمر/الهذيان الذي يسيطر على المتأسلمين العرب، بل جنونهم. وفي كتابها توضح كلينتون، التي تسعى لترشيح نفسها لانتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة سنة 2016، انه تم الاتفاق مع الرئيس الاخواني مرسي في مصر، بواسطة التنظيم العالمي (أو الإجرامي) للإخوان المسلمين على، لا اقل، “من إعادة رسم خرائط منطقة الشرق الأوسط” (كذا!). وبموجب ذلك الاتفاق يقوم نظام الإخوان في مصر باقتطاع جزء من سيناء، في منطقة رفح المصرية المحاذية لقطاع غزة، ويضاف إلى القطاع لتوسيع مساحته، وفي هذه المنطقة تعلن “الدولة الإسلامية”. كما يتم منح جزء من سيناء لإسرائيل لحمايتها وتضم منطقة حلايب وشلاثين، الواقعة في جنوب مصر إلى السودان، كما تفتح الحدود مع ليبيا في منطقة السلوم، وذلك لدعم النظامين المتأسلمين في كل من هذين البلدين. وتضيف كلينتون انه تم الاتفاق على إعلان الدولة الإسلامية يوم 5-7-2013. وكان الأميركيون ينتظرون ذلك الإعلان لكي يعترفوا هم وأوروبا بتلك الدولة فوراً وتم الاتفاق مع بعض أصدقاء أميركا أيضا على الاعتراف بتلك الدولة الإسلامية حال قيامها، وتضيف كلينتون أنها كانت قبل ذلك قد قامت بزيارة عشرات الدول في مختلف انحاء العالم، من اجل شرح الموقف الأمريكي من مصر الاخوانية. ولكن فجأة قامت ثورة يونيو 2013 في مصر،”وكل شيء تغير خلال 72 ساعة”. كما توضح الوزيرة الأميركية السابقة أن حكومتها أيدت تأسيس ما يسمى تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، المعروف اختصاراً باسم “داعش”، لإعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط، وان اضطرت الولايات المتحدة، في نهاية الأمر، إلى قصف تجمعات هذا التنظيم، وإن تم ذلك بـ”نعومة”، أثر الممارسات البربرية التي راح يطبّقها، بعد أن خرج عن المخططات الأميركية.
ويشار في هذا الصدد، من ناحية ثانية، إلى أن النائب العام المصري قام بإحالة الرئيس الاخواني مرسي، بعد عزله، إلى محكمة الجنايات بتهمة التخابر مع قوى أجنبية والتآمر على وحدة مصر وسلامة أراضيها، مرفقاً قرار الإحالة بمئات الصفحات من الوثائق للدلالة على تورط مرسي وإخوانه في تلك المخططات المتأسلمة وغير الوطنية، التي لا تصب إلا في مصلحة أعداء الوطن والأمة العربية. وفي ذلك ما يدعم رواية كلينتون ويعزّز مصداقيتها.
وفيما كان الخلاف حول دولة الخلافة الخرافة مستمراً كانت حماس تزف إلى مناصريها، في موقعها على الانترنت، إخبارا بقرب حدوث تغييرات على الصعيد الدولي ستؤدي إلى الاعتراف بها، والتعاون معا. وأثارت هذه الإخبار حماس حمساوي نزق فأعلن أن مركز دولة الخلافة الإسلامية يجب أن يكون في…غزه – وعلى رأي المثل: “جيء بالحصان لحذوه فمدّ الفأر رجله”.
إن العلمانيين “المنسقين” في زعامة الحركة الوطنية الفلسطينية وكذلك المتأسلمين الحالمين، استناداً إلى ذلك النذر اليسير الذي قدمناه من “مآثرهم”، وانطلاقاً من مفاهيمهم و”فكرهم” وأدائهم، وكذلك مصالحهم، ليسوا هواة سياسة أو مقاومة فحسب، فهذا الوصف كبير عليهم. أنهم، عملياً، صبية عالمي السياسة والمقاومة معاً.
ثورة على الثورة
لم يتوقف الشعب الفلسطيني، منذ حلت به النكبة الكبرى سمة 1948، عن بذل المساعي والجهود، وفي الوقت نفسه تقديم التضحيات والشهداء – والحقيقة الكثير منهم – في مساعيه لاستعادة حقوقه أو على الأقل، ما أمكن منها. وعلى امتداد هذا الطريق الطويل وقع الفلسطينيون في أكثر من مطب، وارتكبوا اكثر من خطيئة، ونفذ غيرهم بحقهم اكثر من جريمة، وذهبت جهود كثيرة، فلسطينية وعربية، سدى. إلا انه، على الرغم من ذلك، دخلت حالياً تلك المسيرة الفلسطينية، بعد أن مرت في العديد من المحطات المظلمة، إلى بقعتي ضوء كبيرتين، تصلحان لأن تصبحا نقطتي ارتكاز “جامدتين” للانطلاق منهما نحو تحقيق حل عادل ومقبول للقضية الفلسطينية.
