”الحل الإقليمي” – إطار المؤامرات الجديدة على القضية الفلسطينية
من قال للرئيس الفلسطيني: “عاصمتكم هي أبو ديس وليس القدس”؟
صيري جريس
أصبح ألحكي على المكشوف ضروريا، بل ضروريا جدا.
ضروري لوضع النقاط على الحروف وفضح التآمر والتخاذل، بل الهراء “العربي”، وهو وضع سبّب ولا يزال يسبّب الأذى البليغ للقضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين، بداية من القدس بالذات ودون غيرها. وبالتالي لا بد من اتخاذ الإجراءات المناسبة لصده وإبطال مفعوله.
دلائل عدة تشير، بما لا يدع مجالا لشكوك كبيرة، أن اعتراف الرئيس الأميركي ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، دون أن يحدد حدودها كما يدعي، ومن ثم التعهد بنقل سفارة أميركا في اسرائيل من تل أبيب إليها، وان أرجئ تنفيذ ذلك، ليس إلا الدفعة الأولى على طريق ما يسمى “الحل الإقليمي” لمشكلة الشرق الأوسط عامة وقضية فلسطين خاصة.
وإذا قُدّر لهذا الحل أن يمر، فلن يكون ذلك إلا الحلقة الأخيرة في المؤامرة المستمرة لتصفية القضية الفلسطينية قولا وفعلا. إلا إننا نستبق النهاية لنقول أن مؤامرة تصفوية إجرامية كهذه لن يكتب لها إلا الفشل. ففي ردود الفعل، التي يمكن وصفها بالعالمية، على التأييد ألمبدأي العارم للحقوق والمواقف الفلسطينية التي بانت خلالها. ومع قليل من الحكمة لدى المعنيين، سواء كانوا فلسطينيين أو عرب أو أجانب، وهذا القليل متوفر في أي حال، لن يتم إفشال هذه المؤامرة فحسب بل قد تصبح الظروف مواتية لشن هجوم مضاد لاسترجاع الحقوق الفلسطينية ومن ثم إحلال ما يشيه سلاما في المنطقة.
عندما يلعب صبية القوم في السياسة العالمية
للـ”حل الإقليمي”، الذي اشرنا إليه، المتداول علنا منذ فترة بصورة خاصة في السعودية ودول خليجية أخرى، اسم آخر، أصلي، هو “مبادرة السلام السعودية”، التي تحولت إلى “مشروع السلام العربي”، بعد أن وافق عليها مؤتمر القمة العربية المنعقد في بيروت سنة 2002.
وأسس هذه المبادرة، باختصار شديد، هي دعوة اسرائيل إلى الموافقة عل حل القضية الفلسطينية، بما في ذلك قضية اللاجئين الفلسطينيين، وذلك بإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، تكون عاصمتها القدس الشرقية. وفي مقابل ذلك تقوم الدول العربية، وعلى رأسها السعودية، صاحبة المبادرة أصلا، بالاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها.
ومنذ إقرار ذلك المشروع تمت إعادة التأكيد عليه في العديد من مؤتمرات القمة العربية وكذلك القمم الإسلامية؛ بل يكاد يبدو أحيانا أن الرئيس محمود عباس بالذات يكاد لا يجد عملا إلا الإشادة به؛ وان كانت الكياسة تقتضي التحفظ عليه لأنه ينطوي على الاعتراف بإسرائيل ذات طابع صهيوني، وهو ما لا ينبغي التسليم به، لما ينطوي عليه من مخاطر صهيونية توسعية وتنكّر صهيوني “رسمي” لحقوق الفلسطينيين الوطنية والقومية.
رغم ذلك تجاهلت اسرائيل هذه المشروع لسنين طويلة، بل أنها لم تأبه به. إلا أنها، مع مرور الوقت، راحت تغير من موقفها تدريجيا، في ضوء الغزل الذي راح ينبعث من دول خليجية معينة، بل ربما كلها، وان على استحياء، محاولة تقريب النار إلى قرصها، ومن ثم عكس بنود المشروع وشروطه، كما يليق بأساليب التحايل والخداع الإسرائيلية. ووفقا للمفهوم الإسرائيلي يُفترض أن يتم أولا الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها، مما قد “يساهم” في حل القضية الفلسطينية، وليس القيام فعلا بحلها أولا. أي، باختصار، تريد اسرائيل أن تأكل الطعم وتعملها على الصنارة.
