في دهاليز “المصالحة” و”الوحدة الوطنية” الفلسطينية مرة اخرى

في دهاليز “المصالحة” و”الوحدة الوطنية” الفلسطينية مرة أخرى

صبري جريس

     لعبة جديدة ـ قديمة، عمرها نحو 40 سنة، يتم تداولها منذ فترة في سوق السياسة الفلسطينية، بأشكال مختلفة تتغير وفق الزمان والمكان، وهي لا تختفي مرة إلا وتعود ثانية بحلة جديدة. فأيام زمان، وخصوصاً خلال سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ظهرت اللعبة تحت اسم “الوحدة الوطنية” (بين فتح ومنظمات الرفض الفلسطينية)؛ ولكن مؤخراً تغير اسمها فأصبح “المصالحة” (بين فتح وحماس). والأداء المفترض لهذه اللعبة كان في كل الحالات متشابهاً، إذ أن هدفها المعلن كان دائماً السعي إلى إقامة جبهة فلسطينية موحدة، سعياً لتحقيق الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني، التي لا يمكن زعماً الوصول إليها بدون ذلك.

     لا يمكن من حيث المبدأ، بل أيضاً لا يجوز لكل من يُعنى بالشأن الوطني، إبداء أية معارضة لوحدة وطنية أو مصالحة تجمع بين مكونات الشعب والوطن الواحد، خاصة في حالة شبيهة بوضع الشعب الفلسطيني، الذي يرزح تحت الاحتلال ويصارع من أجل استقلاله. ومن هنا لا يجوز إلا الترحيب بأية محاولة، مهما كانت محدودة، تهدف للوصول إلى مصالحة تحقق الوحدة الوطنية وترص الصفوف، باعتبار حالة كهذه أرضية لنشاط وطني ناجح. غير أنه، من ناحية ثانية، واضح لكل من يعنيه الأمر، أن “الوحدة الوطنية” و”المصالحة” ليست مجرد كلمات فارغة تطلق في الهواء، إذ أن لها أرضيتها ومواصفاتها وشروطاً غير سهلة لتحقيقها. فهناك منطلقات ومواقف ووجهات نظر وسياسات وتطلعات وأماني، بل أيضاً مصالح تنظيمية وكذلك شخصية، وغيرها وغيرها، لكل منها تأثيره، سلباً أو إيجاباً، في حالات كهذه؛ وهي لا تتطابق بالضرورة مع بعضها البعض، بالنسبة لكافة الأطراف. ومن هنا لا بد، عند معالجة هذه الموضوعات، التخلي عن الشعارات الطنانة والمواقف “العاطفية” إذا كان الهدف هو الوصول إلى أرضية عمل مشترك، قابل للتنفيذ.

     من الناحية العملية، لا يفترض أن تكون هناك خلافات جذرية بين فتح وحماس، أو حتى مع الفصائل الفلسطينية الأخرى، بالنسبة لقضية الفلسطينيين الراهنة الكبرى في السعي نحو التحرر من نير الاحتلال وتحقيق الاستقلال، إذ أن هذه مسألة مصيرية لا يجوز للحظة التوقف عن العمل في سبيلها، وإلا نزلت الكارثة الكبرى على رأس فلسطين وشعبها. فحركة فتح (ومعها منظمة التحرير) في رام الله تسعى إلى حل القضية الفلسطينية على أساس إنشاء دولة فلسطينية مستقلة ضمن حدود 1967؛ أما حركة حماس في غزة فإنها لا تعارض هذا الاتجاه، من حيث المبدأ، بل تراها مستعدة لقبوله، شرط أن تحصل إسرائيل في مقابل ذلك على هدنة طويلة الأمد وليس اعترافاً كاملاً بها. ومن هنا، وفي ضوء تشابه المنطلقات الأساسية بين الطرفين، وإن من حيث المبدأ على الأقل، لا يفترض أن تكون هناك صعوبة في إيجاد قاسم مشترك بينهما، يدفعها إلى توحيد نشاطها في هذا المضمار، حتى وإن تمسك كل منهما برؤيته وكانت له بعض الشروط الخاصة به. كذلك هناك ما يمكن أن يسهّل الوقوف إلى اتفاق بين الطرفين، ولو من جهة السلبيات، إن صح التعبير، هذه المرة. فسياسة فتح في متابعة مسار “المفاوضات” وصلت، بما لا يدع مجالاً للشك، إلى طريق مسدود، بات عديم الجدوى، بل أنه لن يؤدي، في حال الاستمرار فيه، إلا إلى نتائج كارثية على صعيد القضية الفلسطينية بأسرها. أما عنتريات حماس وشعورها الزائد بالثقة بنفسها، باعتبارها فرعاً من حركة الإخوان المسلمين عظيمة الشأن، فقد تحطمت على أرض الواقع، وبالذات بعد أن احتلت تلك الحركة مركز أكبر الأحزاب السياسية في مصر، إثر الانتخابات التي جرت هناك بعد اندلاع ثورات “الربيع العربي”. فقد اتضح أن إخوان مصر، كغيرهم من إخوان باقي الأقطار العربية، بل حتى على شاكلة باقي الأنظمة العربية، “معتدلة” كانت أم “ثورية”، ليسوا إلا عملاء جدد للإمبريالية الأميركية، يسعون إلى خطب ودها والتنسيق معها، ليسهل لهم البقاء في الحكم، ومن أجل ذلك لا يتورعون عن إعلان التزامهم باتفاق الصلح مع إسرائيل من جهة ومراعاة المصالح الإمبريالية في المنطقة من جهة أخرى. ولذلك لم يبق لحماس ما تفاخر به من ناحية، أو ما يمكن أن تستند إليه في إتباع سياسات متشددة وغير واقعية من ناحية أخرى. ومن هنا يمكن أن يلتقي الطرفان، إن لم يكن على أرضية إيجابية، فعلى الأقل من خلال وحدة أداء سلبي، شبيهة بما أوحى به عبد الناصر مرة، في إحدى خطاباته، منتقداً “حلفاً” لدولتين عربيتين ضد سياساته، بقوله: “التقى الخايب على متعوس الرجا”.

     إلا أنه على الرغم من هذا المنطق، الذي يبدو واقعياً وعملياً، لا يمكن الافتراض أن أصحاب الأمر والنهي، في المعسكرين، سيحتكمون بالضرورة له. فقد اعتدنا في الماضي، في مناسبات لا حصر لها، على إتباع مواقف أو سلوك مسارات من قبل هواة السياسة في فتح أو هواة المقاومة في حماس، ليست في السياسة أو الكياسة في شيء، بل أنها لا تتماشى حتى مع أبسط قواعد المنطق السليم. ولهذا لا ينبغي أن نستغرب إن عاد أولئك إلى لعبة حليمة القديمة، ضاربين بالمصلحة العامة عرض الحائط، ومتجاهلين المخاطر المحدقة بقضية فلسطين، خصوصاً بعد أن أحكم الذئب الإمبريالي – الصهيوني شباكه حول فريسته الفلسطينية، وراح يستعد للإجهاز عليها.

