مصر تؤسس لحكم مدني ديمقراطي
قراءة في دستور مصر الجديد (2014)
صبري جريس
على مدى يومين، 14 و 15/1/2014، قام المصريون بالتصويت في الاستفتاء على مشروع دستور مصر الجديد. وتشير النتائج العامة للتصويت، كما أعلنتها أللجنة العليا للانتخابات المصرية، إلى أن عدد المشاركين في هذا الاستفتاء بلغ نحو 20,6 مليون ناخب، يشكلون نحو 38,6% من أصحاب حق الاقتراع البالغ 53,4 مليونا (مقابل 16,8 مليون ناخب، من مجموع 52.7 مليون، أي ما نسبته 31,8% شاركوا في الاستفتاء على دستور الإخوان، الذي جرى يوم 15/12/2012). وقد حظي هذا الدستور الجديد بموافقة نحو 20 مليون ناخب (99,1%)، ومعارضة أقل من 400 ألف (1,9%)، في مقابل موافقة أكثر من 10,7 ملايين ناخب على دستور الإخوان (63,8%) ومعارضة ما يزيد على 6 ملايين (36,2%). وبذلك أقّر مشروع الدستور الذي تحوّل، مع الإعلان عن نتائج الاستفتاء بالقبول به، يوم 18/1/2014، إلى دستور جديد لمصر نافذ المفعول ويعمل به.
ولا شك أن هذا الدستور تأثر بالمناخ العام الذي نشأ في مصر، بعد نشوب ثورتين في البلد سنتي 2011 و 2013، ولذلك فإنه يختلف، في نواح مهمة، عن دساتير مصر السابقة، من حيث كونه أكثر وضوحاً ومدنياً وديمقراطيةً، بل وحداثة، إذ يحاول إيجاد الحلول أو، على الأقل، وضع الأسس مسيرة المصريين نحو حياة أفضل ويسام في إرساء نظام حكم جديد، يصبو لأن يكون رشيداً.
وعلى الرغم من الفترة القصيرة نسبياً، التي حدّدت لكتابة ذلك الدستور، وهي 60 يوماً، وهو ما تم فعلاً، فقد أعدّ له جيداً، وذلك بتشكيل لجنة خاصة لكتابته عرفت باسم “لجنة الخمسين” لأنها تكونت من 50 عضواً، وفقاً لقرار أصدره رئيس الجمهورية المؤقت في هذا الشأن. وروعي،عند اختيار أعضاء تلك اللجنة أن يمثّلوا أوسع قطاعات الشعب المصري، إن لم يكن كلها، بما يحافظ على التوازن بين الاتجاهات المتعارضة أو المصالح المتضاربة ويضمن أوسع تمثيل لمعظم قطاعات الشعب. فقد ضمّت تلك اللجنة، من بين أعضائها، مثلاً، أربعة ممثلين عن الأزهر وملحقاته وثلاثة عن الكنيسة واثنان عن حركة “تمرّد”، التي كانت المبادرة لإعلان العصيان ضد حكم الإخوان، واثنان عن ائتلاف شباب الثورة، إضافة إلى ممثلين عن النقابات والاتحادات المهنية، مثّل اتحاد الكتّاب والمجلس الأعلى للثقافة والنقابات المهنية والفنون التشكيلية واتحادات العمال والفلاحين والمحامين والأطباء والمهندسين والصحفيين والفرق السياحية والتجارية والمؤسسات الأهلية ومجالس المرأة وحقوق الإنسان والجامعات والمعاقين والشرطة والقوات المسلّحة وغيرهم. كما ضمّت اللجنة ممثلين عن الأحزاب والتيارات السياسية الإسلامية والقومية والليبرالية واليسارية. كذلك أضيف إلى عضويتها 10 شخصيات عامة. وكانت جلسات هذه اللجنة مفتوحة، معظمها ينقل على الهواء مباشرة. كما كانت مفتوحة لقبول الاقتراحات من أبناء الشعب.