ووجدت اسرائيل تشجيعا لموقفها هذا في الهراء العلني الذي تمارسه دوائر “شعبية” في السعودية، وبعض الدول الخليجية الأخرى، التي راحت تناقش على الملأ أطروحات عقد صلح مع اسرائيل، ومن ثم حتى إقامة “تحالف” معها لإرساء أسس “نظام إقليمي” جديد في المنطقة؛ ليرافق ذلك أيضا تحريض ارعن، سافل وقذر وعنصري، ودون خجل (مثل إطلاق هاشتاج” “الرياض أهم من القدس” – حقا؟ منذ متى؟- وذلك إضافة إلى عشرات الفيديوهات على اليوتيوب، مثلا، التي تشكك في عروبة القدس وتهين مكانتها)، ضد الفلسطينيين بأسرهم وقضيتهم، لا لسبب إلا لأنهم لم يأخذوا بـ”الحكمة” السعودية.
والمطلع على النظم “الديمقراطية” في السعودية وكيفية اتخاذ القرارات فيها، على الطريقة القراقوشية، لا يستطيع إلا أن يصل إلى نتيجة مفادها أن تلك الدعوات الفاسدة غير بعيدة عن موقف بعض حكام ذلك البلد من آل سعود والسياسة التي يسعون إلى تنفيذها، إذا سُمح لهم بذلك.
وهنا يطرح السؤال نفسه: ما هو المحرك لذلك؟ والجواب هو سعي حكام السعودية، ومعهم خليجيون آخرون، إلى عقد حلف عسكري مع اسرائيل لكي تشارك في الصراع معها ضد إيران، التي تخيف السعودية وبعض دول الخليج، أو حتى ربما تقاتل دفاعا عن النظام السعودي المستنير.
وقد وجد النظام السعودي تشجيعا لتنفيذ مخططه هذا مع انتخاب ذلك الأهوج ترامب رئيسا للولايات المتحدة، خصوصا بعد أن تنفسوا الصعداء اثر تنحي اوباما عن الحكم، الذي ركنهم جانبا بل وفضّل الإخوان المسلمين عليهم وراح يفاوض إيران بدلا منهم، فيما بدا وكأنه اعتراف بدورها الإقليمي في المنطقة، على حساب العرب عامة.
والحقيقة أن ترامب المتهور فاجئ الجميع، بعد انتخابه، بتلك العقلانية المفاجئة التي هبطت عليه وكأنها وحي، عندما أعلن أن جل أماله كرئيس هو عقد ما اسماه “صفقة العصر” لحل القضية الفلسطينية (التي سماها الرئيس الفلسطيني “صفعة العصر” بعد الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل) وإحلال السلام في الشرق الأوسط.
ولم يكتف ترامب بالقول فقط، بل انتقل بسرعة إلى العمل؛ فراح، على عجل، يدعو زعماء المنطقة، ومن بينهم الرئيس الفلسطيني، إلى واشنطن لمقابلته. وما أن انتهى من ذلك حتى قام بزيارة للسعودية وتوصل إلى “تفاهمات” مع ملكها، يُفترض أن تدر أموالا سعودية ضخمة على أميركا.
