المعركة على مصير مصر (والعرب)
في مواجهة تجار الدين
صبري جريس
معركة واسعة، عميقة ومتشعبة تدور رحاها في مصر، منذ نشوب ثورات الربيع العربي قبل 3 سنوات، يقوم بشنها تجار الدين، من متأسلمين وتكفيريين وإرهابيين، على اختلاف تنظيماتهم.
وكانت المرحلة الأولى من هذه المعركة، الموجهة ضد مصر بأسرها، حضارة وشعباً وكياناً، قد بدأت يوم 25 كانون الثاني (يناير) 2011، عندما ثار الشعب المصري على نظام الرئيس الأسبق، حسني مبارك، بعد أن حكم البلد لفترة 30 سنة متتالية، “نجح” خلالها في إيصال مصر إلى حضيض الفقر والتخلف. ولم تمر يومها إلا فترة قصيرة على اندلاع تلك الموجة الأولى من الثورة حتى تنازل مبارك عن الحكم فسُلّم إلى المجلس العسكري الأعلى، ليجد الرجل نفسه بعد ذلك في المحاكم متهماً بالعديد من قضايا الفساد وسوء استعمال السلطة.
وجاء سقوط مبارك بمثابة إيذان ببدء مرحلة جديدة من النشاط السياسي الجماهيري في مصر، ظهرت ونشطت خلالها قوى سياسية واجتماعية مختلفة، ما كان لها أن تعمل بحرية في عهد مبارك. ومن بين تلك القوى كان الإخوان المسلمون الأكثر حضوراً، باعتبارهم التنظيم الأقدم والأكثر تماسكاً ونشاطاً، فتمكنوا بسرعة من سرقة ثورة الشعب وتجييرها لصالحهم، ومن ثم فرض هيمنتهم على الحياة السياسية الجديدة عامة. ولهذا لم يكن من المستغرب أن يفوز المرشح الاخواني محمد مرسي في انتخابات رئاسة الجمهورية في صيف 2012، ليصبح رئيس مصر الجديد.
إلا أن حكم الإخوان لمصر لم يستمر طويلاً، إذ لم تمر عليه إلا سنة واحدة فقط حتى كان الشعب المصري ينتفض ضده، على شكل مظاهرات عملاقة، ضمّت الملايين من المصريين، الذين خرجوا للاعتصام في الساحات والميادين العامة احتجاجاً على ممارسات الإخوان في تخريب البلاد وظلم العباد. وأجبر هذا الوضع الجيش، في محاولة للسيطرة على الأوضاع ومنع نشوب حرب أهلية، على عزل مرسي من منصبه، ومن ثم تسليم السلطة لحكومة انتقالية، فيما تولى رئيس المحكمة الدستورية العليا رئاسة البلد مؤقتاً، وذلك لحين وضع دستور جديد ومن ثم إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، تمهيداً لإعادة مصر إلى وضعها الطبيعي.
فشل الإخوان وسقوطهم
جاء سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر مدويّاً وصاعقاً، كما أنه حدث بأسرع مما كان متوقعاً وتم أيضاً بصورة لا تخلو من إهانة، فيما يبدو وكأنها مسرحية من نسج الخيال. فلم تمر إلاّ أشهر قليلة على استلام مرسي والإخوان الحكم حتى تجمع نفر قليل من الشباب المصريين، العاطلين عن العمل، عرّفوا أنفسهم فيما بعد باسم حركة “تمرّد”، وقرروا إطلاق حملة، بواسطة توقيع عريضة، دعي المصريون جميعاً إلى تبنيها، للمطالبة بإقالة الرئيس الاخواني، وإقامة نظام حكم ديمقراطي في البلد أكثر كفاءةً من حكم الإخوان. وفي بداية طريقهم وضع شباب “تمرد” هدفاً “متواضعاً” لحملتهم وذلك بالسعي إلى جمع مليون توقيع “فقط” على تلك العريضة. إلا أنهم فوجئوا بأن أعداد الموقّعين عليها راحت تزداد تدريجياً إلى أن تجاوزت العشرة ملايين، إن لم يكن أكثر من ذلك. وعلى أرضية كهذه راح النشاط الجماهيري المعادي للحكم الإخواني يتصاعد ويتشعّب، ليصل إلى قمته يوم 30 يونيو (حزيران) 2013، وهو الذكرى الأولى لتنصيب مرسي رئيساً، بخروج الملايين من المواطنين المصريين إلى الميادين العامة والاعتصام فيها، مطالبين بإقالة الرئيس الاخواني ووضع حد لحكمه. وكان واضحاً أن اعتصام الجماهير هذه المرة وبتلك الطريقة يمهّد لثورة جديدة تفوق في زخمها تلك التي وقعت سنة 2011 ضد مبارك، بل أنها طغت عليها، واعتبرت بحق امتداداً و”توسيعاً” لها. فمن الصور والتقارير التي عرضتها محطات التلفزة على اختلاف اتجاهاتها، عربية كانت أم أجنبية، بدا واضحاً وكأنه لم يبق هناك شخص بالغ واحد في مصر إلا وخرج للاعتصام في الميادين العامة مندّداً بحكم الإخوان ومنادياً بإسقاطه. بل لا يستطيع المرء، حقاً، أن يتذكر أنه شاهد مرة منظراً كهذا أو ثورة كهذه، تحظى بهذا المدى العارم من الإجماع والتأييد، في أي بلد في العالم، خلال العصر الحديث. وكان واضحاً للغاية من تلك الحشود الضخمة من المصريين أن الأكثرية الساحقة من الشعب المصري تناصب الإخوان، على ما آلت إليه البلد تحت حكمهم، العداء وتصر على إسقاط “نظامهم”. وإزاء تشبث الحكم الإخواني بمواقفه، رغم تلك المعارضة الواسعة له، ومن ثم إدارة ظهره للإرادة الشعبية، مقابل تمسك المعتصمين بمطالبهم وإصرارهم على البقاء في الميادين، ليلاً نهاراً، تفاقمت حالة الاختناق وارتفعت حدّة الأزمة بصورة كاد يبدو معها أن حرباً أهلية مدمرة راحت تدّق أبواب مصر. وفي وضع كهذا لم يبق أمام الجيش المصري، باعتباره القوة الرئيسية المسؤولة عن أمن البلد واستقراره، إلاّ التدخل في محاولة لإصلاح ذات البين، ومن ثم عزل مرسي والإعلان عن “خارطة طريق” سياسية تعود بمصر إلى وضع طبيعي.
ومع عزل مرسي تعالت صيحات الاخوان، ومن يتعاطف معهم من المتأخونين، مكشوفين كانوا أو مستترين (ومنهم من يصف الاخوان، وكأنه “يمجّدهم”، بأنهم أول حركة عربية “عابرة للحدود”، متناسياً أن التخلف والجهل وضيق الأفق وغيرها من الصفات الذميمة هي أيضاً “عابرة للحدود”) استنكاراً لما وقع، واصفين ذلك بأنه “انقلاب” عسكري على “الشرعية”، الاخوانية بالطبع، بل وحتى مطالبين بإلغاء ما حدث وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقاً. ولم يكن لمطلب كهذا في أي حال، أساس عقلاني يمكن الاستناد عليه، بل إنه في حد ذاته، ليس إلاّ دليلاً واضحاً آخر على سوء الفهم والتقدير، الذي كان ولا زال يلازم الإخوان وعقليتهم وطرق عملهم فيما يتعلق بقراءة الواقع والاستناد إليه، ومن ثم الانطلاق منه في التعامل، ولو بشئ من الحكمة، مع الغير؛ وهو ما جر عليهم في النهاية الويل والثبور، بل يبدو انه قد يعجّل في القضاء عليهم.
ففي مقابلة صحفية مطولة نشرت في جريدة “المصري اليوم” على مدى 3 أيام (8 و9 و10 -11-2013) يكشف الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع المصري ورئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو الذي قاد حملة عزل مرسي، تفاصيل وافية وواضحة عن الأحداث والتطورات التي سبقت ذلك الحدث. ومن كلام الرجل يتضح أنه كاد يصاب بالهلع من تقارير ودراسات قدمتها دوائر الاستقصاء والبحوث في المخابرات الحربية المصرية، والتي كان السيسي نفسه مديراً لها قبل أن يصبح وزيراً للدفاع، كادت تجمع على أن حالة الاختناق والمجابهة المتوقعة بين جماهير الشعب المصري والحكم الاخواني، إن لم يتم احتواءها، قد تؤدي إلى نشوب حرب أهلية مدمرة في مصر، تعرّض أمنها الوطني بل كيانها بأسره، لمخاطر كبيرة. وما أن اطلع الرجل على ذلك حتى هرول، قبل يومين من خروج الجماهير إلى الشوارع، مسرعاً إلى مرسي، عارضاً عليه ما لديه من معلومات مقترحاً اتخاذ إجراءات مناسبة لإصلاح ذات البين. وقد طلب مرسي مهلة لبحث هذه المقترحات، ليعود فيما بعد ويبلغ السيسي أنه يرفض الأخذ بها جميعاً، وعلى الأثر استبدل السيسي مقترحاته بطلبات “يتوجب” تنفيذها، لتبدأ بعدها مرحلة من الأخذ والرد، لم تسفر أيضاً عن أية نتيجة، عدا إثبات ما كان معروفاً سابقاً من أن “الرئيس” لا يملك من أمره شيئاً وان مكتب إرشاد “الجماعة” هو الذي يملي عليه مواقفه. وإزاء ذلك وجّه السيسي هذه المرة انذاراً – لا طلبات – لمرسي، بل سلّمه نسخة من بيان عزله المتوقع قبل يومين من حدوث ذلك، وهو ما ينفي أن هناك من سعى أساساً إلى انقلاب. إلا أن هذا كله لم يفت في عضد مكتب الإرشاد، أو يحمله على التراجع عن مواقفه المتزمتة أو تليينها على الأقل، فكان ما كان من عزل مرسي ثم إعلان “خارطة الطريق”.
وبذلك خسر الاخوان الحكم، الذي كثيراً ما تمنّوا الوصول إليه، وذلك بعد الغدر بحلفائهم، الذين صوتوا لصالحهم ثم انفضوّا من حولهم، تبعاً لنهج السيطرة والاستئثار و”التكويش” الذي ساروا عليه من جهة، ومن ثم رفضهم الأخذ بعين الاعتبار رغبات الجماهير ومواقفها المعترضة على سياساتهم، بل رفض إعادة النظر بها وإصلاحها، من جهة أخرى.