الإخوان المسلمون والإخوان اليهود

     بات واضحاً أن ما سمي “مسار السلام” القائم على المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل، قد انتقل إلى رحمته تعالى، فـ”السلام” المنشود مات وشبع موتاً، أما “المسار” فإنه لا يزال حياً، ليتحول على مصيدة اسمها “المفاوضات” تستغل بصورة بشعة للغاية من قبل الإسرائيليين ومناصريهم لفرض وقائع الاستيطان الاحتلالي على الأرض وتمزيق ما تبقى من الأرض الفلسطينية والسيطرة عليها، من خلال السعي إلى منع قيام كيان فلسطيني مستقل وقابل للحياة فيها.

     لقد ماتت أوسلو سريرياً مع اغتيال رابين سنة 1995 ثم لفظت أنفاسها الأخيرة بعد فشل مفاوضات الحل النهائي سنة 2000، وما تبعها من شن حرب على السلطة في الضفة وتحجيمها ومن ثم حبس عرفات في المقاطعة حتى وفاته. ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم كانت كل ما دارت من مفاوضات نوعاً من العبث ومضيعة للوقت، ولم ينجم عنها إلا منح المزيد من الوقت والفرض للاحتلال لإحكام قبضته على الأراضي الفلسطينية ومقدراتها، من خلال ارتفاع حدة التنكر للحقوق الفلسطينية وتجاهلها. ونجم هذا الصلف الاحتلالي عن عاملين أساسيين، أولها التعاظم التدريجي للقوى اليمينية والفاشية في إسرائيل، علمانية كانت أم متدينة، وثانيهما الوضع المريح للاحتلال في الضفة الغربية، وخصوصاً “حمايته” من قبل النظام الفلسطيني من خلال “التنسيق” الأمني معه، ومن ثم سهولة متابعة وتنفيذ مخططاته التوسعية والاستيطانية. وعلى هذه الأرضية برزت وتبلورت المواقف الإسرائيلية المتشددة، التي يزداد تنكرها للحقوق الفلسطينية حدة مع مرور الوقت، فيما تتشعب القوى اليمينية والاستيطانية، في وقت راح كل عامل فيه يغذي الآخر ويقويه.

     ولا تقف مثل هذه الأوضاع عند هذا الحد، بل إن الأخطر ذلك هو انه ليس هنالك ما يشير إلى إمكانية تغييرها سلماً. فالمد اليميني الاستيطاني في إسرائيل لم يظهر صدفة، بل جاء على أرضية تغييرات ومسارات مهمة ، اجتماعية ودينية، لها انعكاساتها السياسية الواضحة، ومن الضروري الوقوف عليها وأخذها بالحسبان عند رسم أية سياسات مستقبلية. وحتى لا نطيل الشرح وندخل رأساً في الموضوع، تقتضي الإشارة إلى أن هنالك في إسرائيل “صحوة دينية” يهودية أيضاً، شبيهة بمثيلتها وابنة عمها الإسلامية في الدول العربية. ففي العالم العربي إخوان مسلمون وفي إسرائيل إخوان يهود، ولا يختلف أي منهما عن الآخر كثيراً، في منشأه وأنماط تفكيره أو تطلعاته. وليس في الأمر، على أي حال، أية غرابة. فهناك أساساً تشابه وتقاطع كبيرين بين الديانتين اليهودية والإسلامية، في أكثر من مجال وعلى كثر من مدى، إذا إن الهَلاخاه اليهودية من جهة والشريعة الإسلامية من جهة أخرى تكادان تكونان وجهين لعملة واحدة، من حيث المنشأ والفلسفة وأطر التفكير والممارسة وخلافه. كما أن قوانين الأحوال الشخصية الإسلامية، في أسسها، تكاد تكون نسخة فوتوكوبي عن زميلتها اليهودية، بما في ذلك الانتقاص من حق المرأة وجعلها مساوية لنصف الرجل. ولذلك ليس من المستغرب، في ظل هذه الأرضية الدينية الاجتماعية المتشابهة في الكثير من عناصرها، أن يتبلور أيضاً اخوان يهود شبيهون بأبناء عمهم المسلمين، إن من حيث المنطلقات أو الممارسات أو التطلعات. بل انه حتى مظاهر الطرفين الخارجية تكاد تنطلق من التفكير نفسه. فهؤلاء يعرفون باللحية والجلباب الأبيض، وأولئك بالسوالف الطويلة والمعاطف السوداء، التي يصرون على ارتدائها حتى في أكثر أيام الصيف حراً. وقواعد مماثلة تنطبق أيضاً على لباس الأخوات المسلمات والأخوات اليهوديات. فليس هنالك ما يسمى “زياً إسلامياً” فحسب، بل إن هناك أيضاً “زياً يهودياً”.

     ويقال أن الخوف من نتائج هذا المد الديني اليميني في الكيان الصهيوني، التي راحت ملامحه تبدو واضحة للعيان منذ أكثر من 40 سنة، هو الذي دفع رابين إلى الاتجاه نحو اوسلو، في محاولة لإنقاذ إسرائيل من نفسها (ومعها حزبه العمل) والإبقاء عليها دولة علمانية، يهودية “نقية” قدر الإمكان. إلا أن الإخوان اليهود قتلوه عنوة بعد نحو سنتين من توقيع اوسلو، تحت تأثير حملة من التحريض الدموي قادها نتنياهو إياه، دون غيره. ثم تسببوا في وفاة شارون، بعد أن “هداه الله” فانسحب من غزة وراح يلمح إلى إعادة “تجميع” الوجود اليهودي في الضفة، فيما بدا كأنه إعداد للانسحاب منها أيضاً. وكانت وفاة شارون آية في الألاعيب الشيطانية لتلك الزمر الإجرامية، فالرجل توجه بسرعة إلى مستشفى هداسا في القدس لتلقي العلاج، بعد أن شعر بوعكة في صدره، فتلقى هناك إثر وصوله جرعة لتمييع دمه أدت إلى تمييع مخيخه، فدخل في حالة موت سريري. وعرض هذا العمل فيما بعد وكأنه تم خطأ، وهو ما ليس من السهل تصديقه من قبل مؤسسة تعتبر فخر المؤسسات الطبية الإسرائيلية، خصوصاً وأن تاريخ شارون الطبي، التي اعتاد على تلقي العلاج هناك، معروف لديها جيداً. وبين هذا وذاك تسبب أولئك في استشهاد الرئيس الراحل عرفات. ومؤخراً دعا أحدهم في صحيفته، التي تصدر في اميركا، إلى اغتيال الرئيس اوباما، الذي يشكل بسياسته “خطراً” على ما يسمى “أمن إسرائيل”.