وعلى اثر ذلك سارع ترامب أيضا إلى تعيين مندوب أميركي لعملية السلام هو جيسون غرينبلاط، وهو محاميه سابقا، ثم الصق به صهره، زوج ابنته، الذي عينه مستشارا له، جاريد كوشنير. والرجلان يهوديين صهيونيين معروفين، وغرينبلاط متدين أيضا، بل أنهما حتى بين من تبرعوا علنا لإقامة المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، وهو ما اثأر التخوف بداية منهما. إلا أن غرينبلاط سارع إلى إعلان حبه العارم للسلام، بقوله انه إذا كان السلام يتطلب التنازل عن مستوطنة بيت إيل، القريبة من رام الله، والتي كان من بين المتبرعين لإقامتها بالذات، فانه يفضل السلام على المستوطنة. ويبدو الآن أن هذا الكلام لم يكن إلا حقنة تخذير أعطيت للفلسطينيين لطمأنتهم، حتى يأمنوا جانبه ويتعاونوا معه، فيما كان يعد لمشاريعه الصهيونية. فالرجل، كما يتضح الآن، كان من بين من أعدّ طبخة الاعتراف بالقدس؛ ويُنسب له قوله أن أميركا العظيمة لا تستطيع أن تتصور قبول اسرائيل بالقدس دون حائط المبكى، ناسيا لن الفلسطينيين ومعهم كافة العرب الأحرار لا يستطيعون أيضا تصور القدس دون مسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وباقي المقدسات الإسلامية والمسيحية في المدينة.
ومنذ الإعلان عن النية في استئناف عملية السلام عقدت سلسلة لا تنتهي من المفاوضات بين الإطراف المعنية، من فلسطينيين وإسرائيليين وأميركيين، لم يرشح شيء ذا قيمة عن مضمونها، عدا القول عموما أنها كلها تدور في إطار الإعداد لمشروع سلام ينوي ترامب إطلاقه.
غير انه يبدو، كما اتضح مؤخرا، أن المفاوضات الحقيقية دارت عمليا بين جاريد كوشنير، صهر ترامب، ومحمد بن سلمان ولي عهد السعودية. وخلال الأشهر الأخيرة عُقدت 3 اجتماعات مطولة بين الشابين، تم الاتفاق بينهما خلالها على أسس “العملية السلمية” وحل أزمة المنطقة، تمهيدا لبداية عصر الحلف السعودي-الصهيوني. وعلى الأثر دُعي الرئيس الفلسطيني عباس لزيارة السعودية، حيث استقبله ابن سلمان و”أملى” عليه شروط الحل المقترح، مطالبا إياه أن يتحلى بـ”المرونة”. ووفقا لمصادر مطلعة ابلغ ابن سلمان الرئيس الفلسطيني انه، وفقا للمشاريع التي بجعبته، ستكون أبو ديس، وهي بلدة في ضواحي القدس، عاصمة لفلسطين وليس القدس نفسها. كما أن مساحات “الدولة” الفلسطينية المقترحة لن تكون متواصلة جغرافيا، بل عبارة عن جزر منعزلة عن بعضها البعض، والى آخر هذا الهبل. ورفض الرئيس الفلسطيني هذا الحل ولكنه، كعادته، تكتم عليه، رسميا على الأقل.
والواضح أن مثل هذه “الاقتراحات” ليست إلا نوعا من الهراء، الذي لا يقبل به احد ولن يعمل به، بل حتى الصهيونيين “المعتدلين” يسخرون منه ويعتبرونه مزاحا سمجا، خوفا من أن يؤدي على المدى الطويل إلى تغيير طابع اسرائيل اليهودي، وبلغة أوضح الصهيوني، إلى دولة ثنائية القومية. ولكن يبدو أن هذا ما تتفتق عنه عقول الصبية عندما يعتقدون أنهم أصبحوا شواهين فيروحون يلعبون في السياسة الدولية.
إن محمد بن سلمان السعودي الوهابي وجاريد بن كوشنير الأميركي الصهيوني ليسا إلا ولدين صغيرين، في منتصف الثلاثينات من أعمارهما. وكان من الأجدر بهما الاهتمام بعائلتيهما بدلا من التطاول على السياسات العالمية. وهو تطاول، في أي الأحوال، يكاد يُخنق في مهده.
ولكن لماذا إرهاق النفس بفعلتهما؟ الم يقل المثل: “الولد ولد ولو أصبح قاضي بلد”.