وباختصار يمكن القول أن اللجنة ضمّت ممثلين عن كافة القوى الفاعلة في مصر، بقطاعاتها المختلفة. ويفترض بالتالي في الدستور الذي وضعته أن يرعى مصالحها جميعاً ويحافظ على التوازن بين مختلف الاتجاهات والتطلعات.
الشريعة لا تصلح للتشريع
يبدو أنه لا يمكن أن يصدر دستور في مصر، أو يتم التوافق عليه، دون أن يذكر فيه أن “مبادئ” الشريعة الإسلامية هي ” المصدر الرئيسي للتشريع”. فهكذا كان الحال في دستور السادات لسنة 1971ودستور الإخوان لسنة 2012، وهذا هو الوضع في الدستور الحالي (المادة 2) أيضاً.
وفيما يبدو وكأنه محاولة للحفاظ على “التوازن” بين الأديان (والدستور المصري “يعترف” فقط بما يسميه “الأديان السماوية”، أي اليهودية والمسيحية والإسلام، دون غيرها)، نص الدستور أيضاً (المادة 3) على أن “مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشؤونهم الدينية، واختيار قياداتهم الروحية”. وقد ورد هذا النص نفسه في الدستور السابق، الاخواني. وكان ذلك الدستور قد أصّر على تعريف الشريعة بقوله (المادة 219) “إن مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلّتها الكلية وقواعدها الأصولية والفكرية، ومصادرها المعتبرة، في مذاهب أهل السنّة والجماعة”، وهو تعريف لا يبدو معه أن من وضعه قادر على تفسيره أو الإشارة إلى طرق تطبيقه . أما الدستور الحالي فقد حسم الجدل حول هذه الناحية بإعلانه، في ديباجته التي تعتبر جزءاً منه، ان المرجع في تفسير مبادئ الشريعة هو “ما تضمنته مجموع أحكام المحكمة الدستورية العليا في ذلك الشأن”؛ وتلك المحكمة، في أساسها، مدنية.
وأياً كان، في أية حال، من أمر تلك الشريعة أو الشرائع عامة، من الواضح أن هذا الدستور، بكافة أبوابه وفصوله ومواده أبعد ما يكون عن الشريعة، بل عن الشرائع جميعاً. وليس في ذلك أي ضرر، في أي حال. فالشرائع جميعاً، وان كانت لها مكانتها واحترامها وكذلك، وهذا هو الأهم، انتشارها ونفوذها الواسعين، بعيدة للغاية عن واقع ومتطلبات الحياة الحديثة ولا تتماشى معها، وبالتالي لا تصلح ببساطة أساساً للتشريع. ونظرة سريعة على نصوص هذا الدستور تظهر بوضوح أن اعتماد الشريعة كمصدر للتشريع لم ينفذ حتى تجاه أبسط قواعد الحياة العصرية، وهو احتساب عامل الوقت . فقد لوحظ أن كافة التعريفات، القائمة على أساس الزمن، مثل تحديد أعمار المقترعِين أو المرشحين أو احتساب فترات ولاية المؤسسات أو المسؤولين، تتم جميعاً ودون استثناء وفق التقويم الميلادي (المواد 102، 106، 140، 141، 164، 180 من الدستور). ولو طبقّت الشريعة في هذا الصدد لكان من المستوجب إتباع التقويم الهجري، لا الميلادي ولا غيره. إلا أن ذلك التقويم يستند إلى السنة القمرية، التي أقل ما فيها أنها غير دقيقة ولا ثابتة. فهذه السنة الهجرية / القمرية ” فرّارة دوّارة”، “تتمدد” على فصول السنة الأربعة، إذ إن بدأت في فصل الشتاء، مثلاً، ترجع تدريجياً إلى الوراء، سنة بعد أخرى، “لتمر” خلال الخريف فالصيف فالربيع، وتعود إلى الشتاء ثانية. ومن الواضح انه ليس من الممكن اعتماد تقويم كهذا أساساً لإدارة دولة عصرية، ولا التعامل على أساسه مع دول العالم قاطبة. ولذلك لم يكن بد من التخلّي عنه.