     وما تجدر الإشارة له أيضاً أن كلاً من صنفي الإخوان يمارس العمل السياسي بالأسلوب ذاته، ولكن مع اختلاف “بسيط”، وإن كان جوهرياً للغاية في مضامينه. فالشطر المسلم وخصوصاً في مصر، إخواناً كانوا أم سلفيون، يعملون من خلال الخنوع للامبريالية والتبعية لها واستجداء المعونات منها، معربين عن استعداد واضح للعب دور “التابع” لها، بل يبدون ممتنين لمنحهم مثل هذه الدور للعبه، بينما الآخر، اليهودي، يعرض نسه “حليفاً” للامبريالية، مطالباً بالمنافع والمساعدات المترتبة على ذلك. والفرق بين المنطلقين واضح للغاية.

     وقد حقق الإخوان اليهود بسياسة “التحالف” مع الامبريالية انجازات كبيرة حقاً، خصوصاً وأن نقطة انطلاقهم كانت مريحة منذ البدء، باعتبار أن كيانهم الصهيوني أقيم أساساً في فلسطين ليكون بمثابة مخلب قط للقوى الامبريالية عموماً، لمساعدتها في السيطرة على المشرق العربي والتحكم في مقدرات أهله. فمن خلال هذا التحالف ضمنوا حمايتهم أولاً ثم دعمهم، ثم راحوا يجمعون قواهم ويصقلونها، إلى أن وصل الحد إلى وضع بدأ معه الصبي يتمرد على معلمه، وراحت إسرائيل “تشير” على الامبرياليين بما يتوجب عليهم عمله لحماية مصالحهم ومن ثم حمايتها طبعاً. فقد استغل أولئك، مثلا، نفوذهم الواسع في مجالات المال والإعلام في اميركا وكادوا يسيطرون على حياتها السياسية، بأبعادها الداخلية والخارجية، إذ يندر أن ينتخب هناك شخص لمنصب ما إذا لم يكن محابياً لإسرائيل. بل إنهم، في الآونة الأخيرة  وصلوا إلى قمة نفوذهم عندما “سيطروا” على الرئيس اوباما، من خلال استغلال تطلعه إلى إعادة انتخابه لولاية ثانية، وحاجته للدعم لتحقيق ذلك، فحملوه على تغيير سياسته بصورة مزرية ومبتذلة، والانحياز بشكل كامل إلى تأييد المصالح الإسرائيلية. إذ يكاد الخطاب الذي ألقاه الرجل في الاجتماع السنوي للوبي اليهودي في اميركا، العام المنصرم، يصلح لأن يكون بياناً سياسياً لحكومة إسرائيل، على سياستها التوسعية والعنصرية. ويلاحظ أن “الحج” إلى الاجتماع السنوي للوبي اليهودي في اميركا يكاد يكون فرضاً على كل طامح إلى منصب سياسي في اميركا، حيث يغسل نفسه هناك بكافة صيغ التزلف والابتذال الصهيونيين.

أوراق التين الفلسطينية

     في ضوء التحديات المصيرية، والهجمة الصهيونية ـ الامبريالية على حقوق الشعب الفلسطيني وكيانه، يفترض في أي اتجاه نحو “المصالحة” أو “الوحدة الوطنية” أن يركز، أساساً، على خلق الأطر والآليات الداعمة للنضال الوطني الفلسطيني، قبل أي مجال آخر، وذلك على الرغم من أهمية إصلاح البيت الفلسطيني داخلياً. صحيح أن الاتجاه إلى الاحتكام إلى صناديق الاقتراع وإقامة نظام حكم ديمقراطي تعددي، استناداً إلى اتفاق وطني شامل ليس إلا سياسة رشيدة لا يجوز تجاهلها. بل لا مانع، في هذا الصدد، حتى من صنع كبسولات “مصالحة” أو “وحدة وطنية”، شبيهة بتلك التي تستعمل كمضادات للحيويات، يمكن لكل من يحتاجها أن يبتلع واحدة منها صباحاً وأخرى مساءاً، لتهدئة أعصابه وضبط وضعه النفسي. إلا ن الصحيح أيضاً، في الحالة الفلسطينية الخاصة، أن هذا بحد ذاته غير ممكن. فقد جرت ، مثلاً، مظاهرة ديمقراطية للغاية في انتخابات 2006، إلا أن نتيجتها كانت قيام إسرائيل باعتقال نصف أعضاء المجلس التشريعي وثلثي الوزراء تقريباً. وليس في هذا إلا دليلاً قاطعاً على استحالة قيام نظام ديمقراطي حقيقي في ظل الاحتلال، ومن هنا لا بد أولاً من التركيز على برنامج سياسي نضالي، في مواجهة المحتل ، فيما يسير برنامج الإصلاح الداخلي إلى جانبه، كتابع له. وبعكس ذلك هناك خشية حقيقية من أن تتحول مسارات المصالحة والوحدة الوطنية إلى نوع من أوراق التين، التي قد تستعملها الزعامات الفلسطينية، سواء في فتح أو حماس، أو حتى بعض “المستقلين”، لتغطية عوراتها، وهي كثيرة، وتوجيه الأنظار نحو مسائل جانبية أو تافهة لإبعاد الشبهة عن تقاعسها وتخاذلها وإحجامها عن خوض المعارك الملحة المفروضة على الفلسطينيين.