اسرائيل عصا جوفاء
هذا التواطؤ، العلني أو الضمني، الأميركي-الصهيوني-السعودي لتسليم القدس لقمة سائغة لإسرائيل، ومن ثم عدم الممانعة في الانخراط بالمشاريع التصفوية للقضية الفلسطينية، وهو ما يشكل “مشروع” خيانة بامتياز للعرب والمسلمين، ليس جديدا في أي حال؛ وان جاء توقيته مفاجئا. فليس سرا أن القيادات الفلسطينية تتعرض، منذ فترة غير قصيرة، وهي فعلا غير قصيرة، بدأت منذ طرح المبادرة السعودية المشؤومة قبل 15 سنة، إلى ضغوطات سعودية لا تتوقف للموافقة، بشكل أو بآخر، على طلبات اسرائيل والخنوع لها – ومن ضمنها، ربما، “منحها” القدس لإرضائها – حتى تصبح الطريق ممهدة لتنفيذ “الإستراتيجية السعودية العظيمة”؛ أي أن ترضى اسرائيل عن السعوديين وتقيم “تحالفا” معهم ومع باقي الخليجيين، وخصوصا دولة الإمارات العظمى، التي لا تتورع أيضا، بدورها، عن “الحفر” في أسس القضية الفلسطينية، وان بدت في “خربشتها” تلك كالفأر الذي مدّ رجله لحذوها أسوة بالحصان.
وليس في ذلك، إن استطاع كبار “المفكرين” السعوديين وبعض خلفائهم الخليجيين تطبيقه – والأرجح أنهم لن يستطيعوا ذلك، فقد تغيرت الأزمان وفاتهم القطار – إلا ارتكاب حماقة تاريخية سعودية أخرى، تؤدي لكوارث جديدة شبيهة بتلك التي ساهم النظام السعودي في إلحاقها بالعرب، وبنفسه أيضا، خلال العقود الأخيرة.
ندرك أن نظام الملالي في إيران، الذي يمكن اعتباره داعش شيعي، وان لم يختلف كثيرا، من ناحية ثانية، عن الوهابيين السعوديين السنة، ولكن بالمقلوب، من حيث التعصب وضيق الأفق الديني لكل منهما، يشكل خطرا داهما على العرب. فقد امتد الإخطبوط الفارسي إلى 4 دول عربية، وسيستمر في تمدده إن استطاع ذلك؛ وبالتالي لا بد من مواجهته.
ولكن قبل أن نتحدث عن سبل المواجهة هذه لا بد من التذكير بمسؤولية السعودية الكبيرة عن خلفية هذه الأوضاع، التي ساهمت سياساتها الطائشة في خلقها، يوم بادرت إلى الإيحاء بتشكيل تحالف الشر الذي دمّر العراق، “بوابة العرب الشرقية”، كما كان يسميه صدام، ليقع حتى بعد ذلك لقمة سائغة في فم إيران.
واضح أن ما قام به صدام، عندما غزى الكويت ثم أعلن ضمها للعراق، كان حدثا جللا، ضرب أسس النظام الإقليمي العربي في الصميم، وبالتالي لم يكن بالإمكان السكوت عليه. ولكن السعودية رفضت يومها الاستماع إلى أية نصائح، ولم تقبل أية مشاريع لحل المشكلة سلميا، بل اتجهت إلى اختيار طريق القوة. وكان سفير السعودية في واشنطن – وفّقه الله – هو الذي أوحى بعملية غزو العراق واقترح على الأميركيين “استضافة” قواتهم البرية في حفر الباطن بالسعودية، ومنها انطلقت لغزو العراق وتدميره، بمشاركة دول “عربية”، ومن ثم وقوع ذلك البلد تدريجيا تحت نفوذ الفرس. وان كانت إيران، بعد أن أحكمت سيطرتها على العراق، وراحت تتمدد في سوريا ولبنان واليمن، تحاول قضم آذان السعوديين فليس لدى أولئك إلا أن يلوموا أنفسهم، نتيجة لسياساتهم البائسة.
رغم ذلك، يمكن تفهم شعور السعودية بالخطر الفارسي. وفي هذا الصدد اتخذت، هذه المرة على الأقل، إجراءات عقلانية؛ وذلك بعقد حلف مع مصر ومن ثم توسيع وتعميق التعاون العسكري معها؛ ولدى البلدين، في إي حال، ما لا يستهان به من الرجال والمال والسلاح لمواجهة أي مخاطر. كما قد تحضيان في حال صراع مع إيران بمساعدات من أعدائها في الغرب، كما حظي العراق قبلها أثناء حربه مع إيران، وهو ما لا ينبغي التقليل من أهميته.