وعلى اعتبار أن الشئ بالشئ يذكر، تجدر الإشارة إلى مسارات مماثلة “عَلق” بها اليهود كذلك. فالتقويم اليهودي يستند أيضاً إلى السنة القمرية، ولكن اليهود كانوا أكثر “نباهة” من المسلمين في التعامل مع هذا التقويم، وذلك باتجاههم إلى تجنب “دوران” هذه السنة على الفصول الأربعة. ولتحقيق ذلك أضافوا إلى تقويمهم القمري سنة كبيساً، تقع مرة كل ثلاث سنوات، ويضاف إليها لا يوماً واحداً فقط مثل السنة الميلادية (29 شباط – فبراير مرة كل أربع سنوات)، بل شهراً بكامله، بحيث تضم تلك السنة، عندما تكون كبيساً، بدلاً من شهر آذار واحد، آذارين، هما آذار الأول وآذار الثاني، الذي يضاف بعده. وبذلك يتم الحفاظ على “التوازن” في وضع السنة العبرية، بحيث تبدأ، دائماً وأبداً، خلال شهري أيلول- تشرين الأول (سبتمبر- أكتوبر) من كل سنة.
ويشار كذلك إلى أن اسرائيل نفسها جعلت أيضاً من القانون العبري، الذي يتجاوز في قدمه الإسلامي بقرون، “مصدراً للتشريع”. ففي إطار حملات “العودة إلى الجذور” قامت اسرائيل بسن قانون جعل من الـ”هَلَخاه” اليهودية، وهي ابنة العم الكبرى للـ”شريعة” الإسلامية ولا تختلف عنها في شئ، منطقاً ومصدراً وممارسة، “أساساً للتشريع” في الكيان الصهيوني. إلا انه سرعان ما اتضح أن ذلك ليس إلا نوعاً من الغوغائية، إذ عدا عن مجال الأحوال الشخصية لليهود لا توجد الـ”هَلَخاه” في أي مجال تشريعي آخر في اسرائيل. والسبب هنا أيضاً هو عدم ملائمتها لمتطلبات الحياة العصرية.
غير أن الامتناع في اعتماد التقويم الهجري/القمري، وما قد ينسب إليه من “تعارض” مع الشريعة يكاد لا يذكر بالمقارنة مع نصوص وتعليمات موجبة أخرى في الدستور، الذي أعلن، مثلاُ (المادة 53)، إن “المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الأصل، أو اللون، أو اللغة، أو المستوى الاجتماعي أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو لأي سبب آخر”. كما جعلت تلك المادة من “التمييز والحض على الكراهية جريمة، يعاقب عليها القانون”، بل أنها فرضت على الدولة أيضا “اتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة إشكال التمييز”، بما في ذلك “إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض”. وإضافة إلى ذلك ألزم الدستور (المادة 11) الدولة بالعمل على “تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية”، بما في ذلك ” تمثيل المرأة تمثيلاً مناسباً في المجلس النيابية”، وكفالة حقها في “تولي الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا في الدولة والتعيين في الجهات والهيئات القضائية”.
والواضح إن الحديث عن المساواة بين كافة أبناء البشر، لا فرق في ذلك إذا كانوا مسلمين أو “ذميين” أو “كفرة”، ومن ثم منح المرأة حقوقاً شبيهة بحقوق الرجل في مجالات مهمة، كإدارة الدولة والقضاء، لا يتماشى أبدا مع أحكام الشريعة ولا حتى مع “مبادئها”. ورغم ذلك يحلو لبعض المتحدثين المصريين، سواء كانوا من المحسوبين على الإسلاميين أو غيرهم من التيارات الأخرى، غير المتدينة، الحديث عن “التزام” الدستور بالشريعة. والقول هذا غير صحيح، ويبدو أن تكراره يأتي للضحك على ذقون السذّج من عامة الشعب والأميين والبسطاء؛ ولا يزال في مصر العديد منهم. ففي هذا البلد يميلون عموماً إلى التدين، كما يكثرون من الصلاة، وبينهم أيضاً، رغم ذلك، توجد أعلى نسبة، بالمقارنة مع كافة الدول العربية الأخرى، من التحرش الجنسي بالنساء في الأماكن العامة.