     وهناك عملياً أكثر من دليل على الحاجة إلى أوراق التين على الساحة الفلسطينية من جهة، وكذلك استعمالها في مناسبات ولأغراض مختلفة من جهة أخرى، من قبل هذه الجهة أو تلك. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ونكتفي بالقليل منها. فكلا من فتح وحماس، مثلا، تبدي تأييدها للمقاومة الشعبية وتدعو إلى تفعيلها في مواجهة الاحتلال. والاتجاه هذا صحيح تماماً، إلا أن له متطلباته، وأولها فتح باب النضال الشعبي على مصراعيه، وترك القوى المدنية تمارس هذه الأنشطة، دون محاولات استفزازها وتحجيمها، وعملياً قمعها؛ أي باختصار خلق المناخ المناسب لذلك والمحافظة عليه. إلا أنه، على صعيد الممارسات اليومية الفعلية، على الأرض، يحدث عكس ذلك تماماً. ففي إمارة حماس في غزة، مثلاً، لا يعقد أي اجتماع، خصوصاً إذا كان له طابعاً سياسياً ومهما كان خفيفاً، دون موافقة الأجهزة الحركية، والتي نادراً ما يمكن الحصول عليها. بل إن حماس تمنع أي اجتماع عام ما لم تكن الأعلام الخضراء ترفرف عليه. أما في سلطنة فتح في الضفة فإن الوضع ليس أحسن حالاً، وإن كانت أساليب القمع أكثر “حضارة”. ففي الضفة لا يمنع أي إجماع بصورة رسمية، ولكن إن حدث مثل هذا الاجتماع وكانت الدوائر العليا غير راضية عنه، فأنه سرعان ما يحضر “للمشاركة” فيه مجموعة أو أكثر من البلطجية الشباب، وهم عملياً من عناصر أجهزة الأمن الضفاوية الذين يرتدون الثياب المدنية، فيضربون ويحطمون ويعربدون ويفضون الاجتماع. وإذا احتج أحدهم على ذلك سارعت الدوائر العليا إلى نفي أية علاقة لأجهزتها بذلك، أو إعلان عدم معرفتها بمثل هذه الممارسات أساساً، بل تعمد حتى إلى “استنكارها”. فأين التشدق بدعم المقاومة الشعبية من ممارسات كهذه؟

     ولا ينبغي، على أية حال، استغراب مثل هذه الممارسات، فالفلسطينيون، في نهاية الأمر، هم شعب عربي قح، وبصفتهم هذه “يتمتعون” بكافة مركبات  “الحضارة” العربية، ومن ضمنها القمع. بل إنهم قد يتفوقون في هذا المجال عن أقرانهم العرب، خصوصاً في ضوء تجارب القمع التي ذاقوها على جلودهم من قبل “الأشقّاء” العرب، خلال رحلة لجوئهم الطويلة.

     ولا يقف التخاذل عند هذا الحد، بل إنه يتعداه أيضاً ليصل إلى التواطؤ مع الاحتلال والرقص على أنغام موسيقاه. وتكفي حادثة واحدة، مثيرة للحزن والإحباط في الوقت نفسه، للدلالة على ذلك. ففي يوم فلسطين الأخير، في 15 أيار الماضي، تداعت مجموعات فلسطينية مختلفة، داخل الوطن وخارجه، وكما يبدو تحت تأثير موجات “الربيع العربي” ، وراحت تعد لمسيرات من الدول المجاورة لإسرائيل، خصوصاً سوريا ولبنان، نحو الحدود. وبموازاة ذلك راح الحديث يدور عن الإعداد لمسيرات مماثلة في الضفة وغزة. وبدا، نتيجة لذلك، كأن الهلع استحوذ على إسرائيل، لخوفها من المواجهات مع مد جماهيري، فقامت فإعلان حالة الطوارئ وراحت تجمع قواها وتستدعي الاحتياط من بين كافة أجهزتها لمواجهة مثل هذا الوضع، فيما أوضح أكثر من مسؤول أن القوات الإسرائيلية لن تستطيع التصدي لأية مسيرة يزيد عدد المشاركين فيها على 10 آلاف، وهو ما يمكن بسهولة الوصول إلى أكثر منه، لو ترك للكتل السكانية الكبرى في المدن أن تعمل على هواها. إلا أنه سرعان ما اتضح أن قلق إسرائيل ليس في محله، اذ إن  هنالك بين الرؤوس الكبرى في الضفة والقطاع من “سيعالج” ذلك بالنيابة لها، وربما وفق إيحاءاتها وإملاءاتها. ولذلك اضطر بعض الشباب في غزة إلى اللجوء لمختلف الحيل للإفلات من قبضة أمن حماس والقيام بمسيرة متواضعة نحو الحدود، وأما في رام الله، وكالعادة، إذ إن القوم هناك أكثر “حضارة” و “عقلانية”، وكذلك دهاءاً ورياءاً، فقد نظمت مسيرة “منضبطة” انطلقت من إحدى الدوارات في رام الله ووصلت إلى الدوار المجاور، ثم تفرق المشاركون فيها بهدوء وانتظام، فيما لم يسمح لأية مجموعة بالخروج إلى ما وراء حدود مناطق السلطة. وبذلك مر كل شيء في سلام وتنفست إسرائيل ـ ومعها علية القوم في رام الله وغزة ـ الصعداء. أما الغلابى من أبناء الفلسطينيين في لبنان وسوريا، الذين صمموا على القيام بمسيرات نحو الحدود فقد جوبهوا بالرصاص من القوات الإسرائيلية على حدود البلدين، فيما “ساعدتهم” القوات اللبنانية، في شقها من الحدود، بإطلاق النار على المسيرة أيضاً، فسقط أكثر من دزينة شهداء هنا وهناك. وفي مقابل ذلك تعاطي زعماء المقاومة في رام الله وغزة، ومعهم كافة أبواقهم الدعائية الرسمية وغيرها، مع تلك الحوادث وكأن الأمر لا يعنيهم. فأين الدعم للمقاومة الشعبية في مثل هذا الأداء الفتحاوي- الحمساوي، المخزي والمشين والمهين، وفوق ذلك كله المحبط.

     أن الحاجة إلى أوراق التين لستر عورات الزعامات الفلسطينية لا تقتصر على المجال الداخلي فقط، بل إنها ضرورية أيضاً لستر العورات في المجال الخارجي، وإن كان يبدو أن أوراق الجميز باتت غير قادرة على ذلك لاتساع رقعة تلك العورات واستشراسها.

     فبعد جهد جهيد وتعب شديد، وبعد خيبات أمل كبرى من “مسار” المفاوضات، ومن ثم تقاعس الرباعية وفرار الأميركيين من المعركة وتعالي حدة العنف الإسرائيلي وإجراءاته الاستيطانية التسلطية، اقتنعت أخيراً الزعامة الفلسطينية بضرورة إتباع مسارات أكثر نجاعة واتجهت نحو المجال الدولي. وفي هذا الإطار قام رئيس السلطة بتقديم طلب رسمي إلى مجلس الأمن لقبول فلسطين دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، بعد أن ألقى خطاباً أمام الجمعية العمومية، “كل كلمة فيه اختيرت بعناية فائقة”، على حد تعبير أحد ماسحي الجوخ، وكأنه يفترض في خطاب يلقى في مناسبة كهذه أن يكون عكس ذلك . واستطراداً لذلك راحت الزعامة الفلسطينية تعمل بجد لضمان نجاح مثل هذه الخطوة، فسيّرت الوفود إلى عدد من الدول المعنية لكسب تأييدها، فيما عقدت لقاءات مع أكثر من رئيس أو مسؤول، في أكثر من دولة، لشرح وجهة النظر الفلسطينية سعياً لكسب الدعم.