ولكن السعودية تريد ضم اسرائيل أيضا إلى هذا الحلف. وعلى هذا الاتجاه يصح القول، كالمستجير من الرمضاء بالنار، عدا عن انه ينم عن جهل مطبق بمواقف اسرائيل وسياساتها ومنطلقاتها، وكذلك قدراتها.
إن اسرائيل، أساسا، ليست صديقة العرب؛ ولا يعرف عنها حبها البالغ لهم. وهي لا تختلف كثيرا عن إيران في موقفها منهم؛ ولن تنحاز لهم إلا إذا كان في مواقفهم ما يفيدها، وعلى الأخص في حربها على القضية الفلسطينية، عدوتها الأولى، والتي تعمل جاهدة دائما وابدأ على تفكيكها، تمهيدا لاضمحلالها. والاعتقاد أنها ستخوض حربا إكراما لجمال عيون السعوديين أو لدشاديشهم ليس إلا وهما ساذجا.
والى ذلك ينبغي، عند الحديث عن صراع مع إيران، وضع نظريات التخويف والتقاعس العربية وعُقد التهويل من “قدرات” اسرائيل جانبا، إذ أنها تكاد تكون معدومة في حال نشوب صراع كهذا، في أعقاب ما قامت به إيران، وخلال سنين طويلة، من تطوير لقدراتها العسكرية في اكتر من مجال، حتى أصبحت قوة إقليمية على ارض الواقع، قادرة على الرد على أي هجوم عليها. ففيما كانت السعودية منهمكة في العمل على تدمير العراق والتآمر على هذا النظام العربي أو ذاك، وكذلك – بالطبع – بناء الجوامع في كافة إنحاء العالم لنشر التعصب الوهابي كانت إيران، مثلها أيضا، منهمكة في بناء الحسينيات ونشر التشيع؛ ولكنها، إضافة لذلك، عملت على صقل قوتها العسكرية، ومن ضمنها تطوير أنظمة صاروخية معقدة ومتنوعة، بينها الباليستية، التي لا تغطي اسرائيل بأكملها فقط، بل حتى أجزاء من أوروبا.
في مواجهة ساخنة مع إيران، إن وقعت، ليست اسرائيل، مثل السعودية، إلا “خيخة” بائسة لا تملك قدرات تذكر لخوض حرب برية مع ذلك البلد. وعندما كان الكيان الإسرائيلي يعربد، قبل فترة، محاولا منع دول الغرب من عقد اتفاق نووي مع إيران، لم تكن اسرائيل راضية عنه، كانت جل تهديداتها تتمحور حول مخططات لقصف إيران جوا. ولكن لردع اسرائيل أساسا، ومن ثم باقي أعداء إيران، طورت تلك الأنظمة الصاروخية. وبالنسبة لإسرائيل بالذات هذا عامل ردع حقيقي، تتوجس منه وتأخذه في الحسبان، بل دفعها اكثر من مرة إلى التعقل والتحلي بـ”ضبط النفس”. ولا غرابة في ذلك. فوفقا لمصادر إسرائيلية مطلعة، تملك إيران نحو 200 إلف صاروخ موجهة إلى اسرائيل، إضافة إلى 100 إلف صاروخ آخر يملكها جيش حزب الله في لبنان، الذي يتموضع فوق رقبة اسرائيل، موجهة في الاتجاه نفسه.
سنة 2006، خلال حرب اسرائيل-حزب الله، شاهدنا “بروفه” أولية بدائية من حروب الصواريخ هذه وشاهدنا أيضا آثارها، التي ستبدو لعبة أطفال، بالمقارنة مع ما قد يحدث إذا نشبت حرب جديدة، مع وجود الأنظمة الصاروخية الحديثة والمتنوعة. ولا شك انه إذا ما غامرت اسرائيل واعتدت على إيران فانها ستضرب بعنف بزخات صواريخ، وربما بالتزامن من إيران وحزب الله، طولا وطولا. والعادة أن يقال في مثل هذه الحالات “طولا وعرضا”؛ ولكن ليس لإسرائيل عرض، وبلغة اكثر وضوحا عمق إقليمي يتوجب التعامل معه؛ وهذا سر ضعفها وهلعها من حروب برية كلاسيكية، أو من الأنظمة الصاروخية. فمعظم سكانها ومنشاتها الإستراتيجية تقع على شريط ساحلي قليل العرض، وأي مس به، وليس ذلك صعبا في أي حال، سيكون كارثيا بالنسبة لها.