ويصف الدكتور علي جمعة، مفتي مصر السابق، عملية عزل مرسي، نافياً أن يكون في ذلك قفزاً على شرعية صندوق الانتخاب بقوله: “لا يوجد شيء اسمه الصندوق، فهو وسيلة لا غاية. ودائماً إذا اختلت أمور البلاد والعباد في يد الرئيس فينصح بالتنازل عن الحكم وإذا لم يستجب بشكل ودّي فإن أهل الحل والعقد يسحبون منه الشرعية. وهذا ما حدث بالفعل، فحضر في أثناء إلقاء البيان [الذي عزل مرسي بموجبه يوم 3-7-2013] قائد الجيوش وشيخ الإسلام [الأزهر] وقداسة البابا والقوى السياسية وقاضي أعلى محكمة [الدستورية] بمصر، وكل هؤلاء هم أهل الحل والعقد بالبلاد وفق الفقه الإسلامي، وهم من لهم حق سحب الشرعية من الرئيس بعد أن كانت موجودة”. ومن جهتنا نضيف أيضاً أسباباً أخرى، نرتأي تسميتها “الشرعية الثورية”، المنبثقة عن إرادة أكثرية الشعب الساحقة، كما بانت بخروجه للتظاهر والاعتصام في الميادين العامة.
جاء عزل مرسي بمثابة ضربة صاعقة للـ”الجماعة” أفقدتها صوابها، بل يبدو أنها دفعتها للسير على طريق الانتحار. فهؤلاء، بدلاً من أن يقدروا الأوضاع المعادية لهم في مصر، التي تبلورت في أعقاب استخفافهم بالبلد وشعبه وقواه السياسية، على اختلاف اتجاهاتها، أثر ممارسات الأخونة والاستئثار التي سارعوا إلى السير فيها بعد استلامهم الحكم، وذلك بتصحيح خطاهم والاتجاه إلى التعامل بعقلانية مع الوضع السياسي الجديد، أغواهم الشيطان فاختاروا طريق العنف، محاولين فرض إرادتهم على مصر وشعبها عنوة. ولذلك ما أن اُعلن عزل مرسي حتى ثارت ثائرتهم فاتجهوا إلى استعمال القوة والبلطجة وراحوا يهاجمون مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الوزارات الحكومية، محاولين استباحتها وتدمير محتوياتها، وكذلك مخافر الشرطة وكمائن الجيش، ويقتلون أفرادها، وإضافة إلى ذلك – إذ لا يستقيم أمر للمتأسلمين بدون هذا- حرق الكنائس والمؤسسات القبطية المسيحية. وخلال ما يقل عن أسبوع حرقوا نحو 50(بالكلمات: خمسين) كنيسة ومنشأة مسيحية، خصوصاً في صعيد مصر. ثم اتجهوا صوب النضال “الجماهيري” وراحوا يقيمون الاعتصامات هنا وهناك لشل حركة البلد بقطع المواصلات العامة وتعطيل أشغال المواطنين، وإذا ما حضرت قوات الأمن لمساءلتهم تطلق عليهم النار من مآذن المساجد. وبممارساتهم هذه أعلن الاخوان عملياً الحرب على ما يحلو لبعض المصريين تسميته “الدولة العميقة” في مصر، وعلى شعبها، في ظروف غير متكافئة في “ميزان القوى”، وهو ما كان من المفترض أن يكون واضحاً للجماعة، وبالتالي لن ينجم عن ذلك إلا احتواءهم ودحرهم، مما قد يمهد الطريق، في نهاية المطاف، إلى القضاء عليهم. وهذا ما حدث فعلاً. فقد ارتدت الدولة، بما لديها من أجهزة مخابرات وأمن وشرطة وجيش، ثم نيابة ومحاكم، على الاخوان، وأمعنت فيهم “إجراءات”، فاعتقلت معظم قياداتهم، إن لم يكن كلها، والعديد من كوادرهم، بما في ذلك بنات الاخوان من الطالبات الجامعيات، ممن رحن يتعاطين البلطجة، فيتسكعن في الشوارع، دون أن يكون معهن محّرم، حيث يكسّرن المحلات التجارية ويعتدين على المارة، ثم سيطرت على مراكز قوتهم من مؤسسات وممتلكات، وأخيراً قامت بحل “الجماعة” ووضعها خارج القانون، بعد أن تم تقديم العديد من المنتمين إليها للمحاكم.
وعلى عكس حملات الاعتقال السابقة، التي كان الاخوان يتعرضون لها خلال العصور الغابرة في مصر، يلاحظ هذه المرة أنه ليس هنالك معتقلين إداريين “على المزاج”، بل أن كافة الموقوفين يقبعون في السجن بأوامر من النيابة، أي أنهم متهمون جنائيون يحاكمون على جرائم ارتكبوها. ويبدو أن هناك، في أي حال، ما يبرر اعتقال العديد من قيادة “الجماعة” وكوادرها بتهم جنائية في أعقاب ارتكابهم جرائم ومخالفات عديدة، ابتداءاً من تهريب الأموال أو تبييضها، مروراً بالمشاركة في مخططات تدمير الممتلكات الحكومية والعامة وانتهاء باعتقال المعارضين وتعذيبهم وكذلك إصدار الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين المناؤين لهم، وخصوصاً أولئك منهم الذين يتجمهرون أمام مقارهم، وقتلهم، وأخيراً التخابر مع قوى أجنبية والتآمر على وحدة مصر وسلامة أراضيها والسعي إلى تسليم أجزاء منها لقوى أجنبية – وهذه بالذات جناية عقوبتها الإعدام، حتى في أكثر بلدان العالم حضارة.
ولا شك أن الاخوان ارتكبوا خطاً فادحاً، بل ربما كان قاتلاً، عندما اتجهوا إلى مناطحة الدولة المصرية. وليس هذا الاتجاه غريباً على “الجماعة”، في أي حال، إذ منذ نشأتهم سنة 1928وحتى اليوم صارعوا، بصورة أو بأخرى، كافة حكومات مصر وأنظمتها، ملكية كانت أم جمهورية، ورغم ذلك تمكنوا من الحفاظ على بقائهم واستمرار يتهم. ولكن يبدو أن الصراع الحالي مختلف في مداه. فقد كشّر الاخوان عن أنيابهم هذه المرة وظهروا على حقيقتهم، من خلال استماتتهم في الحفاظ على السلطة، بعد أن وصلوا إليها في ظروف استثنائية للغاية، لا يبدو أنها ستعود ثانية. ولذلك لم يكن لديهم مانع من استعداء المصريين كافة، سلطات وشعباً، واستعمال القوة ضدهم، وكأن لسان حالهم يقول أما أن نحكمكم أيها المصريون أو نقتلكم. ومن هنا جاء رد الفعل القاسي ضدهم، بعد أن انفضّت الأكثرية الساحقة من الشعب من حولهم، بل راحت تناصبهم العداء.
عقلية العصور الوسطى
لم يكن من المستغرب، في أي حال، أن يهبط الاخوان إلى هذا الدرك، نتيجة لطبيعة تكوينهم وفكرهم و”عقيدتهم”، إن كان ما يؤمنون به، أو يسعون من اجله، يصلح لأن يسمى عقيدة، في ضوء ممارساتهم الغريبة البلهاء. فـ”الجماعة” تتعرف وكأنها تنظيم نخبوي إسلامي، وباعتبارهم “نخبة” فهم “أرقى” و “أحسن” و ” أكثر فهماً” من الآخرين، أيّاً كانوا. وهم وحدهم يعملون على “إعلاء شأن الإسلام” و ” كلمة الله”، ولذلك يتصرفون كأنهم ممثليه على الأرض ومرشدهم هو ” نبيه” الجديد، بينما هي، في حقيقة الأمر، تعيش وفق عقلية القرون الوسطى، أي بما يساوي ألف سنة إلى الوراء، على الأقل، وتحاول التعامل مع الواقع الحديث وفق الأساليب القديمة البائدة التي كانت سائدة يومها. ومن هنا يبدو أنها لا يمكن إلا أن تخطأ في كل ما تحاول تنفيذه أو تسعى إليه. وتكاد هذه القاعدة تنطبق على كافة نواحي تفكيرها وأنشطتها وما يميزها من استعلاء على الآخرين، أو ادعاء “الأستذة” أو التطلعات المبنية على الخيال أو الجهل.
ولعل أول خطأ وقعت فيه “الجماعة” كان في الاسم الذي اختارته لنفسها، أي “الإخوان المسلمون”، الذي يمكن أن يشكل بحد ذاته، استفزازاً لكل مسلم عادي، عاقل وطبيعي، إذ يمكن أن يستشف منه أن الإخوان وحدهم هم المسلمون الحقيقيون الأصليون، أما باقي المسلمين الذين لا يمتون للإخوان بصلة فان إسلامهم “ناقص” أو “غير صحيح” أو ليس على ما يرام. وفي بلد كمصر، تميل نسبة عالية من سكانه إلى التدين، لا يستطيع الاخوان، رغم عنجهيتهم، التفاخر بـ”تمايزهم” في مجال الدين، إذ أنهم، باتجاههم هذا، أشبه بذاك الذي يحاول بيع الماء في حارة السقايين. فهناك في مصر، كما هو معروف، جامع بين كل جامع وجامع، والمؤمنون لا يكفون عن ارتيادها ليل نهار، إن لتأدية الصلاة أو لأغراض أخرى. وفي ذلك البلد، بالذات، تخصص ميادين واسعة لإقامة صلاة العيد جماعاً بحضور الآلاف، بل ربما عشرات أو مئات الآلاف من المصلين، وكلهم من الذكور بالطبع. ولا نقول هذا على سبيل المديح أو عكسه، فالأمر لا يعنينا كثيراً، بل أن، في منطقتنا على الأقل، من العلمانيين من يتندر على حساب المكثرين من إقامة الصلوات بقوله: “صلّي رزقك يولّي”. ويبدو أن هناك شيئاً من الصحة في هذه الفكاهة، إذ يلاحظ انه كلما تعاظمت طقوس الصلاة في مصر وكثر القائمون بها ازدادت أوضاع البلد جهلاً وفقراً وبؤساً. وفي أي حال، قديماً قال العلامة الفاضل والشيخ الجليل كارل بن ماركس: “الدين أفيون الشعوب”.