     ولأول وهلة يبدو هذا المسار صحيحاً، بل ناجعاً، للتعاطي مع القضية الفلسطينية في الأوضاع الراهنة، إلا أن هذا كله ، للأسف، جاء بمثابة مهارة في غير موقعها، بل إنه تم من خلال نفسية أوراق التين اياها، التي تحولت هذه المرة إلى أوراق لوز، لم تعد صالحة لصغر حجمها على ستر أصغر العورات. فقد كان واضحاً منذ البداية، إن مثل هذا المسار ، بالطريقة التي نفذ بها، من خلال مجلس الأمن، سيمنى بالفشل في مواجهة الفيتو الأميركي المتربص به. ولم يكن أي شك في ذلك. فعشية ذلك التحرك دعا اوباما عباس رسمياً لمقابلته في البيت الأبيض، موضحاً له صراحة أن اميركا تعارض هذا الاتجاه وستستعمل الفيتو ضده، لأنه لا يرضي اليهود، الذين يحتاج اوباما إلى دعمهم المالي وأصواتهم في حملته القادمة لإعادة انتخابه رئيساً لولاية ثانية. وقبل ذلك كانت الولايات المتحدة، أساساً، قد استعملت الفيتو لإجهاض مشروع قرار في مجلس الأمن يدين الاستيطان، رغم أن أعضاء المجلس الآخرين، جميعاً، صوتوا إلى جانبه. ولكن رغم ذلك ، ورغم الوضوح التام في المواقف، بذلت الزعامات الفلسطينية جهوداً كبيرة، وأضاعت الوقت والجهد في متابعة ذلك المسار الخاطئ، الذي انتهى أخيراً، بهدوء كبير، ووصل إلى لا شيء ـ بل خرّب فرص التحرك الدولي الأخرى.

     ومما يثير الحنق أن إتباع هذا المسار بالذات، بل وبعناد كبير، عرض كأنه تمسك “بالوطنية” تم في وضع بات واضحاً معه أن هنالك مسالك أخرى أكثر نجاعة وذات حظوظ عالية من النجاح، إلا وهي القفز من فوق مجلس الأمن وتجاهل إجراءاته وفذلكاته القانونية، والاتجاه رأساً إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة. وقد أجريت مثلاً “بروفه” أولية في ذلك، عندما قُدم طلب انضمام فلسطين عضوا في اليونسكو، الذي قبل بنسبة عالية من الأصوات، وأصبحت فلسطين عضواً كامل العضوية في تلك المنظمة. وكان بالإمكان استخدام مثل هذه السابقة، أو حقيقة الاستغناء عنها كاملة، واستعمال طريقتها فقط لضمان الاعتراف بفلسطين دولة من قبل الجمعية العمومية ومن ثم تثبيت عضويتها في العديد من المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها المحكمة الجنائية الدولية، على ما لذلك من أهمية في مطاردة رموز الاحتلال، على طريق تحجيم نفوذه. إلا أنه لم يؤخذ بذلك.

     وفي وضع واضح كهذا، ومع تنوع إمكانات النشاط الدولي وتشعب طرقها، والتي كان ـ ولا يزال ـ بالإمكان اللجوء إليها، ليس من سوء الظن القول أن من أشاروا ، وهم كثر، إلى أتباع مثل تلك الطرق كانوا على علم مسبق بتلك النتيجة، وربما سعوا إليها لتجنب المواجهة الحقيقية مع إسرائيل واميركا ، التي لم يكونون يرغبون بها أصلاً. والنتيجة كانت أن بقي طلب الاعتراف بفلسطين دولة حبراً على ورق، ينام في ملفات مجلس الأمن، ليصبح بمثابة ورقة تين أخرى تستر بها بعض الزعامات الفلسطينية إحدى نواحي عوراتها، بالإدعاء أنها حاولت كل ما في وسعها، ولكن لم يكن بالإمكان أحسن مما كان، وبالتالي لن يكون هنالك مناص إلا العودة إلى “المفاوضات”.، أي عملياً الإملاءات العبثية المستمرة منذ نحو 20سنة، والتي لم تسفر إلا عن إلحاق أفدح الأضرار بقضية فلسطين وحقوق شعبها.

     وحتى الإنجاز المحدود الذي تحقق في ذلك الحراك الدولي الأخير، ونقصد به قبول فلسطين عضواً في اليونسكو، لا يفترض أن يستغل بالضرورة لخدمة المصلحة الفلسطينية، كطلب تدخل تلك المنظمة، مثلاً، لحماية المواقع الأثرية الفلسطينية، بل قد يبقى حبراً على ورق، كما حصل في حالات سابقة مماثلة له. ففي سنة 2004 فضت محكمة العدل الدولية بعدم شرعية جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل حولها محولة كيانها إلى غيتو، إلا أن أحداً في الأجهزة الفلسطينية لم يقم بمتابعته جديا. ومن كل تلك الحملة التي كان من المفترض أن تنطلق ضد الجدار، محلياً ودولياً، بقيت هنالك فقط المسيرات الأسبوعية التي تتم في نعلين والنبي صالح والقرى الاخرى المجاورة للجدار، وبقوى ذاتية، فيما الإعلام الفلسطيني يكتفي بإحصاء عدد المصابين بحالات الاختناق في تلك المواجهات. و”الدعم” الرسمي للمقاومة الشعبية في هذه الحالة “واضح” للغاية.

     ندرك ، بالطبع، إن احد الأسباب الرئيسية لهذا الأداء الفلسطيني الرسمي البائس في مواجهة تلك التحديات، هو شرنقة اوسلو، بالقيود الكبيرة والجائرة التي فرضتها على الفلسطينيين من ناحية ، وممارسة الضغوط، ليس فقط السياسية بل أيضاً المالية، على السلطة وأجهزتها من ناحية ثانية. وهذا دون أن نتحدث عن تهديدات من جهة وإلغاء بعض “الامتيازات” الاحتلالية، مثل تصاريح الشخصيات المهمة، من جهة أخرى. إلا أنه كان مفترضاً أن تقوم “القيادات”، التي تدير دفة الأمور بالانتباه لذلك مسبقاً واتخاذ التدابير اللازمة في هذا الصدد. وقد سمعنا مؤخراً أن هناك تدابير أو إجراءات أو اتفاقات تقضي بمنح الفلسطينيين شبكة أمان مالية عربية بقيمة 100 مليون دولار شهرياً، وهو مبلغ هامشي مقارنة بالإمكانات المالية العربية، إذا ما فرضت عليهم إجراءات مالية انتقامية، في حال إتباعهم مساراً سياسياً مستقلاً لا ترضى عنه إسرائيل أو اميركا. ويؤمل أن يكون في هذا مؤشراً على الاستعداد للاتجاه نحو إطلاق مبادرات ومسارات فلسطينية دولية جديدة، تكون هذه المرة أحسن حظاً من تلك التي دارت خلال السنة الماضية.