ولو كان لدى الخليجيين فقط من تابع تعليقات كبار المعلقين أو الاستراتيجيين أو العسكريين السابقين الإسرائيليين، عندما كان موضوع شن هجوم جوي على إيران موضوعا للنقاش العلني، واطلع على مدى هلعهم من نشوء وضع كهذا، لما خطر على بالكم أساسا خرف الاحتماء بإسرائيل.
في صراع مع أنظمة قوية مسلحة جيدا تبدو اسرائيل مثلكم، يا خليجيين، أي عصا غليظة ولكنها جوفاء، ما أن تهوي بها بضربة واحدة حتى تنكسر وتتفتت بين يديك.
فكفوا عن هذا الهراء. والمطلوب، إن كان ذلك ضروريا، هو حلف عربي-عربي، لا فارسي ولا صهيوني.
هل يبيع “خادم الحرمين” ثالثهما؟
دلائل عدة تشير إلى أن إعلان ترامب بشأن القدس ليس إلا تواطؤا نجم عن تشابك مصالح نادر بين تيارات دينية متعصبة، قائمة داخل ما يسمى الأديان السماوية الثلاثة: إنجيلية أميركية (ترامب وصهره كوشنير)، وهابية سعودية (ابن سلمان) وصهيونية يهودية (نتنياهو)، يؤدلج كلا منهم مكانة القدس ووضعها عامة على طريقته ووفقا لمفاهيمه، خصوصا المذهبية منها.
لست، شخصيا، من تجار الدين، لا أمارس دعوة ولا تبشيرا، وبشكل خاص لا اتعاطى الفتاوى؛ وعموما عندما اصطدم بمنغّصات التعصب الديني وضيق افقه أتمتم لنفسي قول ماركس: “الدين أفيون الشعوب”. ولكن هذا لا يعني التغاضي عن أهمية أو مكانة كيانات أو رموز دينية ذات إبعاد قومية ووطنية، مثل القدس، قلب فلسطين وعاصمتها.
القدس هي أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، مدينة كنيسة القيامة؛ وطابعها العربي منذ نحو 1400 سنة واضح للغاية. ولا يجوز السماح لأي كان بتجاهل ذلك.
النظام السعودي بأسره، إعلاميا على الأقل، مبني على “حبه” و”تفانيه” في خدمة الدين؛ بل أن رأس ذلك النظام، إمعانا في التقوى والورع والإخلاص للدين، غيّر لقبه من “ملك” إلى “خادم الحرمين الشريفين”. وان كان الأمر كذلك من المناسب تذكيره، وكذلك تذكير الخليجيين جميعا، بما يحاولون تناسيه من أصول دينهم، لعلهم يرعوون:
“سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” (الإسراء:1).
و”الأقصى الذي باركنا حوله” موجود في قلب القدس، والقدس موجودة في فلب فلسطين. وتجاهل الأقصى، وتجاهل القدس ومكانتها، وكأنهما غير موجودين، ومن ثم غض الطرف عن مؤامرات تحاك لهما، أو الأنكى من ذلك المشاركة فيها، مثل إعلان ترامب، ليس إلا كفرا بأصول الدين؛ وان كنا لا نتعاطَ مفاهيم الكفر والتكفير ونمجّها. وعدا عن ذلك يعتبر مثل ذلك الاتجاه خيانة قومية، على اعتبار أن قبائل الخليج تفقه المفاهيم القومية.
في خطابه إمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، التي انعقدت في جلسة طارئة للبحث في إعلان ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والذي إدانته وأعلنته باطلا ولاغيا (بأكثرية ثلاثة أرباع الأصوات، ناقص 1 بالمائة)، أعلن مندوب فنزويلا، متحدثا باسم دول عدم الانحياز، ردا على تهديد الأميركيين بقطع المساعدات عن الدول التي ستصوت ضد الموقف الأميركي، أن العالم ليس للبيع.