ولا يتوقف استفزاز الاخوان عند اسمهم فقط، بل انه يتعداه ليشمل شعارهم أيضاً. وشعار الاخوان، كما هو معروف، عبارة عن سيفين متقاطعين يحيطان برسم كتاب القرآن ومكتوب تحتهما: “واعدّوا”. وما أن تلقي نظرة سريعة على هذا الشعار حتى يتبادر إلى ذهنك السؤال: ترى لمن “يعدّ” الاخوان؟ هل لأقرانهم وإخوتهم من المسلمين الذين لا يوافقونهم الرأي أم للتيارات الإسلامية الأخرى، كالشيعة مثلاً، أو “لأهل الذمة” من المسيحيين واليهود، أو للـ”كفرة” من البوذيين وما شابههم، مثلاً آخر؟ والواضح أن هذا الشعار ينم عن تفكير بدائي ساذج، بل يدفع بأي عاقل إلى الشعور بالاكتئاب الذي سرعان ما يتحول إلى شفقة فعداء، إذ يذكر بواقع قديم كان قائماً مع ظهور الإسلام، وقد اختفى ولن يعود ثانية، ولذلك فإن من يتوق إليه يعيش في عالم من الأوهام. وفي هذا الصدد أيضاً لا يملك المرء أن يتردد كثيراً في المقارنة بين شعار كهذا وآخر وضعه الصهيونيون التصحيحيون أو “الإخوان اليهود”، إن شئتم، وهم كبار أجداد حزب الليكود، الذي يحكم اسرائيل حالياً برئاسة نتنياهو. فهؤلاء أيضاً يطالبون بما يسمونه “أرض اسرائيل الكبرى”، بضفتيها الغربية والشرقية، أي فلسطين وشرق الأردن. ولهذا جاء شعارهم عبارة عن خارطة تضم فلسطين وشرق الأردن، بحدودها الانتدابية، على محورها رسم بندقية مكتوب تحتها بالعبرية، “راك كاخ”، أي “هكذا فقط”، وهو ما لا يبتعد كثيراً عن مفهوم “واعدّوا” الاخوانية.
وأياً كانت أماني وأحلام الإخوان وغيرهم من الاسلامويين، على اختلاف نكهاتهم، من الواضح للغاية أنهم لا يملكون القوة لأن “يعدّوا” شيئاً، عدا ربما السيارات المفخّخة. و”السيف” الذي يتمسكون به ويتوقون إليه قديم، اعتراه الصدأ. بل يصلح فيه ما قاله مرة الشاعر الفلسطيني أبو سلمى في وصفه سيوف بعض العرب: “وسيوفهم أثرية، يا تعس هاتيك الغمود …”. والقول هذا لا ينطبق على سيوف المتأسلمين وحدهم، بل انه يشمل “سيوف” المسلمين في العالم قاطبة، على الـ”57 دولة” المصنفة إسلامية.
لقد ولّت عهود الغزوات والفتوح التي شهدتها بداية الإسلام، ولم يعد بالإمكان اليوم غزو كيلومتر مربع واحد في أي مكان في العالم. وفي عصرنا الحديث، على أي حال، لم يبق “السيف” وحده، على اعتبار أنه حكر على المسلمين، وهو ليس كذلك، رمزاً للقوة، بل هناك، إضافة إلى ذلك، العديد من العناصر الأخرى، منها العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والحضارية وغيرها. وفي هذه المجالات جميعاً يقف المسلمون، بدولهم “الـ57″، في أسفل السلم. فمنذ نحو قرنين أو أكثر تغيرت الأوضاع الكونية وأصبح الدين عند الله المسيحية، بعد أن وضعها المؤمنون بها في إطارها الحديث، كعلاقة إيمان بين الإنسان وخالقه فقط، لا دخل لها في الشأن العام، وذلك إثر إنتشار مفاهيم العدل والمساواة بعد نشوب الثورة الفرنسية، ثم الثورة الصناعية. ومنذ ذلك الوقت، راح أهلها ودولها يزدهرون ويزدادون علماً وقوة وشأناً، ليصلوا إلى وضع يمكن القول معه أن المسيحيين، ممثلين في تجمعاتهم العالمية الكبرى الثلاث، في أميركا وروسيا وأوروبا، هم الذين يحكمون العالم اليوم ويسيطرون على مقدراته. ويبدو أن الأوضاع راحت تتغير ثابتة، بحيث أن البوذية ستصبح الدين الثاني المعتمد لدى الله، بدلالة ذلك التقدم الذي تحرزه الصين في أكثر من مجال. وفيما العالم يتطور ويحرز الانجاز تلو الآخر نحو حياة أفضل، لا يزال المسلمون، بأكثريتهم، لا الإخوان وحدهم، منهمكين في….تفسير الشرعية. وقد ساهم الاخوان، في دستور مرسي لسنة 2012، الذي تم تعليقه على أي حال، بقولهم “إن مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة”.
وإذا تجاوز المرء المظاهر والشعارات وحاول الدخول إلى “جوهر” الاخوان، أي عقيدتهم، ستلفت نظرة هناك قصة الخلافة والدعوة إلى إعادة تأسيسها. وفي هذا المجال أيضا تبدو الجماعة وكأنها تغط في نوم عميق، تحلم وتهذي. فوفق مفاهيم العصور الحديثة، ولاحقاً لمستوى التطور البشري، خصوصاً خلال القرون الأخيرة، أصبحت الخلافة نوعا من الخرافة، بل أنها تحولت إلى تفاهة. لقد كانت الخلافة صالحة، ربما، وذلك دون التطرق حالياً إلى الممارسات التي نجمت عنها والمذابح التي ارتكبت باسمها والويلات التي جرتها، عندما كان الإسلام قصراً على العرب وحدهم دون غيرهم. إلا انه منذ ذلك الوقت تغيرت الأوضاع الكونية بصورة جذرية، فقد انتشر الإسلام ليعم شعوباً أخرى غير العرب، تطورت مع مرور الوقت إلى قوميات، ثم دول قومية مختلفة، مستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض. ولم تبق هناك “أمة إسلامية” قائمة بحد ذاتها، يمكن الحديث عنها وكأنها تضم مسلمي العالم كافة، بل حلّت محلّها “شعوب” إسلامية، كثيرة ومتعددة، لكل منها صفاته القومية الخاصة به، والإسلام كدين لا يستطيع أن يجمعها أو يوحد بينها كلها وكأنها كتلة سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية واحدة. ولو افترضنا أن المرشد العام للإخوان المسلمين أعلن – ما شاء الله – “خليفة” فإن معظم المسلمين، في كافة أنحاء العالم، لن يأبهوا به. إن خليفة اخوانياً، يظهر والعياذ بألله في مصر، مثلا، لن يستطيع أن يبسط سلطته على المسلمين في باكستان أو اندونيسيا أو مسلمي أفريقيا أو أي كيان إسلامي آخر. ولذلك يبدو السعي إلى الخلافة أو حتى مجرد الحديث عنها نوعاً من الهراء وأشبه بمعارك دون كيشوت مع طواحين الهواء.
وهذا الولع الكبير بالماضي، في العصور الغابرة، الذي لا يمكن إعادة إنتاجه، وبالتالي فان الواقعين فيه يعيشون في الخيال، لا يقتصر على الاخوان فقط، بل يضم أبناء عمهم من السلفيين، وهم التيار المتأسلم الآخر، الذي يأتي في خطورته، نتيجة لتخلّفه، بعد الاخوان مباشرة. فهؤلاء أيضا يتوقون للعودة إلى الماضي البعيد سعياً للسير على خطى من يسمّونه “السلف الصالح”، مع أن ذاك السلف لم يكن كله صالحاً، كما أن إعمال الصالحين منهم لم تكن كلها صالحة. ولكن رغم ذلك لا تستقيم الأمور بالنسبة للسلفيين إلا بالعودة مئات السنين إلى الوراء والتغنّي “بأمجاد” تلك الحقب الغابرة، التي أكل الدهر عليها وشرب. والسلفيون لا يكتفون فقط بإطلاق لحاهم، دون تهذيبها (وقديما قال الشاعر: “إن تطل لحية عليك وتعرض …”)، بل يطبعون “زبيبة” على الجبين إشارة إلى كثرة صلواتهم وسجودهم. وهذه الزبيبة ليست في أية حال، إلا نوعاً من النفاق، إذ لا يمكن لأي عدد من الركعات والسجود، الذي يستمر عادة أقل من دقيقة أن يؤدي إلى تغيير لون الجلد في منتصف الجبين بالذات بصورة دائمة، ولذلك فإن تلك الزبيبة المطبوعة بصورة مصطنعة، ليست من التقوى في شئ.
ويلاحظ أن هناك “تناغما”، على طريق التخريب المتأسلم، بين الفريقين في “نضالهما” ضد الحضارة والتقدم الإنساني، باتجاههما نحو التخلف والعودة إلى الوراء. ففيما يقوم الإخوان، مثلا، بمظاهرات ضد المحكمة الدستورية العليا، وهي أعلى محكمة في مصر وتعتبر فخر النظام القضائي المصري، وذلك لاستبدالها، كما يبدو، بخرافات نظام “الشورى”، الخالي من إي مضمون فعّال، يقوم السلفيون بالاعتصام ضد مدينة الإنتاج الإعلامي سعيا لمنع إنتاج الأفلام السينمائية أو الأغاني أو الموسيقى، لأنها تتعارض مع مفاهيمهم الدينية.
من وأد البنات إلى الحجاب
ليس من الممكن هنا، ولا حتى في أي مكان آخر، الوقوف على كافة التصرفات الغريبة أو الظواهر المعيبة أو الآراء والأفكار المريبة التي تصدر، أو قد تصدر، عن المتأسلمين، على كثرتها وشدة تمسكهم بها من جهة وعمق التخلف والجهل وضيق الأفق الكامن في أسسها من جهة أخرى. فمثل هذه الأرضية الفاسدة قد تحتاج إلى جيش من الخبراء، في مختلف نواحي العلوم، لسبر أغوارها والوقوف على أبعادها وتحديد الأضرار التي قد تنجم عنها والكوارث التي قد تؤدي إليها، وهذا ما يفوق طاقتنا. ولذلك نكتفي هنا بإثبات بعض العيّنات الملموسة للدلالة على الآثار الكارثية المدمرة للـ”فكر” الاسلاموي المتحجر، على تخلّفه المأساوي.
ففي أعقاب عزل مرسي ظهرت، كما هو متوقع، تعليقات كثيرة على هذا الحدث. وكان من بينها، مثلاً، تعليقاً بثته قناة “الجزيرة” القطرية، التي تحولت، في إي حال، منذ زمن، إلى بوق إعلامي مشبوه ومخرب، يؤيد الاخوان، ويعمل في خدمة مشاريع التآمر والتفرقة والتجزئة والتشتيت ودعم التأسلم وتقوية التطرف الديني والفتن الطائفية والعرقية في العالم العربي، وكل ذلك لنشر حضارة دويلة قطر، التي تحكم وتدار وفق مفاهيم العصور الوسطى. وجاء ذلك التعليق في حوار بين إحدى مذيعات “الجزيرة” المحجبات وأستاذة جامعية، لم نستطع معرفة الموضوع الذي تدرّسه، وهي الأخرى محجبة، أي أن كلاهما ترتدي ما يحلو للبعض تسميته “الزي الإسلامي” (كذا!). ورغم ارتداء هاتين ألامرأتين لذلك الزي، الذي يفترض أن الهدف منه الحفاظ على “الحشمة” وإتباع التقوى، فقد لوحظ أن هناك ما يعادل أوقية من الماكياج على وجه كل منهن، مع الأحمر الفاقع على الشفاه. وان كان مثل هذا المنظر لا يبعث على الارتياح وتظهر منه تناقضات المتأسلمين الفجة عندما يحاولون التأقلم مع ممارسات العصر، وان لم تكن كلها “رائعة”، فان ما يلفت النظر هنا ليس “هيئة” هاتين ألامرأتين فقط، بل جوهر الحديث – الحوار الذي دار بينهما، إذ انهمكتا في معرض التحريض على الحكم الجديد في مصر، ومن خلال الإشادة ولو ضمناً بالإخوان وممارساتهم، في انتقاد “حكم العسكر”، والتغني بـ”الديمقراطية” والتشديد على ضرورة الالتزام بـ”الشرعية”، على نتائج “الصندوق” التي أفرزتها.