وعلى الرغم من ذلك يبدي الدستور اهتماماً ما بالمسائل الدينية، ولن لم يتم ذلك بصورة كافية. فقد أعلن الدستور (المادة 4) ” اعتبار الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة جامعة… يتولى نشر الدعوة الإسلامية وعلوم اللغة العربية في مصر والعالم”. كما يؤخذ رأي هيئة كبار العلماء في الأزهر في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية، ولكن ليس في القوانين أو المجالات الأخرى، كما كان الوضع سابقاً.
وباعتقادنا أن الأزهر لم يحصل على حقه في الدستور. فحكام مصر أرادوا دائماً الحفاظ على الأزهر ودوره، ولكن مع إبقائه ضعيفاً حتى لا يتعرض لهم. وكان من الأجدر تقوية الأزهر ومنحه صلاحيات واسعة وموارد ملائمة في مجال النشاط الديني، باعتباره ممثل الإسلام الوسطي العاقل، ولو على الأقل لكي يستطيع التصدي لذلك الفيض غير المنقطع من “الفتاوى” البلهاء، التي ترد من كل حدب وصوب. فبعد فتوى ” جهاد النكاح”، مثلاً، جاءت “فتوى” الاستحمام، ومفادها انه ممنوع على المرأة أن تستحم في البحر، لأنه مذكر، وبالتالي لا يجوز لها ملامسة مائه….
وأياً كان، في أية حال، من أمر الشرائع، بما في ذلك المسيحية واليهودية منها، من الواضح أن دستور مصر الجديد مدني بامتياز، وليس علمانياً أو إسلاميا. وحسناً أنه كذلك.
نظام نصف رئاسي
ليست الأحكام المتعلقة بالشريعة، أو ما يمت إليها بصلة، هي بيت القصيد في الدستور المصري الجديد، إذ أن هناك ما هو أهم منها، ويلفت النظر بصورة واضحة للغاية، وخصوصا ما جاء منها في الباب الأول من الفصل الأول (المادة 6) من أن النظام السياسي في مصر ” يقوم على مبادئ الديمقراطية والشورى والمواطنة التي تساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات،والتعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات والتوازن بينها، وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وحرياته”. كما تمنع هذه المادة قيام أي حزب سياسي على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو الدين”، وذلك لمنع المتأسلمين من تجار الدين من استغلال البسطاء والأميين وحملهم على تأييدهم.
وهناك أيضاً الأحكام الجدّية الأخرى، التي يشملها الدستور في هذا الصدد في بابه الخامس، وعنوانه “نظام الحكم”.
و”نظام الحكم” في مصر قضية قديمة للغاية، بل أنها قديمة جداً، عمرها الآف السنين . فمصر ربما كانت الكيان الأول في العالم الذي عرف مفهوم ما يسمى “الدولة المركزية”، التي تخضع في إدارتها لحاكم واحد معروف، يركّز معظم صلاحيات الحكم، إن لم يكن كلها، في يديه. فمنذ أيام الفراعنة، قبل بضعة الآف من السنين، كان في مصر “دولة”، يحكمها “فرعون”، الذي كن عملياً عبارة عن حاكم بأمره، يسيطر على البلد ويتحكم فيه ويديره على هواه، وحسب ما يراه مناسباً. ولم يتغيّر هذا الوضع كثيراً حتى بعد أن انتقلت مصر، مع مرور الزمن، من حكم الفراعنة إلى الملوك فرؤساء الجمهوريات، وذلك ابتداءاً بعد الناصر، مروراً بالسادات ومبارك وحتى مرسي، الذين لم يكونوا، عملياً، إلاّ عبارة عن فراعنة عصريين، أداروا، أو حاولوا إدارة مصر، على هواهم.