احذروا فخ “الاعتدال”

     يبدو أن قطار “المصالحة” رغم العوائق التي تفرض هنا وهناك، ماض في طريقه، وهو، أن لم يستطع، لسبب أو لآخر، الوصول إلى آخر محطاته، فلا بد له في مسيرته، رغم ذلك، من قطع أكثر من محطة أو الوقوف فيها. وعند وقوفه في أية محطة أو استعداده للانطلاق منها لابد لذلك القطار من أن ينفث عوادم سامًة، عندما تشغّل محركاته، يخشى من عواقبها على ….حماس، دون غيرها. ولا يعني هذا، والعياذ بالله ، أننا أصبحنا عضواً في تلك الحركة ، إذ إن لنا من الاعتراضات الأساسية والجوهرية عليها، ابتداء من أبسط قواعد تفكيرها وحتى آخر ممارساتها، التي لا تكون عادة إلا سيئة، ما لا يدفعنا إلا إلى توخي الحذر منها ووضعها دائما تحت المجهر.

     إلا انه من ناحية ثانية، وعلى  رأي المثل القائل بأنه لا يجرك الى المر إلا الامّر منه، لا بد من السعي إلى الإبقاء على حركة مقاومة فلسطينية، أياً كان أداؤها بائساً، على قيد الحياة، بصورة يمكن منها أن تعود إلى المقاومة الحقيقية، إن دعت الظروف ونشأت ضرورة لذلك؛ ومرة أخرى، رغم اعتراضاتنا الشديدة على حماس وممارساتها قلباً وقالباً.

     وأول ما ينبغي إيراده في هذا الصدد، هو تحذير حماس، بصورة جازمة لا تقبل التأويل، من الوقوع في فخ “الاعتدال”، التي قد تنصبه لها بعض الدوائر في فتح والمنظمة، الغارقة إلى ما فوق أذنيها، فكراً أولاً، وهذا هو الأخطر، وممارسة ثانياً، في النفسية الانهزامية الخاضعة للمنطق الصهيوني-الامبريالي ونمط تفكيره.  فقد تُقدم لحماس مثلا، طلبات لقبول شروط الرباعية الهزيلة من حيث “الاعتراف” بإسرائيل و “نبذ العنف” (واسمه الحقيقي “مقاومة”) ، لكي “تسهّل” العملية السياسية. وليس في هذا كله إلا طلبات زور ثبت بطلانها، وبالتالي ينبغي التوقف عن التعاطي عنها والقفز فوقها. ففتح، ومعها المنظمة، قبلت بكل تلك الطلبات ولم تحصل على شي، “ومن يجرب المجرّب عقله مخرّب”. كذلك ينبغي التأكيد بصورة خاصّة على رفض طلبات “الاعتراف” بإسرائيل. فهذا الكيان حصل على ما يكفيه من الاعترافات، من قبل أكثر من هيئة فلسطينية، وفي أكثر من مناسبة، ولم يسفر ذلك عن أية نتيجة ايجابية تذكر. بل إن المطالبة به لا تكاد تبدأ حتى لا تنتهي. فبعد كل تلك الاعترافات السياسية التي قدمتها المنظمة، مطلوب منها الآن اعترافات دينية بـ”يهودية” إسرائيل، مما قد يعني أن حماس قد تطالب، استغفر الله، بالاعتراف بالشريعة اليهودية، ولهذا وباختصار شديد من الصحي للغاية الابتعاد عن هذه المتاهات وعدم الخوض فيها بتاتاً. ولتترك قصص الاعتراف لفتح والمنظمة للتمتع بها. كذلك تجدر في هذا الإطار الإشارة، لعلم حماس وغيرها، أن كافة الأحزاب اليهودية، التي تشكل الحكومة الإسرائيلية، وليس فقط الليكود، بل أيضاً أولئك السلفيون اليهود، سواء كانوا أشكناز غربيين من أتباع “البيت اليهودي” أو سفاراديم شرقيين من أتباع شاس، وكذلك العنصريين الروس في حزب “إسرائيل بيتنا”، من أتباع عنصري آخر زمان المعروف باسم ليبرمان، لا تعترف عملياً بالشعب الفلسطيني أو بحقوقه. وعندما يتم ذلك، إن حدث يوماً، لكل حادث حديث.

     يُضاف إلى ذلك، ثانياً، أنه ينبغي تحذير حماس من أي تعاون مع كتائب دايتون، والمعروفة أيضاً باسم أجهزة الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية، فهؤلاء يعملون ضمن “تنسيق” مع المحتل الإسرائيلي فرضته عليهم الدوائر العليا. و”التنسيق” ينزلق بسرعة إلى “تعاون”، و”التعاون” ينتج متعاونين، ثم جواسيس. وليس القطاع بحاجة إلى مثل هؤلاء، فهناك أساساً الكثير منهم فيه.

     كذلك يُفترض في حماس، ثالثاً، رفض أية دعوة إلى نزع السلاح، تحت أي ظرف، والعمل بدلاً من ذلك على تحصين القطاع وجعله ذخراً للمقاومة، ومن ثم عنصراً مهماً في أي حل للقضية الفلسطينية، من خلال الاستناد إلى عناصر قوة وليس “المفاوضات” والمساومات، أي السعي إلى حلول قائمة على عكس الافتراضات الفتحاوية ـ الضفاوية، وإن كانت حماس في “تفاهماتها” مع الصهيونيين، للحفاظ على رقبتها، لا تختلف كثيراً عن فتح في “تنسيقها” معهم. إلا أنه، على الرغم من ذلك، هنالك أسس ما لتثبيت اتجاه كهذا؛ فحماس ليست فتح والقطاع ليس الضفة.