والقدس أيضا، وما بقي من فلسطين، ليس للبيع كذلك؛ فقد بيع ما يكفي منها.
و”خادم الحرمين” هو آخر من يستطيع السماح بالمس بثالثهما.
التآمر العربي مؤلم وضار (جدا)
ليس من المتوقع، في أي حال، أن تقدم السعودية، أو أي من دول الخليج، على هراء المشاركة علنا في مؤامرة لتصفية القضية الفلسطينية، في إطار المخططات الصهيونية الامبريالية الأميركية، متنازلة بذلك عن الحقوق العربية في فلشطين. وان أصيبت بالخبل، فرضا، وفعلت ذلك فلن يكون له تأثير كبير، بل لن يكون من الصعب إلغاء مفعوله في ظل ذلك التأييد العارم الذي باتت القضية الفلسطينية تحظى به عالميا، ومن فبل دول وتكتلات عالمية ذات شأن. والمعارضة العالمية، التي بانت بصورة جلية، رسميا وشعبيا، لإقدام ذلك الأهوج ترامب على اتخاذ إجراءات أحادية الجانب بشأن وضع القدس، تمهيدا كما يبدو للـ”حل الإقليمي”، أن أميركا وإسرائيل لا تستطيعان فرض إرادتهما على العالم بأسره. ولن يتغير الوضع كثيرا إذا انضمت إليهما، حتى علنا، السعودية أو هذه الدولة الخليجية أو تلك. الجن، لمن “يؤمنون” به ويخافون منه، افلت من عنق الزجاجة، وليس من الممكن إلقاء القبض عليه وإعادته ثانية إليها.
وباعتقادنا أن فرسان “الحل الإقليمي” يدركون ذلك جيدا، ويخشون تبعات تآمرهم وانخراطهم في المشاريع التصفوية علنا، ولذلك يتجهون إلى ممارسة الضغوط على الفلسطينيين سرا، لحملهم على الموافقة على الخرف الأميركي الإسرائيلي، وبذلك يتلطون وراءه لتنفيذ “إستراتيجيتهم”. وحتى تتحقق أحلامهم يغالطون ويتلونون ويتبجحون، ويطلقون “غزلا” سمجا ممجوجا حتى بالصهيونية مرة واحدة، ويأكلون الهوا بأيديهم الاثنتين، علّ ذلك يحسّن من مواقعهم لدى أعداء فلسطين والعرب، ويضمن استمرار الرضي المعادي عنهم. ومنهم أيضا من تفذلك وأطلق حتى “نظريات” في هذا الشأن. فتعليقا على معركة القدس مع أميركا أعلن ، مثلا، وزير خارجية البحرين انه من غير المفيد افتعال “قضايا جانبية” مع أميركا في الوقت الذي “نقاتل فيه الخطر الواضح للجمهورية الإسلامية الفاشية الدينية”، على اعتبار إن الشاطئ المقابل لإيران واحة من الديمقراطية.
إلا انه حتى هذا أيضا ينبغي شجبه ووقفه. الذبابة عندما تدخل دون انتباه إلى الفم لا تخنق، ولكنها تقزز النفس وربما تتسبب في التقيؤ. وفي حالتنا هذه، تسبب، للأسف ضررا كبيرا أيضا. وللفلسطينيين في تجاربهم السابقة مع “الأشقاء” العرب اكثر من مثال على ذلك.
لسنا هنا بصدد فتح جروح قديمة ولا أثارة نعرات إقليمية، لا طائل منها، وبالذات مع جارتي فلسطين وشقيقتيها، مصر والأردن، خصوصا في ضوء المواقف الصلبة التي تتخذانها تجاه قضية فلسطين منذ سنوات. وللتذكير فقط، كانت مصر هي من قدّم مشروع القرار المناوئ لإعلان ترامب إلى مجلس الأمن؛ وعندما أعلن الأميركيون أنهم قد يعملوا على قطع المساعدات عن الدول التي قد تصوت ضدهم، سارعت كلتا الدولتين، وكل منها تتلقى مساعدات لا بأس بها من أميركا، إلى الانضمام لرعاة مشروع القرار المقدم إلى الجمعية العمومية، نكاية بترامب، ثم انضمتا للمصوتين تأييدا له.