والمفارقة، بل حقاً التناقض الصارخ والكارثة هنا، هو أن تسمع محجبتين تتحدثان عن الديمقراطية، على ما تنطوي عليه من حقوق متساوية لكافة أبناء البشر، دون فرق بينهم، وخاصة بين الذكر والأنثى، ومن ثم القبول بالآخر واحترام رأيه، بينما الحجاب، بمجرد ارتدائه، ينفيها جميعاً. ولعل هذا هو كنه التخلف، ومن ثم أساس البلاء الذي يعيش المتأسلمون في أحضانه، بل ويحاولون تعميمه على أوسع نطاق، بل انه محرك المصائب التي حطت على العالم العربي، بأكثريته الإسلامية. ولو كان هناك شئ من الذوق السليم لكان من المفترض أن لا يسمح لهاتين المحجبتين بالحديث فحسب، بل ينبغي منهما من الظهور علناً بتلك “الدشاديش” وذلك “الزي”.
يحلو لمناصري الحجاب، سواء كانوا متأسلمين أو غيرهم، التبجح بأن الحجاب من “تعاليم الدين”، بل يبدو وكأن بعضهم يؤمن بذلك عن قناعة تامة، وذلك استناداً إلى تعاليم وفتاوى وأحاديث “صحيحة”. وفي هذا الصدد لا يمكن، في إي حال، الاستناد غلى ما صدر أو قد يصدر عمن يدّعون الخبرة بالفتاوى وهم كثر، والعديد منهم يبدون كالمخبولين، ولذلك ليس لنا، في هذا المجال، إلا اللجوء إلى الأزهر الشريف وعلمائه الأجلاء، الذين صدر عنهم أكثر من “فتوى” أو رأي أو إعلان أو بلاغ مفادها جميعاً “إن الحجاب عادة وليس عبادة”. وهذه العادة سيئة تنم عن تخلف عميق، يتنافى مع ابسط قواعد الديمقراطية والمساواة.
إن المحجّبة لمجرد مظهرها، تقر علناً وتقترف بالدونية في علاقاتها مع الرجل والتفرقة فيما بينها وبينه لصالحه. وهي أيضا، بمجرد وجودها، تثبت أيضاً أن “ذكورها” من أهل بيتها، أي والدها أو أخوها أو زوجها أو ابنها يدينون أيضا بتلك “القيم” ويقرونها. وفي مجتمع كهذا، حيث تسوء التفرقة الممأسسة بين المرأة والرجل داخل البيت الواحد وفي العائلة الواحدة، لا يمكن أن تنشأ مساواة بينه وبين الآخرين. إن من يميز بين أبناء بيته سيميز أيضاً ضد أبناء دينه، إذا اختلف معهم في الرأي، وبالطبع ضد أبناء الأديان الأخرى “على البيعة”. ولذلك فان “المجتمع المحجّب”، حقيقة، لا يقر بالمساواة ولا يعترف بها، وحديثه عن الديمقراطية وصندوق الانتخاب وتداول السلطة، وغيرها من المصطلحات الحديثة، على ما ترمز إليه من قيم، ليس إلا دجلاً.
ومما يؤسف له أن آفة الحجاب هذه آخذة في الانتشار كالوباء الفتاك، تنتقل من مكان إلى آخر بسرعة مذهلة. ففي بلادنا، ونعني فلسطين، مثلاً، لم تكن تصادف في هذه المدينة أو تلك قبل 15 أو 20 عاما، إلا محجّبة هنا أو أخرى هناك. أما الآن فانك لا تصادف هناك إلا المحجّبات، ومنهن العديد من الشابات، اللواتي يرتدين البنطلون الضيق الملتصق بالجسم، بحيث يكاد لحمهن يتفجر منه ويطلين وجوههن بالماكياج، ولكنهن “يعتمرن” في الوقت نفسه الحجاب، دون أن يكون بإمكانهن الوقوف، على ما يبدو، على مدى التناقض الصارخ في منظر كهذا. ولما سؤلت بعضهن عن معنى هذا التصرف أوضحن أن حظوظهن في الزواج ستصبح معدومة إذا لم يرتدين الحجاب، للدلالة على أن ذلك التخلف المحجّب هو مطلب ذكوري أساسا، تضطر المرأة إلى قبوله لتحظى برضى الرجل، ومن ثم تدبير شؤون معيشتها.
وإذا كان المجتمع الفلسطيني، في الأراضي الفلسطينية المحتلة “حديثاً”، إي سنة 1967، يكتفي بالحجاب، فان إخوانه في الجزء الآخر من الوطن، المحتل “قديماً”، إي فلسطينيو الـ48، وخصوصاً في منطقة المثلث في أواسط البلاد، قد تجاوزوا تلك المرحلة وانتقلوا إلى النقاب. ويصف لنا صديق من تلك المناطق الوضع العام في بعض المدن والبلدات الموجودة هنالك بقوله انك لا ترى هناك في الشارع إلا الذكور، وبينهم تسير “براميل” متشحة بالسواد، الذي يلف الجسم بأكمله، بحيث لا يمكنك أن تفرق إذا كان “البرميل” الذي يمر بجانبك هو أمك أو أختك أو زوجتك أو إبنتك.
والحقيقة أن آفة الحجاب، الذي “يفاخر” المتأسلمون، على اختلاف أصنافهم، به، رغم ما يرمز إليه من تخلف عميق ومفاهيم منافية لروح العصر، على ما لذلك من دلالات، ليس شأناً ثانوياً يمكن أن يمر عليه مرور الكرام، بل أن لها جذوراً سامة، تعود إلى عصور قديمة للغاية، لا تزال حية وتفعل فعلها. ففي العصور الغابرة، أيام الجاهلية وقبلها اعتاد العرب القدامى (شُلّت أياديهم) على “وأد” البنات، أي دفن بناتهم، أو بعضهن وهن إحياء، حتى لا يكبرن ويرتكبن المعصية ويدنّسن”شرف” العائلة، فهنّ لا بد، وفق تلك العقليات المتحجرة، فاعلات ذلك. ويروي أحدهم قصة عن الخليفة عمرو بن الخطاب، عندما راح يصف، باكياً، كيف قام بعملية وأد ابنته، ذات الثمانية أعوام، التي كانت تنفض بيديها الصغيرتين الغبار الذي علق بلحيته وهو يعد الحفرة التي دفنها بها حية. ويذكر آخر أن ابنته نظرت إليه باستسلام قبل وأدها قائلة: “أوصيك خيراً بأبنتي، يا أبي”. ومن يمارس كل هذه الوحشية والقسوة مع أهل بيته، وهم من لحمه ودمه، لن يتردد كثيراً في تطبيق ما يشابهها على “المخالفين” والخصوم والأعداء، مثل قطع اليد أو الرجل أو ربما، اخيراً، العنق.
ولقد حاول الإسلام الحد من ظاهرة اضطهاد النساء وتحقيرهن، واستبدالها بمعاملتهن بالحسنى. وتكاد ألسن بعض المسلمين لا تتوقف عن الإشادة بتعاليم الإسلام السمحة، الذي كرّم المرأة وأنصفها. وبالمقارنة مع ما سبقه فقد كرّم الإسلام المرأة فعلاً وحظر عملياً وأدها وإساءة معاملتها، ولكنه، في “تكريمه” لها جعلها متساوية لنصف الرجل فقط، على ما في ذلك من انتقاص لمكانتها. وبانتهاج هذا الطريق اتبع الإسلام، في هذا الصدد، خطى اليهودية وتقاليدها، التي أخذ عنها الكثير، فيما أخذ القليل عن المسيحية، وهما الديانتين الموحدتين اللتين كانتا قائمتين قبله. بل أن قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن تلك اليهودية. والديانة اليهودية تميّز علناً، بشكل صارخ وفاضح ضد المرأة والاغيار (جمع “الغير”، وهي عبارة تضم كل من هو غير يهودي). بل تكاد تلك الفتاوى التي يطلقها بعض المتأسلمين المأفونين بشأن المرأة، لا تقارن، في غرابتها وجنونها ووحشيتها، مع تلك التي يطلع بها بعض اقرانهم من اليهود. والتمييز الصارخ ضد المرأة في اليهودية، الذي تسربت بعض أسسه إلى الإسلام، يدفع بعض التيارات اليهودية المتزمتة حتى إلى اعتبار المرأة مخلوقاً نجساً لا يجوز ملامسة جسمها، بل من المستحسن عدم النظر إليه، عدا الوجه، وعند الضرورة فقط، إذ أن كنه مهمتها في الحياة هي إنجاب الأولاد فقط. وتنطبق هذه “القواعد” حتى على علاقة الرجل بزوجته، ولذلك يحتفظ الأزواج من أتباع هذا التيار في بيوتهم بستار كبير، يعتبر من عدة العرس، فيه ثقب واحد، حيث يقوم الرجل بوضعه على زوجته، عند معاشرتها، ليغطي جسمها كله حتى لا يلامسه، ويقوم بعملية التزاوج من خلال ذلك الثقب فقط. وإزاء مثل هذا الانحراف لا يستطيع المرء إلا أن يتمنى ظهور متاسلم “ثوري”، يستطيع أن “يفتي” بجنون مماثل يطبق أيضاً عند التعامل مع حواري الجنة، لعل في ذلك ما يخفف من اضطهاد المرأة المسلمة ويضع حداً لتلك الممارسات و”الفتاوى” الفاسقة ( وآخرها فتوى جهاد النكاح) التي تجعل من المرأة مجرد سلعة أو أداة للمتعة.