والظاهر أن المصريين ضاقوا ذرعاً بطريقة الحكم المركزية تلك ويتوقون إلى التحرر من مفاهيم الفرعنة والدكتاتورية في الحكم. ويبدو هذا الاتجاه واضحاً في الدستور الجديد، من حيث أنه يقلّص صلاحيات رئيس الجمهورية، لتصل في العديد من نواحيها إلى مجرد إجراءات بروتوكولية فقط، فيما يناط حكم البلد عموماً بالحكومة، الخاضعة لمجلس النواب، والذي أغدق الدستور عليه صلاحيات واسعة في إدارة الدولة وتدبير أمورها ورسم سياساتها- وذلك بعد أن ألغى مجلس الشورى.
فرئيس الجمهورية هو حقاً من يكلف رئيساً لمجلس الوزراء بتشكيل الحكومة (المادة146)، ولكن هذا يقوم بتشكيلها بموافقة مجلس النواب وليس رئيس الجمهورية، وعلى الحكومة أن تحظى طبعاً بثقة المجلس قبل أن تستطيع ممارسة مهامها. أما في حال تشكيل الحكومة من قبل حزب الأكثرية في المجلس، إن وُجد، فلرئيس الجمهورية الحق، بالتشاور مع رئيس مجلس الوزراء، في اختيار وزراء الداخلية والدفاع والخارجية والعدل، وذلك في اتجاه واضح لمنع الحزب الحاكم من فرض دكتاتورية على الدولة، من خلال سيطرته على تلك الوزارات الحساسة. ولرئيس الجمهورية إعفاء الحكومة من عملها أو إجراء تعديل وزاري، ولكن ذلك لا يتم إلا بموافقة مجلس النواب (المادة 147). كما أنه مخوّل بإبرام المعاهدات الدولية، ولكنها لا تصدّق ويعمل بموجبها إلا بعد موافقة مجلس النواب (المادة 151). ويتوجب أيضاً ” دعوة الناخبين للاستفتاء على معاهدات الصلح والتحالف وما يتعلق بحقوق السيادة ولا يتم التصديق عليها إلا بعد إعلان نتيجة الاستفتاء بالموافقة”. وفي جميع الأحوال لا يجوز “إبرام أية معاهدة… يترتب عليها التنازل عن جزء من إقليم الدولة”. كما لا تشن حرب إلا بموافقة مجلس النواب (المادة 152).
أما فيما يتعلق بحالة الطوارئ، التي استغلت في الماضي من قبل أكثر من رئيس مصري للتحكم في رقاب العباد ومصير البلاد، فقد قام الدستور بتقنينها. فحالة الطوارئ يمكن أن تُعلن لمدة 3 أشهر فقط بموافقة مجلس النواب، ولا تمد إلا لفترة أخرى مماثلة وواحدة، ولكن هذه المرة بعد موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب (المادة 154).
كما ألغى الدستور (المادة 115) إمكانية تعطيل عمل مجلس النواب، بعدم دعوته للانعقاد، مثلاً، فقد أنيطت برئيس الجمهورية صلاحية دعوة المجلس للانعقاد في دوره العادي السنوي قبل أول يوم خميس من شهر أكتوبر (تشرين الأول)، و”إذا لم تتم الدعوة ينعقد المجلس بحكم الدستور في اليوم المذكور”.
كذلك فرض الدستور (المادة 121) قيوداً على مجلس النواب نفسه، لمنعه من تعديل الإحكام الأساسية على المزاج. فبينما “لا يكون انعقاد المجلس صحيحاً، ولا تتخذ قراراته إلا بأكثرية أعضائه، تعتبر في مقابل ذلك “القوانين المنظمة للانتخابات الرئاسية، أو النيابية أو المحلية، والأحزاب السياسية، والسلطة القضائية، والمتعلقة بالجهات والهيئات القضائية، والمنظمة للحقوق والحريات الواردة في الدستور” بمثابة قوانين مكملة للدستور، لا يجوز إصدارها إلا بموافقة ثلثي أعضاء المجلس.