وباعتقادنا أن هده ليست سياسة عابرة، كما قد يحلو لبعض هواة السياسة أو يتبنون نظرية المؤامرة، بل انه إستراتيجية عميقة لدى البلدين، على علاقة وثيقة بأمنهما ووضعهما الإقليمي. إن أي “حل” مجحف بحق الفلسطينيين ووضع أهلها سيُترجم، على المدى البعيد، مشاكل تمس البلدين وتثقل كاهليهما بصورة دائمة، وبالتالي الدفاع عن فلسطين من قبلهما هو أيضا دفاع عن كيانيهما، ولا يمكن التفريط به.
ولكن هذا لا ينبغي، بحد ذاته، أن يمنعنا من التذكير بالمصائب التي نجمت عن سياسات اتبعها البلدان في الماضي، واستمرت عقودا، على المشاكل والإضرار التي نجمت عنها. فخلال نصف قرن ونيف، مثلا، كان الفكر الصهيوني، قبل قيام اسرائيل وبعد ذلك، متمسكا بما سماه “الحل الأردني” للقضية الفلسطينية، أي ما معناه، عمليا، تقاسم فلسطين أرضا وسكانا، بين الصهيونيين، ومن بعدهم اسرائيل، وبين الأردن، من خلال القفز فوق رؤوس الفلسطينيين، وبالذات حقوقهم السيادية، وإلغاء كيانهم المستقل. وقد أطبق هذا “الحل” لسنين طويلة، والحقيقة طويلة جدا، على قضية فلسطين ومنع إحراز أي تقدم يذكر بشأنها. ولم يصل إلى نهايته، بعد أن استنفذ إضراره، إلا سنة 1988، عندما أعلن الملك حسين فك ارتباط بلده بالضفة الغربية وإعادة القضية الفلسطينية إلى ممثلها، منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك بعد سنة من نشوب الانتفاضة الأولى. ولكن عندما تم ذلك كانت قضية فلشطين تتوه في غياهب “حل” آخر، هو كامب ديفيد الساداتي/المصري وعقد الصلح المنفرد بين مصر وإسرائيل، حيث تم استرجاع سيناء ولكن من خلال تجاهل العرب عامة و”بيع” قضية فلسطين خاصة، بحصرها في خانة الحكم الذاتي للفلسطينيين تحت الحراب الإسرائيلية. والإضرار التي لحقت بالقضية الفلسطينية نتيجة الـ”حل” الساداتي لا تقل كثيرا عن تلك التي سببها “الحل” الأردني. ولكن كما قلنا سابقا لا ضرورة، حاليا على الأقل، لفتح الجروح ثانية.
ما تمت حياكته من مؤامرات في الماضي ومحاولات القفز عن حقوق الفلسطينيين أو شطبها لم يعد، في أي حال، ممكنا، في ظل ذلك التأييد العالمي العارم للفلسطينيين وقضيتهم العادلة. فتطاول الرئيس الأميركي على مكانة القدس العربية عزل أميركا نفسها، قبل غيرها، ولم تجد ولو دولة واحدة ذات شأن تقف إلى جانبها، بما في ذلك التكتلات العالمية الكبرى، من الاتحاد الأوروبي إلى روسيا والصين وغيرها، عدا عن عشرات الدول الأخرى. وفي ظل موقف دولي واضح وصلب كهذا لن يذهب التآمر الأميركي الصهيوني بعيدا، ومعه ذلك الضجيج السعودي الخليجي أيضا.
اللعب في القضية الفلسطينية بات محظورا ولا يجدي أصحابه نفعا، ولكن الضجيج “العربي” الذي يرافقه ينبغي أن يتوقف أيضا.
ارفعوا أيدي التآمر السعودي الخليجي عن القضية الفلسطينية.
وان لم تُرفع – شلّوها.