وأياً كان من أمر ذلك التمييز ضد المرأة لأسباب “دينية”، إسلامية كانت أم يهودية، من الواضح أن هذه الظاهرة أعمق من أن تكون “دينية”، أو أن يستغل الدين في تأجيجها، بل أنها تعود، لدى الشعوب السامية بالذات، ومن بينها اليهود والعرب، إلى عصور غابرة وممارسات قديمة جداً، تتمثل منذ أمد بعيد، بعيد جداً، وقبل ظهور الأديان الموحدة، في التمييز ضد المرأة لجهة حقوقها في الإرث، مثلاً، أو مكانتها الاجتماعية وخلاف ذلك. ويبدو أن الرجل المنحدر من أصول سامية، مصاب منذ ولادته بعقدة نفسية أزلية، كنهها عدم ثقته برجولته عند تعامله مع المرأة، فلا يستطيع استمالة الأنثى إليه والتعاطي معها إلا عن طريق العنف والاضطهاد والتبعية. وهذا المرض النفسي العضال ينتقل، مع الجينات، من جيل ذكوري إلى آخر، ولا يزال قائماً على مر تلك العصور، بل انه يتفاعل وينتشر حتى يومنا هذا. ولم تفلح حتى الأديان في تخفيف وطأته، بل انه على العكس من ذلك، أثّر فيها وكاد يلوّثها. وظواهر هذا المرض وتبعاته خطيرة للغاية. فإذا كان من “الطبيعي” التمييز ضد المرأة، داخل العائلة الواحدة، واضطهادها باعتبار أن هذه “شريعة”، فمن المسموح كذلك استعمال العنف معها لتطبيق تلك “الشرائع” في حال “مخالفتها”. وما ينطبق على المرأة من تبرير لاستعمال العنف ضدها ينسحب أيضا على المعارضين من أبناء الدين نفسه، وبالطبع على أبناء الديانات الأخرى. وإذا لم يكن المستوى العادي من العنف كافياً لتحقيق الهدف ترتفع وتيرته ويتحول إلى إرهاب.
من “أهل الكتاب” إلى “ذميين”
إن التمييز ضد المرأة وغير المسلمين في الفكر المتأسلم ليس مجرد كلمة عابرة تقال، كما أنه ليس افتراءاً أو تجنّياً على أحد، بل انه حقيقة ملموسة لها انعكاساتها الضارة في أكثر من مجال، وبصورة ملموسة للغاية. ومرة أخرى نكتفي بإيراد أمثلة على ذلك، كافية بحد ذاتها للدلالة على خطورة تلك الممارسات وللتحذير من تبعاتها.
ففي دراسة إحصائية نشرتها مؤخراً مؤسسة تومسون رويترز، شارك في إعدادها 336 باحثاً، وشملت 21 دولة عربية، لدراسة أوضاع المرأة ورصد التغييرات التي طرأت على المجتمعات العربية منذ ثورات”الربيع العربي”، اتضح أن مصر بالذات هي الدولة الأسوأ من حيث معاملة النساء (فيما جاءت دولة جزر القمر الأولى من حيث إعطاء النساء حقوقهن). فقد اتضح أن 72% من النساء المصريات يتعرضن للتحرش الجنسي من قبل الرجال عند خروجهن من البيت، سواء تم ذلك في الأماكن العامة أو الشارع أو حتى أماكن العمل، وتلك النسبة هي الأعلى، والأسوأ، بين الدول العربية كافةً. وإذا تذكرنا أن هذه النسبة المخجلة تظهر في بلد يُصف أهله بالتدين ولا يكفون عن الصلاة ليلاً نهاراً، لن نستطيع أن نستنتج إلا أن ذلك ” التدين” ليس عملياً إلا نوعاً من النفاق والضحك على الذقون، إذ لا يستقيم التحرش الجنسي بالمرأة مع التمسك بالدين في أي حال من الأحوال. ويضيف أولئك الباحثون أن السبب في هذا الارتفاع المفاجئ هو وصول الإسلاميين مؤخراً إلى الحكم في مصر وظهورهم الواضح في المجتمع المصري. وإذا أضيفت إلى ذلك ظواهر الإساءة الأخرى للمرأة وسوء معاملتها، من ختان وجهل وسوء تربية، ثم سلبها كرامتها وإخافتها حتى من أن تشتكي من أساء إليها، نصل إلى نتيجة مفادها أن المجتمع في مصر، ودول عربية وإسلامية أخرى عديدة، هو ذكوري متخلف يأبى إلا أن يعيش على إطلال الجاهلية. وللمتأسلمين دور كبير في “تثبيت” أسس مثل هذا المجتمع وتعميقها والمحافظة عليها، مما لا يؤدي إلا إلى استمرار الجهل والتخلف.
والتمييز ضد المرأة والانتقاص من كرامتها يخلق “قواعد” مماثلة عند التعامل مع غير المسلمين، وفي مصر بالذات المقصود بذلك الأقباط المسيحيون على اختلاف طوائفهم. وفي هذا الصدد نكتفي أيضا بمثل آخر، وان كان ملموساً للغاية، للكشف عن عورات “الفكر” المتأسلم، على تعصبه وتخلفه. فقد كتب أحد الصحفيين الاخوانيين المعروفين مؤخراً مقالاً نشر في جريدة اخوانية “مرموقة”، يقطر حزناً واسىً ولوعة على ما ينسبه من مواقف سياسية لأقباط مصر. وفي مقاله هذا يخاطب ذلك الاخواني الأقباط منادياً إياهم بعبارة “يا نصارى”، بحيث تكاد تشعر انه لولا الخجل والبهدلة لناداهم بـ”يا…كذا”، ثم ينحى عليهم باللائمة الشديدة لأنهم صوتوا، حسب راية، كتلة واحدة لصالح المرشح المنافس لمرسي في انتخابات الرئاسة. ويستمر صاحبنا في توجيه التهم للأقباط ورئاستهم الدينية، فيما يبدو وكأنه تهديد واضح لهم، بأنه لو لم يشارك بابا الأقباط في الاجتماع الذي تم فيه عزل مرسي ثم إعلان خارطة الطريق لما تجرأ شيخ الأزهر أيضا على المشاركة في ذلك الاجتماع، وبالتالي ما كان السيسي ليتجرأ كذلك على القيام بما قام به، كممثل لأكثرية الشعب، ويحظى أيضاً بتأييد رئاساته الدينية. والواضح من سياق الحديث أن هذا الاخواني المأفون، الذي يعيش على الاعتقاد الخاطئ بأن دينه هو “الأرقى” و”الأصح” و”الأمثل”، يتوقع من “النصارى” أن يصوتوا لصالح مرسي، فيساعدون بذلك الاخوان على إقامة حكم متأسلم يتحولون فيه إلى أهل ذمة، فيدفعون الجزية ويلتزمون بالقيود التي “يجب” أن تفرض على غير المسلمين. وبذلك يفصح الرجل عن عمق المأساة التي تتحكم في “الفكر” المتأسلم، المتواجد على هامش العصر الحديث، متجاهلاً ما تم إحرازه حتى الآن من تقدّم بشري في أكثر من مجال.
وبدون الدخول هنا في ما لا جدوى فيه ولا طائل منه من القيام بـ”مفاضلات” بين الأديان، وهي ممارسات ينبغي بأي عاقل الابتعاد عنها، لا بد من تلقين المتأسلمين دروساً في التسامح الديني والعيش المشترك بين مكونات الشعب المختلفة، ومن ثم بين الأمم والشعوب، العرب منهم والعجم. وبدون ذلك لن تبقى هناك إلا دروب الحروب الدينية، التي لا طائل منها، ولا نهاية لها، إذ لا يمكن فرض الإيمان على الناس بالقوة أو حمل الشعوب على “تغيير” أديانها أو “استبدالها” بأخرى بسهولة.
وفيما يتعلق بالأقباط عامة، ما دمنا بصدد الحديث عن مصر، ومن ثم المسيحيين عامة، ينبغي تذكير المتأسلمين بان الله سبحانه وتعالى كرّم الأقباط، ومعهم قبائل عربية عديدة في المشرق العربي، وهداهم، فاعتنقوا المسيحية، وقبل ظهور الإسلام بقرون عديدة، ولا زالوا جميعاً – ونحن منهم – هناك. وان كان “النصارى” لا يفاخرون كثيراً بدينهم، كما يفعل السلفيون مثلاً، إذ لا يحتاجون ذلك، فأنهم متمسكون به، خصوصاً وان لديهم رب آخر، يختلف في سلوكه عن ذاك الذي يتبعه المسلمون أو اليهود. فالرب المسيحي ظريف ولطيف وعاقل، وهو غاية في دماثة الخلق وخفة الظل، إذ لا يفرض، مثلا،ً على المؤمن ما يأكل أو يشرب أو يلبس، ولا يتدخل في خصوصياته. كما انه لا يفرض عليه فروضاً مزعجة، كالصلاة 5 مرات في اليوم، إذ يكتفي بصلاة واحدة ووحيدة أيام الآحاد (والأعياد). والصلاة مشتركة- مختلطة للجميع، من ذكور وإناث، ففي بعض الأماكن يستطيع المؤمن أن يدخل الكنيسة بصحبة زوجته أو ابنته أو والدته أو أخته أو خطيبته أو إحدى معارفه، حيث يجلسان على المقعد سويةً، بين حضور مختلط من رجال ونساء، ليؤدوا الصلاة ثم يعودوا من حيث أتوا، دون فرق بين ذكر وأنثى. كما أن هذا الرب العاقل يتعامل بالحسنى والإقناع مع مؤمنيه، فهو لا ينهرهم عن شرب الخمر، مثلاً، بل يكتفي بنصحهم: “قليل من الخمر يفرح قلب الإنسان” (فيما يضيف بعض محبي الشراب: “والكثير منه يفرح القلب أكثر”). ولذلك فان ما قد يصبو إليه بعض المتأسلمين من فرض تعاليم “دينهم” ليست، بالنسبة لأكثرية المسيحيين، إن لم يكن كلهم، إلا دعوة للعودة مئات السنين من الحضارة إلى الوراء، وهو ما لا يغري أحداً، ولا يقبل به عاقل.
وفي أي حال لم يذكر في أي من الأناجيل الأربعة البتة: “سيأتي بعدي نبي أسمه أحمد”.
إن هذه “المفاضلة” المختصرة بين الأديان، على ما فيها من خفة، ليست نكتة، بل قد يكون للاسترسال فيها مضاعفات خطيرة، ذات أبعاد مأساوية كثيرة. فقد استبدل، مثلا، بعض المتشددين من النصارى مؤخراً ما نسب للمسيح من الدعوة إلى الالتزام بالتسامح بقوله: “من ضربك على خدك الأيمن أدر له الأيسر” بقول أخر نصه: “من ضربك على خدك الأيمن إكسر له الأيسر”.