والى هذا وذاك، وفوق ذلك كله، لا يجوز حل مجلس النواب، قبل انتهاء فترة ولايته، إلا بعد استفتاء الشعب، كما يحصل عند الاستفتاء على الدستور. وفي ذلك ما يحصّن السلطة التشريعية إذا ما إصطدمت بالتنفيذية.
ولمنع ظهور رؤساء جمهورية “مؤبدين”، يعملون على إعادة انتخابهم مرة تلو الأخرى، بل يسعون إلى “توريث” الحكم لأولادهم، كما حاول مبارك أن يفعل، وكما هو معمول به في سوريا الأسدين، الأب والابن، نص الدستور (المادة 140) على انتخاب الرئيس لفترة أربع سنوات فقط (مقابل خمسة لمجلس النواب- المادة 106)، ويمكن أن يعاد انتخابه لمرة واحدة فقط.
ولمنع ما يشبه الممارسات التي أقدم عليه الرئيس الاخواني مرسي بإصداره عفواً عن محكومين من المقربين للـ”الجماعة”، دون استشارة أحد، نص الدستور على أن رئيس الجمهورية يستطيع العفو عن عقوبة أو تخفيضها، أي بعد انتهاء المحاكمة، وبعد أخذ رأي مجلس الوزراء.
كما أجاز الدستور لمجلس النواب، بعد موافقة ثلثي أعضائه “اتهام رئيس الجمهورية بانتهاك أحكام الدستور، أو الخيانة العظمى أو أية جناية أخرى” (المادة 159)، في حال ارتكابها. وفي حالات كهذه يوقف الرئيس مؤقتاً عن عمله حتى تنتهي محاكمته أمام محكمة خاصة “يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى، وعضويه أقدم نائب لرئيس المحكمة الدستورية العليا، وأقدم نائب لرئيس مجلس الدولة، وأقدم رئيسين بمحاكم الاستئناف، ويتولى الادعاء أمامها النائب العام”.
كذلك حصّن الدستور وحدّد مركز النائب العام، الذي يختاره “مجلس القضاء الأعلى من بين نواب رئيس محكمة النقض أو الرؤساء بمحاكم الاستئناف أو النواب العامين المساعدين” (المادة 189)، ويصدر بتعيينه قرار من رئيس الجمهورية لمدة أربع سنوات “ولمرة واحدة خلال مدة عمله”.
العبرة في التنفيذ
إن الدساتير، على أهميتها، غير كافية بحد ذاتها لإنشاء نظام حكم رشيد، يعمل فعلاً في خدمة البلد ومصالح شعبه. فهناك دساتير، غاية في العقلانية و”الأناقة” موجودة في أكثر من بلد في العالم، وليس فقط في دول العالم الثالث، ولكنها لم تساهم في إقامة نظام حكم مقبول، بل طويت ووضعت على الرف، أو بقيت حبراً على ورق، لتقوم في ظلها أبشع أنظمة الحكم وأكثرها دكتاتورية وتخلفاً . ولنا في “دستور” سوريا، مثلاً، ونظام حكم بشار الجزّار، الذي يعمل زعماً تحت ظله، خير مثال على ذلك.
والعبرة، اذاً، من هذه الدساتير تكمن أساساً في الممارسة والتطبيق. بل إن هناك بعض الدول، كبريطانيا مثلاً، التي لا “تتاجر” أساساً بالدساتير ولم تقم مرة بوضع أية دستور أو ما يشابهه، ولكنها رغم ذلك تعتبر من أعرق الدول الديمقراطية في العالم – والكل استناداً إلى قوانين وممارسات وتطبيقات، بل قل حضارة، تساهم كلها في إرساء أسس حكم رشيد وتضمن استمراره.