     إن إسرائيل لم تنفذ فعلاً انسحاباً أحادي الجانب في قطاع غزة سنة 2005، على حد ما زعمت، بل أنها، ببساطة، هربت من هناك، كما فعلت في جنوب لبنان سنة 2000 تماماً. فقبيل هذا الانسحاب كانت المقاومة المسلحة في غزة، رغم الفوضى التي سيطرت عليها، قد تمكنت من زعزعة أسس الوجود الإسرائيلي في القطاع، من خلال هجمات ليلية على المواقع والحواجز الإسرائيلية كانت تتم ليلة بعد أخرى، دون توقف، وخلال شهور طويلة. ولهذا وصل الإسرائيليون إلى قناعة مفادها أن وجودهم في القطاع، على المستوطنات الهزيلة التي أقاموها هناك، واضطروا لحمايتها ليل نهار فقط، بات غير مجدٍ، بل إن الخسارة من الاحتلال هناك راحت تزيد على الربح منه. ولهذا تقتضي المصلحة الانسحاب من القطاع وتركه لشأنه. ولكن الخبث الصهيوني في جهة، والتخاذل الرسمي الفلسطيني من جهة أخرى، مكّنا إسرائيل من تحويل هزيمتها وانسحابها إلى ربح لها. فقد قامت، كعادتها، بإرهاب الحكومة الفلسطينية ودفعتها إلى التوقيع على اتفاق المعابر معها بشأن حدود غزة مع مصر، تحت تهديد إخراج الأراضي الفلسطينية من الإطار الجمركي الإسرائيلي، فتمكنت بذلك من إحكام سيطرتها على القطاع أكثر مما كان عليه الوضع سابقاً، وفرضت الحصار عليه براً وجواً وبحراً. ولذلك فإن تباكي بعض المسؤولين الفلسطينيين على مصير قطاع غزة تحت الحصار ليس إلا نوعاً من دموع التماسيح، إذ أن النظام الفلسطيني بأسره، ممثلاً بمحمد دحلان، حبيب إسرائيل والاميركان وهاوي مشاريع الانقلابات الفاشلة، الذي تولى إخراج اتفاق المعابر، من خلال إملاءات إسرائيلية، هو المسئول الأساسي عن ذلك الحصار ونتائجه.

     ولذلك كان من الأولى بحماس، بدلاً من تجميع أوراق التين واختراع الأعذار والتقاعس والركض في الدهاليز الجانبية، الاتجاه إلى تحقيق المصالحة الوطنية، ولو ضمن إطار إمارتها في غزة، بالعمل جدياً على كسر الحصار المفروض عليها، خصوصاً وأن الظروف تبدو مواتية لذلك. فحماس تقيم، مثلاً، علاقات جيدة مع إيران، التي تملك الكثير، إن لم يكن كل وسائل كسر الحصار عن القطاع، من صواريخ برية وبحرية وجوية، إضافة إلى تجهيزات وعتاد وإلكترونيات، أثبتت التجربة أنها ذات فعالية عالية. ومن يشك في ذلك يستطيع أن يستفسر من حزب الله ويطلع عن كثب على تجربته. وكل من إيران وحزب الله يعلنان جهاراً أنهما على استعداد لتقديم العون لأي فريق يحارب الصهيونيين والأميركيين، بل أنهما في مناسبات سابقة قدما مثل هذه المساعدات، استناداً إلى تصريحات في هذا الصدد من عدد من زعماء حماس أنفسهم. فلماذا، إذن، هذا التلكؤ الحمساوي في التنفيذ؟

     صحيح أن أهل السلطة في الضفة لا يحبون مثل هذه الاتجاهات، بل أن كلمتي “إيران” و”حزب الله” تكادان لا تذكران هناك، خشية من أن “يخدش” ذلك “التنسيق” مع “الطرف الآخر” ويؤدي لإزعاجه لا سمح الله. إلا أن هؤلاء، المرعوبين والخائفين، حيث تستطيع، مثلا، أية دورية إسرائيلية اعتقال أكبر شنب بينهم وزجه في المعتقل لأية فترة تحلو لها، ودون أن نضيف أوصافاً أخرى لأدائهم، آخر من ينبغي أخذ رأيه، على اعتبار أن لهم رأياً في كبار الأمور.

الدقيقة التسعون

     رغم أن المنطق الواضح يدفع حماس، بصورة جليّة، إلى التحسب مما تقدم من السلبيات من جهة أو العمل في إطار الإيجابيات من جهة أخرى، ليس هنالك عملياً أي ضمان لذلك، بل يمكن أن تسير الأمور في الاتجاه المعاكس التخاذلي تماماً. فقد كانت سنة واحدة، لا أكثر، أي منذ بداية “الربيع العربي” في مصر وحتى اليوم، كافية لفضح المواقف المرائية والتقلبات المشينة في المواقف لدى الإسلامويين، من إخوان وسلفيين، في ذلك البلد. فأولئك الذين اعتادوا على بيع الشعارات الجهادية والوطنية خلال عقود نسوا أو تناسوا، مع أول فرصة لاحت لهم للإمساك بزمام الحكم، كافة مواقفهم السابقة، وراحوا يسعون حثيثاً للالتحاق بالركب الصهيوني ـ الإمبريالي والعمل بالتنسيق والتناغم معه، بل حتى ملائمة أنفسهم لمنطقه ونمط تفكيره.

     ولذلك لا ينبغي أن يستبعد، في إطار “المصالحة” مثلاً، تخلي حماس عن الإخوان الشيعة في ايران وإدارة ظهرها لهم، وبدلاً من ذلك السير في ركاب الإخوان السنة في مصر، التي اعتادت على التفاخر بأنهم الحركة الأم لتيارها الإسلاموي، لتصل أخيراً إلى حد التماهي مع الإخوان العلمانيين في فتح، الذين سيفتتحون لها مسرباً “للتنسيق”، وهم الخبراء في ذلك، يقودها أخيراً إلى أحضان الإخوان اليهود بزعامة نتنياهو. وإن حدث ذلك، وهو مرة أخرى غير مستبعد، ستنتقل زوبعة المصالحة التي تدور الآن في فنجان إلى طنجرة أكبر حجماً. وستبدأ عندها فصول ملهاة جديدة، تتحول هذه المرة إلى ورقة تين كبيرة ويانعة، تكفي لتغطية عورات الجميع وتقاعسهم عن النشاط الوطني الجاد والمفيد.