وقد تكون لمثل هذه الاتجاهات انعكاسات خطيرة فادحة الأضرار. فاضطهاد أقباط مصر أو محاولات “احتوائهم” قد يخلق بينهم مشاعر انعزالية، مثلاً، أو يقوّيها إذا كانت موجودة، مما قد يدفعهم إلى المطالبة بكيان مستقل لهم، وبالتالي تقسيم مصر. وهذا مخطط سيجد بين أعداء مصر والعرب، من المستعمرين وأتباعهم، من لن يتردد كثيراً في تغذيته ودعمه، تمهيداً لتفتيت مصر وإضعافها، وبالتالي توجيه ضربة مؤلمة، ربما تكون قاسمة للأمة العربية بأسرها. ولنا في ما حدث مع السودان، تحت حكم المتأسلمين المتخلفين هناك، خير مثال على ذلك، بانفصال الجنوب ذا الأكثرية المسيحية عنه، في نهاية الأمر، وإقامة دولة جنوب السودان المستقلة، التي سارع العالم إلى الاعتراف بها؛ والتي لا تبدو أنها من كبار أصدقاء العرب.
غير أن الأقباط، الذين يعتبرون مصر وطنهم، قبل أن يتبارك البلد بدخول الإسلام إليه، يصرون على الحفاظ على بلدهم والالتصاق به ورعاية مصالحه، حتى في مواجهة أبناء دينهم من مسيحيي الغرب، الطامعين في مصر. بينما الاخوان بالذات هم الذين يقومون بالتنسيق مع أهل الذمة من مسيحيي أوروبا وأميركا للأستقواء بهم على بلدهم وحكوماته، مقدمين لهم آيات الخنوع والولاء والتبعية، ليتمكنوا من الوصول إلى الحكم. وبلغة أخرى، يضطهدون المسيحيين من جيرانهم أبناء الوطن الواحد من جهة ويتآمرون مع مسيحيي الغرب، حيث نشأ الصليبيون، للاستقواء بهم على وطنهم من جهة أخرى.
ولله في متأسلميه شؤون.
خذوا أسرارهم من صغارهم
ليس من السهل، بل ربما كان في ذلك شي من التسرع، اتهام الاخوان المسلمين بأنهم إرهابيين، إلا أنه، من ناحية ثانية، ليس من السهل أيضاً تبرئتهم من مثل هذه التهم، في ضوء مفاهيمهم وممارساتهم وتطلعاتهم، كما يمكن أن توحي به تلك السيوف التي “تزيّن” شعارهم. غير أنه من الواضح، في مقابل ذلك، إنهم لا يترددون في استعمال العنف، إن كان فيه ما يخدم أهدافهم، سواء كانت شرعية أو مشبوهة. وعلى الرغم من ادعاءاتهم أنهم ضحية عنف الأنظمة ضدهم، فالحقائق التاريخية تشير إلى أنهم، هم بالذات دون غيرهم، كانوا السباقين إلى ممارسة العنف، ثم الإرهاب، ضد الآخرين.
فالإخوان الذين تم إنشاء تنظيمهم لأول مرة في مصر سنة 1928 مارسوا، مثلاً، نشاطهم هناك، خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي دون أن يتعرض لهم احد بسوء، بما في ذلك السلطات الحاكمة، أو حتى يقترب منهم. إلا أن تنظيمهم السري قام، رغم ذلك، في أواخر سنة 1948، لأسباب لا تزال غير واضحة حتى الآن، وبمبادرة خالصة منهم، باغتيال النقراشي باشا، رئيس حكومة مصر آنذاك؛ فرد عليهم النظام على الأثر باغتيال حسن البنا، مؤسس الجماعة، على طريقة العين بالعين والسن بالسن. وبعد نشوب ثورة 1952، وفيما كانت تتلمس خطواتها الأولى، فيما نجم عبد الناصر آخذ في التألق تدريجياً، قام أعضاء من الجماعة، مرة أخرى بمبادرة خاصة منهم، ودون أن يستفزهم احد، بإطلاق النار عليه فيما كان يخطب في إحدى الاجتماعات العامة، ولكنهم أخطئوه. وعلى الأثر ارتد النظام عليهم، هذه المرة أيضاً، بجملة من الإجراءات القمعية العميقة كادت تحطم عظامهم. ومع نهاية نظام عبد الناصر بوفاته سنة 1970، ومن ثم استلام السادات للحكم، وبعده مبارك، لم يتغير موقف الاخوان بشكل كبير عما كان عليه سابقاً، إذ تراوحت علاقاتهم مع الأنظمة بين مد وجزر. فهم يؤيدون النظام أو يحاولون استغلاله إن كان في ذلك ما يحقق أهدافهم أو بعضها، ثم يرتّدون عليه ويناؤونه إذا عارضهم أو ابتعد عن طريقهم.
غير أن هذا الموقف تغير حوالي سنة 2005، في الحقبة الأخيرة من حكم مبارك الذي بدا وكأنه فقد كل شرعية، عندما راح الاخوان “يعدّون” فعلاً للمستقبل. ويستفاد من لوائح اتهام مدعّمة بالبيّنات والوثائق، قدّمتها النيابة العامة في مصر إلى محكمة الجنايات ضد قيادات الجماعة، وعلى رأسهم المرشد العام للإخوان والرئيس الاخواني السابق مرسي، وكذلك “صديقنا” القرضاوي أياه، وغيرهم، أن أولئك راحوا منذ ذلك التاريخ، يسعون إلى السيطرة على الدولة المصرية، ومن ثم حكمها. ولأجل ذلك لم يتورعوا عن التخابر مع جهات أجنبية، بواسطة ما يسمّى التنظيم الدولي للإخوان، وهو عبارة عن إطار يجمع شللهم في هذه الدولة أو تلك، على ما يجره ذلك من إفشاء أسرار الدفاع عن مصر لدول أجنبية أو من يعملون لصالحها. وفي هذا الإطار تحالف إخوان مصر مع “حماس”، وهي “فرع” الاخوان في فلسطين، حيث راحت عناصرهم تتسلل إلى قطاع غزة، خصوصاً بعد أن قامت حماس بانقلابها فيه سنة 2006 وسيطرت عليه، عبر الأنفاق السرية بين القطاع ومصر لتلقي التدريب العسكري وفنون القتال واستخدام السلاح، ثم تعود ومعها آخرين من المنتمين لتلك التنظيمات إلى مصر لتنفيذ المهام المعدّة لها، عندما يحين الوقت لذلك. وفي الوقت نفسه وثّق الاخوان علاقاتهم مع العناصر التكفيرية المتطرفة التي راحت تتوافد على سيناء وتتمركز في شمالها بالذات، على الحدود المصرية مع قطاع غزة وإسرائيل، مستغلة ضعف قوات الجيش المصري في تلك المنطقة، نظراً للقيود المفروضة على نشاطه فيها بسبب معاهدة الصلح مع اسرائيل. ويبدو أن ذلك تم بتمويل من التنظيم العالمي للإخوان وكذلك قطر ضمن مساعيهم لإقامة إمارة إسلامية تضم قطاع غزة وشمال سيناء على الأقل. وكانت بعض الجماعات التكفيرية المتمركزة هناك قد نشطت في نشر الفوضى خلال ثورة 2011 ضد مبارك، وهي التي اقتحمت عدداً من السجون المصرية وأفرجت عن عدد من المسجونين الخطرين.
وقد كافأ مرسي هذه الجماعات، بعد انتخباه رئيساً، إذ أصدر خلال سنته الرئاسية الأولى والوحيدة 4 قرارات عفو رئاسي شملت الإفراج عن 810 محكومين، ومنهم من كان مداناً بتهم إرهابية أو بشن هجمات على الجيش المصري وأفراده ومنشآته؛ وبعضهم ضبط فيما بعد بالمشاركة في عمليات إرهاب جديدة. وفي الوقت نفسه راح مستشارو الرئيس يمارسون الضغوط على أجهزة الأمن المصرية لمنعها من اعتراض العناصر التكفيرية الإرهابية، التي راحت تتوافد من خارج مصر، متجهة إلى التجمع في شمال سيناء. ويبدو واضحاً أن الاخوان سهّلوا هذه العملية لإنشاء قوة هناك، دون الاهتمام إذا كانوا بأكثريتهم من التكفيريين الإرهابيين الذين لا يقيمون وزناً كبيراً للإخوان في نهاية الأمر، وذلك بهدف استغلالها ضد الجيش المصري وإرباكه إذا ما حاول التعرض لحكم مرسي وإخوانه. بل إن احد قيادات الاخوان، ويدعى محمد البلتاجي، أوضح صراحة للسيسي انه لن يكون استقرار في مصر إذا ما حاول بعضهم مناؤة الحكم الاخواني أو التعرض له؛ وان سحب هذه الأقوال فيما بعد واعتذر عنها.
ولم يكن البلتاجي، في أي حال، مضطراً إلى التنكر لما قاله، إذ سرعان ما أثبتت الأحداث صحة تهديداته. فما أن اُعلن عن عزل مرسي حتى اجتاحت مصر موجة من الأعمال الإرهابية، التي استهدفت الوزارات الحكومية والمنشآت العامة والمواقع الحساسة وأفراد قوات الأمن، على اختلاف أجهزتها ومقارها وتجمعاتها. وقد استطاع الأمن المصري احتواء معظم هذه الهجمات وإبطال مفعولها، فيما راح الجيش الثاني يشن حملة واسعة للقضاء على الإرهاب في شمال سيناء خاصة، أسفرت عن سقوط عشرات القتلى من التكفيريين الإرهابيين واعتقال المئات منهم، فيما فقد الجيش أيضا عدداً لا بأس به من جنوده. وتم خلال تلك الحملة تدمير العديد من “العشش” الإرهابية، وكذلك الاستيلاء على كميات من الأسلحة، تبدو مخيفة في تنوعها وكمياتها، وفق المواصفات التي تنشر عنها في الصحف، إذ تكاد تكفي لإرهاب بلد بأسره. وفي الوقت نفسه قام الجيش بتدمير المئات من الأنفاق بين غزة وسيناء، إن كان ذلك بنسفها أو إغراقها بالمياه، لقطع خطوط الاتصال بين الإرهابيين في كل من غزة وشمال سيناء. وبذلك أصبحت الأوضاع في قطاع غزة، الذي يعاني من الحصار الصهيوني، أسوأ مما كانت عليه سابقاً. وأيا كان من أمر الكر والفر في هذا الصراع، من الواضح أن حظوظ التنظيمات الإرهابية في البقاء، في مواجهة الجيش، قليلة للغاية، إن لم تكن معدومة؛ ومن جهته يبدي الجيش، ومعه السلطات المصرية، تصميماً كبيراً على قطع دابر الإرهاب وتدميره واقتلاعه من جذوره. وعلى رأي الاغنية: “تسلم الايادي …”.