وفي مصر ولو من باب المقارنة مع شقيقاتها العربيات، كلهن، “خميرة” تصلح لإقامة أفضل أنظمة الحكم، شرط أن يكون هناك على الأقل من هو معني بذلك ومستعد للعمل من اجله. ولكن، رغم ذلك، شهد البلد حكماً كريهاً متخثراً، كذلك الذي أقامه مبارك وقبله السادات، ولفترة غير قصيرة. ولهذا، نظرياً على الأقل، وعلى الرغم من إقرار هذا الدستور، ليس هناك ما يضمن فعلاً عدم إقامة حكم جديد، لا يكون شبيهاً بما سبقه – عدا، ربما، عن يقظة الشعب المصري، ومن ثم استعداده للتضحية في سبيل مصالحه، بما في ذلك مواجهة أية دكتاتورية مستقبلية، سواء كانت فردية أو جماعية.
وفي هذا الصدد لنا في التطورات والأحداث التي وقعت في مصر، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، 2011 و 2012 و 2013، مؤشر حميد نحو مسار ايجابي لا يمكن أن يعود إلى الوراء، ولا أن يسكت عن العودة إلى إتباع الأساليب الدكتاتورية السابقة. إذ يبدو واضحاً من أحداث تلك السنوات، أن الشعب المصري قد تخطى حاجز الخوف إلى غير رجعة. فخلال تلك السنوات الثلاث فقط قام ذلك الشعب بثورتين عظيمتين، شاركت فيها ملايين المواطنين المصريين، و”ملايين” فعلا دون مبالغة، واسقط نظامين دكتاتورين، سواء كان نظام مبارك “المدني” أو مرسي “المتدين”. وباعتقادنا أن أي حكم جديد في مصر، سواء كان ممثلا في زعاماته وشخصياته أو أحزابه أو قواه السياسية أو أجهزته على اختلاف أنواعها، سيكون مضطراً إلى تعلم الدرس جيداً من هذه الثورات، على الأداء الشعبي الرائع الذي بان خلالها. وخلاصة ذلك الدرس هي إما أن يقوم نظام الحكم الجديد، أياّ كان، بالعمل جدياً في خدمة مصالح البلد وشعبه، ومن خلال ممارسات ديمقراطية علنية ومقبولة، ودون “شطارة” أو “تذاكي”، وإما أن يتم إسقاطه، كما حدث لسابقيه.
ولعله من المناسب الإشارة، من ناحية أخرى، إلى انه رغم الطابع المدني الواضح لهذا الدستور، تتوجب الإشارة إلى ملامح غير مريحة فيه، وخصوصا ما يتعلق منها بالعسكر بالذات. فعلى الرغم من أن الدستور أعلن أن رئيس الجمهورية هو “القائد الأعلى للقوات المسلحة” (المادة 152)، فإن وزير الدفاع هو القائد العام لتلك القوات و”يختار من بين ضباطها” (المادة 201). وفي النظم الديمقراطية العريقة يحرصون على أن يكون وزير الدفاع مدنيا لا تربطه علاقات وثيقة بالعسكر، للحفاظ على التوازن الضروري في هذا المجال. إلا أنه، في ظل الأوضاع الحالية، التي لا تشهدها مصر فقط بل بلدان عربية عديدة، يبدو أن هذا شر لا بد منه. وفي مصر بالذات تلعب القوات المسلحة دورا وطنيا عاقلا، يكاد يكون حاسما، في الحفاظ على وحدة البلد واستقراره ونظامه العام. ولذلك لا بأس في الإبقاء على النفوذ الذي تتمتع به، وهو واسع في إي حال، إذ بدون ذلك ستتحول مصر ألي سوريا أو عراق جديدين، تعيث فيها فسادا شلل المتأسلمين والتكفيريين والإرهابيين والفوضويين.
وبهذا يبدو أن “الربيع العربي”، بمفاهيم العدالة والحرية والديمقراطية والحكم الرشيد، التي كان من المفترض أن تحل معه، عاد يدق الأبواب مجدداً، وهذه المرة بقوة، ولو في مصر على الأقل.
وربما لم يمر وقت طويل حتى تنتقل هذه “العدوى” إلى الأنظمة العربية الأخرى، أياّ كانت الصعوبات التي قد تعترضها.