وأولى هاتين البقعتين هي الاعتراف العالمي بدولة فلسطين في حدود 1967، أما ثانيتها فهي وجود منطقة فلسطينية محررة، وان كانت خاضعة للحصار، ونقصد بالطبع قطاع غزة، تصلح لان تكون مقراً لقيادة فلسطينية وطنية، تعمل بجد على تحقيق الأماني والتطلعات الفلسطينية أو أكبر قدر منها على الأقل، ولو مرحلياً. وباعتقادنا أن التركيز على هاتين البقعتين والانطلاق منهما وعلى أساسهما، هو ما ينبغي أن يتصدر العمل الوطني الفلسطيني في المرحلة القادمة بعد تأمين الأرضية الضرورية لذلك، على اكثر من صعيد أو مجال، وفقاً لما تقتضيه الظروف.
أن الاعتراف بدولة فلسطين من قبل اكثر من ثلثي دول الأعضاء في الأمم المتحدة انجاز تاريخي مهم لا يجوز إهماله أو التقاعس عن العمل على أساسه، وضمن الآفاق الواسعة التي يفتحها، لإيجاد حل ما للقضية الفلسطينية – لا من قبل مُسممّي “التنسيق” ولا المضبوعين بالخرافات، من فتحاويين أو حمساويين أو ما بينهما. ومن ناحية ثانية، تبدو القدرات العسكرية التي بانت في القطاع خلال الجولة الأخيرة من القتال، رغم النواقص التي ظهرت خلالها والتي لا بد من تداركها في المستقبل، كافية لمنع المحتل من الدخول برّاً غلى تلك المنطقة أو محاولة إعادة احتلالها، لخوفه من عواقب ذلك. والاحتلال، عندما يزعم انه “سيجتاح” غزة يقصر نشاطه على عمليات “خرمشة” في نقطة حدودية هنا أو أخرى هناك، ولا يجرؤ على التوغل لمسافات كبيرة داخل القطاع. وهذا وضع من ميزان القوى يمكن على أساسه تحويل قطاع غزة إلى منطقة سيادية فلسطينية تصلح، بعيداً عن الضغوطات الإسرائيلية، لمزاولة نشاط سياسي مشتقل فيها، على كافة الأصعدة، والدولي منها أولا، لدحر الاحتلال عن فلسطين برمتها، على الطريق لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، واسترجاع ما أمكن استرجاعه من حقوق الفلسطينيين.
إلا أن هذا بالذات ما لم يحدث حتى الآن، ولا يبدو أنه قد يحدث قريباً، لا لسبب إلا لأن العقل السياسي، الصغير والمتخلّف، لدى مخاتير فلسطين جميعاً، فتحاويون علمانيون كانوا أو حمساويون متأسلمون أو “مستقلون” حالمون، غير قادر على استيعاب أبعاد قضية فلسطين وامتداداتها وتشعباتها، وبالتالي لا يستطيع، بل حقاً لا يعرف كيف يتعامل معها. فهؤلاء جميعاً يدورون في حالة دوخان مستعصية، في فلك مأمور القسم و”قيمه” و”قواعده”، وبالتالي لا ينتج عن أية حالة من “اللمعان” الفكري لديهم، أن حدثت، إلا المقترحات والمشاريع التافهة.
إن التجسيد الفعلي لهذا الواقع الجديد، على ما يشعر به من نواقص، ينبغي أن يتمخض عن خطة عمل سياسية، يتم وضعها من قبل قيادة فلسطينية وطنية مقاتلة، قائمة على مصالح وطنية حقيقية، تعمل على دحر الاحتلال وتحقيق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة في حدود 1967، ووفقاً لهذا المخطط ينبغي أن ينتقل مركز العمل السياسي الفلسطيني من رام الله إلى غزة، بعيداً عن نفوذ اسرائيل وعربدتها، وإعلان غزة منطقة فلسطينية محررة واعتبارها جزءاً من الدولة الفلسطينية المعترف بها دولياً والمباشرة في ممارسة السيادة الفلسطينية منها، بعد فتح حدودها مع مصر واعتبارها حدودا دولية مصرية-فلسطينية لا تخضع لتدخل أي طرف خارجي، أيا كان، عدا اعتبارات الدولتين الجارتين، مصر وفلسطين.
ومن تلك المنطقة ينبغي شن حرب دبلوماسية – وعسكرية إن اقتضى الأمر كذلك، كما حدث خلال جولة القتال الأخيرة- على الكيان الصهيوني في العالم بأسره، من خلال الدول الصديقة والمنظمات الدولية، وعلى رأسها المحكمة الجنائية الدولية، سعياً إلى تضييق الخناق عليه ومن ثم مقاطعته دولياً، كما حدث لنظام حكم البيض العنصري في جنوب إفريقيا، إلى أن يبدّل جلده بكامله أو تخور قواه ويتساقط تماماً.