وللدلالة على مدى وحشية، بل حيونة، تلك الجماعات التكفيرية، وبالتالي خطرهم الكبير والداهم على كل ما يحيط بهم، تكفي الإشارة أن بعضاً منهم قاموا، مثلاً، بقتل 15 جندياً مصرياً فيما كانوا يتناولون طعام الإفطار في إحدى أيام رمضان 2012، لا لسبب إلا للاستيلاء على أسلحتهم ومعداتهم العسكرية، كما اتضح من الاعترافات التي أدلى بها بعض من تم إلقاء القبض عليهم ممن شاركوا في تلك العملية، وبينهم فلسطينيون من جماعة أنصار بيت المقدس. وفي عملية أخرى قام آخرون من تلك الجماعات بقتل 25 جندياً مصرياً آخر، وهم في طريق عودتهم من معسكرهم إلى بيوتهم، بعد أن أكملوا فترة خدمتهم العسكرية وسلموا أسلحتهم، وذلك بعد أن تم تعذيبهم بوحشية قبل قتلهم، وكل هذا لأنهم من “جيش الطاغوت” على حد تعبير المشرف على تنفيذ تلك العملية، المدعو عادل حباره والذي ضُبط فيما بعد.
إن المجموعات التكفيرية، التي تحاول التخريب هنا وهناك في مصر، لبست بالضبط وعلى وجه التحديد جزءاً من الاخوان المسلمين بالذات، ولكن الطرفين غير بعيدين عن بعضهما البعض أو، بصورة أكثر دقة، لا يترددان في التعاون سويةً، لتمكين كل منهما من تحقيق أهدافه. ففي إعقاب الإعمال التخريبية التي شهدتها مصر على أثر عزل مرسي، ومن ثم عمليات اعتقال المشبوهين الواسعة التي تبعتها والتحقيقات التي ترتبت على ذلك، قامت النيابة العامة المصرية بإحالة 123 شخصاً من الاخوان، بينهم معظم، إن لم يكن كل نشطائهم المعروفين في مصر، إلى محكمة الجنائيات. وعدا عن أولئك ضمت قائمة المتهمين 68 شخصاً من حماس و5 من حزب الله. ويستفاد من البينات والإفادات، الواقعة في 14 ألف ورقة، إليها تستند تلك الإحالة، أن أولئك المتهمين استغلوا حالة الفوضى التي سادت في مصر عقب ثورة 2011 للسيطرة على الدولة المصرية، وذلك بمحاولات هدمها أولاً، حتى وان تم ذلك من خلال المس باستقلال البلاد ووحدتها وسلامة أراضيها، ليتسنى للإخوان إعادة تشكيلها فيما بعد على هواهم. ولأجل ذلك اتجهوا إلى حمل الأسلحة الثقيلة، وسهّلوا دخول نحو 800 عنصر مسلّح إلى مصر، معظمهم كما يبدو من حماس، الذين اتجهوا في أولى خطواتهم إلى اقتحام السجون، بعد هدم أسوارها الخارجية بالمعدات الثقيلة، ومكّنوا نزلائها من الهرب (وواحد منهم كان مرسي نفسه، الذي كان يومها معتقلاً في سجن النطرون). وبعد أن قتلوا في هذه العمليات نحو 50 شرطياً قاموا بنهب تلك السجون واستولوا على ما في مخازنها من الأسلحة والذخائر، وراحوا بعد ذلك يقومون بإحراق المباني الحكومية والشرطية، هنا وهناك لتخريبها، في إطار مخطط شامل لترويع المواطنين وتخويفهم، تمهيداً لفرض سيطرتهم. وفي إطار هذا المخطط سعوا أيضا إلى السيطرة على شريط بعرض 60 كيلومتراً على طول حدود مصر الشرقية مع فلسطين، حيث تتمركز البؤر التكفيرية، وعلى أن يقتطع جزء من هذا الشريط ويضم إلى قطاع غزة لتوسيع مساحة إمارة حماس هناك وتعزيز مكانتها.
وليس من المستغرب، في اي حال، أن لا يتردد الاخوان في البحث باقتراحات اقتطاع جزء من الأراضي المصرية وتسليمه للغير، وفي هذه الحالة بالذات أختهم الصغرى حماس، أول فرع للإخوان يصل إلى الحكم بطرق ديمقراطية ثم ينقلبون عليها. فالإخوان أساساً، ومعهم حماس، لسوا حركات وطنية أو قومية، بل تياراً إسلاميا يتاجر بالدين ويتصرف على هذا الأساس. ولذلك لا مانع من مساعدة “إخوتهم” المتأسلمين لتحقيق أهدافهم، التي تصب في خدمة مصلحة الإسلام عامة. وفي هذا المجال بالذات أثبتت حماس “حسن نواياها”، بعد أنا انقلبت على الشرعية الفلسطينية وسيطرت عنوة على قطاع غزة وراحت تعيث فيه تخلّفاً وفساداً تحت رداء التأسلم، بل أنها قطعت في هذا المضمار شوطاً لا بأس به.
ولم تثبت حماس، وهي التي “تفخر” بأنها جزء من حركة الاخوان المسلمين وتسير على طريقهم “المستنير”، “حسن نواياها” في مجال العنف فقط، بل تخطت ذلك لفرض ظواهر اجتماعية متخلفة على المجتمع الفلسطيني في غزة، تتلاءم مع نفسية وعقلية الذين يعيشون في العصور الوسطى، ويمكن أن تعتبر “نبراساً” للحكم المتأسلم، الذي يصبو إليه الإخوان ومن لف لفهم، إذا ما استقرت السلطة لهم، وللتفاهات بل الكوارث، التي يمكن أن يجرها على الشعب عامة. فما إن انتهت حماس من السيطرة على قطاع غزة حتى راحت تعمل جاهدة على حمسنة أو أخونة أو طلبنة المجتمع الفلسطيني هناك بخطىً حثيثة، وان كانت هادئة، الواحدة بعد الأخرى. فقد قامت، مثلاً، بفصل البنين عن البنات في المدارس من سن التاسعة وفرضت على البنات، في هذا الجيل الصغير، ارتداء الحجاب، ثم أتبعت ذلك بسلسلة من الإجراءات المتخلفة والتافهة مثل منع الرجال من العمل في محلات بيع الملابس النسائية، ومنع المحلات من عرض الملابس الداخلية، كما أغلقت محلات الحلاقة النسائية التي يديرها الرجال وطاردت الشباب بسبب طريقة لبسهم للبنطلون وأخيراً فرضت الحجاب على طالبات الجامعات. وكل هذه إجراءات تدخل في ظواهر العقد النفسية الجنسية المستعصية، التي يعاني منها الرجل الشرقي، ذا الأصول السامية، وخاصة عندما يتأسلم.
ولم تكتف حماس بذلك بل انها تسعى إلى حمسنة المجتمع بأسره، بل استناداً إلى أسس “قانونية”، إذ قامت مؤخراً حتى بوضع مشروع قانون عقوبات جديد، يفترض بالطبع حسب رأيها فرضه على المجتمع الفلسطيني بأسره، يعود بمفاهيمه إلى عصور غابرة، بل وغابرة جداً. وهذا المشروع يهدف إلى “تطبيق إقامة الحدود”، ولذلك فإنه يوسّع عقوبة الإعدام لتطال الكثير من الجرائم، ومنها الزنا. كما انه يعيد عقوبة الجلد إلى الواجهة، التي تطبق على شرب الخمر ولعب القمار والشتم. كذلك فإنه يعرّف الطفل بمن يقل عمره عن 10 سنوات، وليس 18 سنة كما تنص عليه الأعراف والمواثيق الدولية. كذلك يعيد المشروع عقوبة قطع يد السارق، وتطبّق هذه العقوبة على من يسرق 4,25 غراماً من الذهب (أي بضعة دولارات) أو قيمتها من النقود وأكثر، وتنفّذ بقطع اليد اليمنى من مفصل الكتف، وقبل ذلك كانت من معصم اليد. أما إذا ارتكب الجاني الجرم ثانية فيعاقب بالحبس 7 سنوات. ولا يعرف لماذا لا يكون السجن أو الغرامة، مثلاً، العقوبة الوحيدة لمثل هذه الجرائم وفق ما هو معمول به في كافة إنحاء العالم، بدلاً من عقوبات القطع والبتر والجلد التي تهواها تلك الوحوش البشرية من التكفيريين والمتأسلمين ومن لف لفهم.
وإلى هذا وذلك يقوم، مثلاً، المدعو فتحي حمّاد، الذي يشغل ما يسمى منصب “وزير الداخلية” فيما تسمى “حكومة حماس” بإطلاق ما يسميه “حملات فضيلة” في رحاب القطاع للتجسس علناً على المواطنين والتدخل في خصوصياتهم. بل انه دعا مؤخراً إلى “رفع منسوب الرجولة”، فيما يدل على ضرورة رفع “منسوب العقل” لدى هذا الوهابي المأفون.
آخر الدواء الكي
في أوائل السبعينات من القرن الماضي، وبعد وفاة عبد الناصر، انتخب أنور السادات رئيساً لمصر. وقد جابه الرجل، اثر انتخابه، معارضة شديدة ومتنوعة، بل حملات من السخرية اللاذعة، ممن سماهم “مراكز القوى” في الدولة المصرية، راحت تنغّص عليه حياته. واحتار الرجل كثيراً في مواجهة تلك الجماعات، إلى أن أعلن أخيرا، في خطاب جماهيري، انه ليس هناك من حل سوى “فرم” مناؤيه.
ولا يعنينا هنا كثيراً إذا ما كان السادات قد نجح في “فرم” معارضيه أم لا، بل العبرة في الطريقة التي استنبطها ودعا إلى تطبيقها، إذ يبدو أن هذه هي الطريقة الوحيدة الملائمة للتعامل مع المتأسلمين، على اختلاف أنواعهم، من إخوان أو حماس أو طالبان أو نصرة أو سلفيين أو جهاديين أو تكفيريين وإلى آخر تلك الشلل، بمسمياتها المختلفة. إن فلول أولئك المتأسلمين إذا دخلت بلداً أفسدته وجعلت أعزة أهله أذلة، فدمّرت مجتمعه وحطّمت اقتصاده وأرجعته إلى العصور الغابرة. وهكذا فعلوا ويفعلون في كل دولة تمكنوا من تكوين قوة فيها، كأفغانستان والعراق وسوريا والسودان والصومال وغيرها، حيت تستعر الحروب الدينية، وفق مفاهيم العصور الوسطى.
وحتى أذا أستتب الحكم لمجموعة ما من تلك الشلل في بقعة ما من الارض، هنا أو هناك، فإنه لن يستمر طويلا؛ إذ لا بد من أن تظهر شلة أخرى، تعتقد أن الشريعة لا تطبق كما يرام. ولذلك ستعود الحرب وتستعر مرة أخرى، وهكذا دواليك – وربما حتى يوم الدين. ولنا في ممارسات العصابات الارهابية المتأسلمة، التي تنشط حاليا في سوريا والعراق خير مثال على ذلك؛ فهولاء لا يكتفون فقط بقتل كل من هو غير سني، كالمسيحيين والشيعة والدروز والعلويين، مثلا، بل يقتلون بعضهم البعض أيضا.
ويبدو انه حان الآن، بالنسبة لأولئك، دور مصر لإلحاقها بتلك الدول. ولو تم ذلك – لا سمح الله – لقضي على آخر قوة في العالم العربي، يمكن أن تنتشله من عالم الخراب والضياع، خصوصاً بعد أن راحت القبلية والطائفية والفئوية والجهوية تسيطر على أكثر من بلد عربي، كان يعتبر دولة، ثم تحول بفعل أولئك إلى مجرد مصطلح جغرافي، يسود فيه، في أحسن الأحوال، حكم العصابات أو القبائل أو الطوائف، سواء كانت في “الحكومة” أو “المعارضة”، مثل العراق وسوريا وليبيا وتونس والصومال وغيرها.
ومن هنا تبدو المعركة التي يخوضها الاخوان ومن ساندهم من المتأسلمين، على اختلاف نكهاتهم، في مصر، خطيرة للغاية، بل مصيرية، ولذلك لا بد من التصدّي لها بحزم وعزم لا نظير لهما، ويبدو انه لا طريق لذلك إلا ما نادي به السادات، أي “فرم” تلك التيارات والشلل المتخلفة كخطوة نحو القضاء عليها. و”الفرم” لا ينبغي أن يطبّق فقط بحق أولئك الذين تلوثت أياديهم بقتل الأبرياء والذين لا بد، رغم معارضتنا المبدأية لعقوبة الإعدام، من إحالة أوراقهم إلى المفتي، بل ينبغي أن تتسع تلك العملية لتشمل تنظيماتهم بأسرها، على اختلاف فروعها وأشكالها.
لقد جعل الاخوان من أنفسهم فئة مميزة مختارة، قائمة بحد ذاتها، تقف فوق أي مسلم آخر، وبالطبع فوق كل غير مسلم. وفي “مسيرتهم” هذه انشأوا المؤسسات والشركات والتنظيمات التي تعمل في نشر عقيدتهم وإعلاء شأنهم، وتشكل عناصر القوة لديهم، وتعمل على جذب المزيد من الاعضاء أليهم، ومعظمها يعمل بصورة “سيادية” خارج إدارة الدولة ورقابتها. ولذلك تبلور مع مرور الوقت “مجتمع أخواني” قائم بحد ذاته، لا تتردد مركباته عند الضرورة في العمل ضد أي جهة أخرى، بل ضد الدولة بأسرها، لخدمة مخططات الجماعة أو أهدافها.
وقد تنبهت الدولة المصرية أخيراً لذلك، واتخذت إجراءات صارمة في هذا الصدد، لا بد أنها ستساهم في صد الأخونة إلى حد بعيد، تمهيداً لأفول نجمها. فقد تم حل جمعيات الاخوان، بكافة تشكيلاتها وتنظيماتها واعتبرت جميعاً منظمات إرهابية غير قانونية يتعرض من ينتسب إليها، أو ينشط في أطرها، إلى عقوبات صارمة. كذلك تمت السيطرة على مؤسساتهم الاقتصادية، ثم مدارسهم التي أخضعت لإشراف النظام التعليمي في البلد. وفي الوقت نفسه تتخذ المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الأزهر ووزارة الأوقاف ما يتوجب من الإجراءات لمنع “أئمتهم” أو “شيوخهم” من الإمعان في التجارة بالدين أو إصدار “الفتاوى” الفاسدة. وفي التمسك بالسير على هذا الطريق ما سيفكك من قوة الظاهرة الاخوانية ويضعفها ويدفعها نحو الاضمحلال. وان اضمحّل الاخوان في مصر، وهي مكان منشأهم الأصلي ومركز ثقلهم، سينعكس الأمر على “فروعهم” في الدول الأخرى وبالتالي على “الأطراف” المحيطة بهم من تكفيريين وجهاديين وسلفيين و غيرهم من المعتوهين الآخرين، بحيث يتفككوا جميعاً تدريجياً أو يفقدوا القدرة على الأذى.
وقد يقول قائل إن مثل هذا الاتجاه معاد للـ”ديمقراطية”. والجواب هو أنه لا يجوز التعامل بطرق ديمقراطية مع من لا يفقه أسسها، بل يعاديها ويزدريها في قرارة نفسه، ولا يقبل بها حقيقة إلا وسيلة لتحقيق أهدافه، حتى إذا حقق غرضه تخلّى عنها وانقلب عليها ثم راح يحاربها. وقد شهد التاريخ أمثلة مؤلمة على ذلك؛ فالنازية، مثلا، وصلت إلى الحكم في ألمانيا بطريقة ديمقراطية للغاية، ثم راحت تتغول، داخليا وخارجيا، ألي أن تسببت في نشوب أكبر الحروب الدموية التي عرفها العالم. والفاشية الدينية لا تقل عنها في خطورتها. وفي أي حال، لا يبدو أن الديمقراطية وحدها هي الطريقة المثلى للتعامل مع الأوضاع المتأزمة، فقد قال المفكر أبو فارس مرة إن منح الديمقراطية لشعوب العالم الثالث يشبه عمل ذاك الذي أعطى طفلاً عمره سنتين شفرة حلاقة ليلعب بها، فقام بتقطيع أياديه ووجهه وباقي أعضاء جسمه. بل انه، في مثل هذه الحالات، قد يكون ظهور حاكم مستبد عادل أفضل من نظام “ديمقراطي” شكلي متعفن، كذاك القائم في سوريا أو العراق أو لبنان، مثلا.
وربما قال آخر إن اتجاهاً كهذا يعني عودة “حكم العسكر”، والمتأسلمون بدجلهم المعروف عن الديمقراطية، يعارضون كثيراً مثل ذلك الحكم أو ما يشابهه، خصوصاً وانه يقف سداً منيعاً في وجه محاولات التخريب ونشر الفوضى التي تخدمهم. وأيا كان، في أي حال، الموقف في هذا الصدد، من الواضح أن هناك فعلاً ما يمكن تسميته “حكم [أو ربما نظام] العسكر” في مصر، الذي لا يتصف كله بالصفات الحميدة بالذات. ففي مصر هناك مؤسسة عسكرية وهناك أيضاً ظواهر حكم عسكرية، تتجلّى مثلاُ، في مؤسسات اقتصادية مالية تابعة للعسكر ورواتب عالية يقبضونها دون غيرهم ومعاشات تقاعدية مميزة وعلاوات ومكافآت وخلافه، يبدو العسكر معها وكأنهم فئة ارستقراطية إقطاعية جديدة تنعم بمكاسب ومنافع ليست من نصيب الآخرين. وليس في هذا ما يدعم مبدأ المساواة في نظام حكم يفترض أن يكون عصرياً مستنيراً. وبالمناسبة، توجد مثل هذه الظواهر نفسها، وبصورة ملموسة للغاية، في كل من تركيا وإسرائيل، حيث للعسكر، في كلا البلدين، نفوذاً واسعاً، ترافقه منافع مادية كبيرة. غير انه، وأياً كان من أمر ذلك، فللضرورة أحكامها. فالعسكر هم في نهاية الأمر، القوة الوحيدة التي تستطيع التصدّي للفوضى والإرهاب، ومن ثم إقامة نظام حكم يحافظ، ولو بالحد الأدنى، على مقومات الدولة الحديثة. ولذلك، وأيا كانت الاعتراضات والتحفظات، يبدو بسطار اصغر مجنّد اقل أذى من “أجمل” لحية على وجه أي تكفيري أو متأسلم، أو من “أحلى” زبيبة في جبين أي سلفي.
لقد آن الأوان للتصدّي بحزم وعزم منقطعي النظير للتيارات المتأسلمة على اختلاف اتجاهاتها، خصوصاً في ضوء الأضرار الفادحة التي ألحقتها وتلحقها بالمجتمعات التي قادها سوء طالعها إلى الوقوع تحت سيطرة أو تأثير تلك القوى، إضافة إلى الإرهاب الذي راح يتفشّى في أماكن مختلفة من العالم. وعند الحديث عن الإرهاب لا بد من الإشارة، على ما في ذلك من دلالات ذات مغزى، إلى أن كافة من تعاطوا الإرهاب أو الذين دبروا العمليات الإرهابية في كافة إنحاء العالم، خلال العقد الأخير على الأقل، هم من المسلمين السنة بالذات، وكأن هولاء على رأسهم ريشة، مما دفع بسمعة العرب في العالم إلى الحضيض. وليس في ذلك ما يدعو إلى الفخر، بل انه ينبغي آن يشكّل حافزاً يدفع عقلاء السنّة وعلماؤها ومشايخها وهم كثر، إلى محاربة هذه الظاهرة، على كافة الأصعدة، ومن ثم تنظيف الدين من الشوائب التي علقت به.
ينبغي أن يكون واضحاً أن المتأسلمين يعيشون في عالم من الأوهام البائسة، التي لا تستطيع أن تجلب منفعة تذكر. وفي هذا العصر ينبغي، بدلاً من تقوية التفرقة، البحث عن القوائم المشتركة، بين الأمم والشعوب والأديان، من خلال الالتزام بالديمقراطية واحترام الحريات العامة وحرية الصحافة والانتخاب والتداول السلمي للسلطة، ومن ثم دعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية، والسعي إلى حياة أفضل في كل المجالات. وما يسمى المشروع الإسلامي ينبغي أن يصبح مدخلاً لمشروع حضاري إنساني، يتجه نحو استنباط أو تثبيت قيم إنسانية مشتركة تقوم على السلم الاجتماعي العالمي واحترام ثقافات الشعوب وحرياتها. وبدون ذلك سيعود الشقاق والخلاف في العالم، وربما كان في ذلك تمهيداً لنشوب حروب دينية لا آخر لها، وليس لدى المسلمين بالذات القوة الكبرى لإدارتها.
لقد وصلت سيوف المتأسلمين المتعصبين المأفونين الرقاب، في اكثر من بلد أو مجتمع عربي، وباتت تهدد البلاد والعباد بصورة ملموسة للغاية، وليس هناك من طريق لمجابهتها إلا بشلّ أيدي حامليها، وبالقوة بالطبع وعن سابق ترصّد وإصرار، قبل أن تقوم بقطع تلك الرقاب.
ومن هنا لا يستطيع المرء، ويده على قلبه، إلا أن يتمنى النجاح لشعب مصر وقواها السياسية وجيشها في مساعيهم الهادفة إلى إقامة حكم مدني مستنير وراسخ، يضمن للجميع الأمن والاستقرار والمساواة والتقدم والعيش المحترم.
وبذلك يمكن أن تتحول مصر إلى منارة، مهما كانت أنوارها خافتة، تجذب باقي الشعوب العربية وتدفعها نحو مستقبل أفضل.
وبعكس ذلك، وأن سقطت مصر، لا سمح الله، في أيدي تجار الدين فسيصبح وضعها شبيها بذلك القائم في سوريا أو العراق أو ليبيا، ويعود العرب بالتالي إلى عصور الجاهلية.