ونظرياً على الأقل تبدو الظروف مهيأة للغاية لمثل هذا التوجه، الذي يبدو واعداً، بل يمكن القول انه لا يوجد غيره، بعد أن سقطت نظريات “الاعتدال” و”المفاوضات” العبثية من جهة وخرافة الخلافة من جهة أخرى، وبدا واضحاً أنها كلها لن تقود إلا للضياع. غير انه، من الناحية العملية، هناك موانع كثيرة إمام مثل هذا المسار وكلها، أو على الأقل معظمها، فلسطينية داخلية بحتة، جرياً على قول المثل: “سوس الخشب منه وفيه”. فالتيار التسووي، الخانع والمستسلم، ممثلاً في السلطة، ومن لف لفها لا يبدو انه على استعداد للتخلي عن هذيانه والخروج من شرنقة “المفاوضات”، فيما لا يزال متأسلمو حماس على اعتقاد أن إطلاق بعض الأحاديث النبوية، مرفقة ببعض الآيات القرآنية، كافية لصياغة برنامج سياسي يمكن القبول به في العصر الحديث. ومن ناحية عملية، ولو افترضنا، مثلاً، أن عباس وصحبه انتقلوا إلى قطاع غزة فليس هناك إي ضمان، مثلاً أيضا، بالا يقوم الداعشيون في حماس بـ”اغتصابهم” وحملهم على التوقيع على “دستور” جديد، يسمح بقطع الإطراف والجلد ويفرض الحجاب والجلباب وباقي مظاهر التخلّف، الخ، فيما ليس هناك ضمان أيضا بالاً يقوم الأمن المنسّق، من جهة أخرى، الذي سيحضر معه جواسيس اسرائيل والمتعاونين معها، وكأنه لا يكفي القطاع ما فيه من جواسيس ومخبرين، بنزع السلاح من غزة وتحويلها إلى ضفة أخرى خانعة وخاضعة للعربدة الإسرائيلية – وشر البلية ما يضحك.
والحقيقة هي انه لم يبق هناك ما يمكن ان يثير الضحك، إذ حل مكان ذلك القلق والخوف على قضية فلسطين وأهلها. لقد أتضح في الآونة الأخيرة، بعد جولة مفاوضات طويلة تبعتها حربا طويلة أن اسرائيل، في الحالتين، باقية على حالها ومتشبثة بمواقفها، وليست على استعداد لأي تغيير أو تبديل، والموقف الفلسطيني لا يزال على حاله، يدور في حلقاته المفرغة. فحماس تتحدث عالياً عن “انتصار” فيما راحت الأوضاع تعود تدريجيا إلى ما كانت عليه سابقاً، دون أن يحدث تغيير يذكر على الأرض. والسلطة تتحدث عن تحركات سياسية “مهمة” ستبادر بها، ولكن دون أن نرى خطوات عملية ملموسة.
لقد أفلس النظام السياسي الفلسطيني، بشقيه الفتحاوي والحمساوي، تماماً وليس هناك من فائدة ترجى منه. فخلال أكثر من عشرين سنة لم ينجم عن أنشطة هذا النظام بأسره إلا المزيد من الضياع والتفكك والمآسي، على الكوارث التي حلّت بفلسطين، قضية وأرضا وشعباً، من جراء ذلك. وليس هناك من أمل في إصلاح هذا النظام أو دفعه نحو الصراط المستقيم، بالتالي لم يبق هناك إلا خيار إرغامه على إتباع سياسات مجدية أو، إذا تعذر ذلك، العمل على تغييره، بأشخاصه و”قيمه” ومفاهيمه، على صعوبة ذلك، بل التضحيات التي قد تكون ضرورية لتحقيقه.
خلال السنوات الأخيرة قامت الشعوب العربية، في اكثر من دولة عربية، بثورات في إطار ما سمي “الربيع العربي”،لم تكن تخطر على بال أحد. ولم تكن كل تلك الثورات موفقة، وان لم تستكمل كل مساراتها حتى الآن، إلا أن واحدة منها على الأقل، وهي تلك التي وقعت في مصرن أسفرت في نهاية الأمر عن نتائج حميدة، يبدو معها أنها راحت تضع مصر على الطريق الصحيح. وكما قامت في مصر حركة “تمرد”، التي شحذت همم المصريين بأكثريتهم الساحقة ودفعتهم إلى تحقيق ما يشبه المستحيل من إعادة الإمساك بزمام الأمور في بلدهم ينبغي أن تقوم قي فلسطين أيضا حركة مماثلة، ترتكز على المخلصين من بين الفتحاويين والحمساويين والمستقلين معاً للقيام بانتفاضة ثالثة ضد النظام الفلسطيني المتكلس من جهة والاحتلال الصهيوني الغاشم من جهة ثانية، وفي الوقت نفسه باعتبار الطرفين عدواً مشتركاً. لقد كان الفلسطينيون أول الشعوب العربية التي حاولت خلق “ربيع” خاص بها، في انتفاضتيهم، الأولى والثانية، على ما اكتسبوه من تجارب خلالها تبدو كافية لتفجير انتفاضة ثالثة، عاقلة وواعية وناجعة. وحتى ظهور حركة “تمرّد” فلسطينية لا يبدو انه سيطرا على الأوضاع في فلسطين أي تغيير، بل أنها مرشحة لأن تزداد سوءاً، ولن ينفع معها “اعتدال” أو “نضال” ضمن الأساليب التي عهدناها حتى الآن.