     والسيناريو لمثل هذا المسار واضح للغاية، خصوصاً لمن أصيب بالاختناق أكثر من مرة من أوراق التين الفلسطينية، عندما تؤدي دورها ثم تجف وينبغي حرقها. فإذا تمت المصالحة، ويبدو أن نوعاً ما منها سيجد طريقه إلى التنفيذ، بصورة أو بأخرى، ستنمو أوراق تين جديدة تصلح لستر العورات لفترة غير قصيرة. فمع الإعلان عن المصالحة الميمونة سينهك الفلسطينيون، خلال فترة غير قصيرة، في الإعداد للانتخابات ومن ثم عقدها. وما أن يتم ذلك حتى تبدأ المماحكات حول تشكيل الحكومة الجديدة وتوزيع حصص النفوذ والسلطة، التي ستستغرق وقتاً آخر. وعندما يستكمل ذلك، على الطائر الميمون، مع منتصف الصيف القادم أو نهايته، سنسمع “تحليلات” تشير بوجوب تأخير أي عمل فلسطيني جدي، لأن الانتخابات الأميركية على الأبواب، وحتى انعقادها لا جدوى من أي نشاط سياسي، لأنه ليس هناك، في المحافل الإمبريالية، المنهمكة بالانتخابات، من لديه الوقت أو النية للتعاطي مع أية قضية خارجية. وعندما تجري تلك الانتخابات، في أوائل تشرين الثاني المقبل، تكون الدورة السنوية للأمم المتحدة، التي تبدأ عادة في أيلول، قد شارفت على نهايتها، وبالتالي ستمر دون نشاط فلسطيني يذكر. ومع انتهاء الدورة والانتخابات الأميركية ينبغي أيضاً الانتظار لتنصيب الرئيس الأميركي الجديد، في مطلع السنة المقبلة. وبعد ذلك ينبغي منحه فرصة لتشكيل حكومته قبل أن يكون بالإمكان التعاطي جدياً معه. ولن يبدأ ذلك، في أحسن الأحوال، قبل حلول نيسان 2013، وبذلك تذهب سنة أخرى، أو ربما أكثر، هدراً، فيما المحتل الإسرائيلي يشدد قبضته على الأرض الفلسطينية، مقوضاً أسس أي حل سلمي، قائم على أساس الدولتين.

     وليس في عرض كهذا ما ينبغي أخذه على سبيل النكتة أو التسلية؛ فالوضع خطير للغاية وينذر بأوخم العواقب بالنسبة لحاضر فلسطين أو مستقبلها. فإسرائيل منهمكة حالياً في محاولة صد “الخطر” الإيراني والتقليل قدر الإمكان من تأثيره على مجمل أوضاعها في المنطقة، وذلك بأساليب شبيهة بتلك التي استعملتها لصد “خطر” التحركات السياسية الفلسطينية خلال العام الماضي. ففي مواجهة التحركات الفلسطينية تمكنت إسرائيل، بمساعدة اللوبي اليهودي في اميركا، من إرهاب الرئيس الأميركي اوباما ودفعه تدريجياً إلى تغيير مواقفه المعارضة لسياساتها واستبدالها بأخرى مؤيدة لها، مستغلة حاجته للتأييد لإعادة انتخابه، ثم فعلت الشيء نفسه مع بعض الدول الأوروبية، وبالتالي جرت “القيادات” الفلسطينية، مرة أخرى، إلى جولة جديدة فارغة من “المفاوضات”. وهي تحاول الآن تطبيق سيناريو مماثل تجاه إيران، مهددة بقصف المنشآت النووية هناك، في محاولة جر الغرب بأسره إلى الدخول في حرب لأجلها، لعلمها أنها لا تستطيع مجابهة إيران لوحدها. ويظهر أن هذا الاتجاه باء بالفشل، فالغرب، بل الأطلسي بأسره، لا يبدو متسرعاً في شن أعمال عدائية ضد إيران، خصوصاً بعد التجربة البائسة التي لا يزال يمر بها في أفغانستان، والتي قد تتكرر في إيران، مع أضعاف مضاعفة من الأضرار التي قد تلحق بالإمبرياليين من جراء ذلك. ولذلك يبدو واضحاً أن الغرب، وعلى رأسه الإمبرياليون الأميركيون، يمارسون ضغوطاً كبيرة على إسرائيل، مبدين السخف تجاه تهديداتها العسكرية، معلنين على لسان أكثر من متحدث، في أكثر من دولة، أن هذا الاتجاه عديم الجدوى، داعين بدلاً من ذلك إلى إتباع إجراءات الضغط الاقتصادي على إيران، بفرض حظر على استيراد النفط منها. إلا أن هذا المسار أيضاً يبدو عديم الجدوى، إذ أن هنالك دولاً عديدة في العالم، وبينها البعض من الحجم الكبير، كالهند والصين، التي لا تستطيع، حتى إن شاءت ذلك، مقاطعة النفط الإيراني، نظراً لحاجتها له؛ وذلك دون أن نتحدث عن حرب اقتصادية مضادة من قبل إيران هذه المرة، بعرقلة وصول إمدادات النفط من الخليج بأسره؛ وهو إجراء لا يبدو أن إيران غير قادرة عليه.

     وفي أي حال، ومهما كانت نتائج هذا الصراع، من الواضح أن إسرائيل هي الخاسرة في كل الحالات، فجرّ الإمبرياليين إلى جانبها للقتال نيابة عنها، إن نجحت هذه المحاولة، على اعتبار أنها لا تستطيع القيام بذلك لوحدها، يعني ببساطة تحجيم دورها في المنطقة، بفقدان القدرة على العربدة فيها وإرهاب شعوبها وحكوماتها، وبالتالي فقدان دور مخلب القط الذي دأبت على لعبه في خدمة المصالح الإمبريالية. فهي الآن بحاجة إلى من يدافع عنها، بعد أن كانت تتبجح سابقاً بأنها الحامية لمصالح الغرب في المنطقة. وتغيير كهذا في الدور الصهيوني في المنطقة، من حيث تحجيم إسرائيل وإيقافها عند حدها، لا يفترض، في المدى القصير على الأقل، أن يؤدي بالضرورة إلى ليونة أو عقلانية إسرائيلية لجهة التعاطي مع القضية الفلسطينية، بل إن العكس بالذات قد يكون صحيحاً. فإسرائيل، في قلقها على مصيرها وخوفها من عالم عربي أو إسلامي متغير، على ما يعنيه ذلك من بروز تحديات كبيرة أخرى، إن لم يكن من حيث مجرد وجودها، فعلى الأقل بالنسبة لقدرتها على الاستمرار في سياساتها السابقة وفرض هيمنتها على المنطقة، قد تلجأ بالذات إلى الاتجاه في عكس الاعتدال، فتندفع أكثر فأكثر إلى إحكام سيطرتها على الأرض الفلسطينية والتحكم في مصيرها، بدعوى أن ذلك ضروري للحفاظ على “أمنها”. بل حتى قد تتوقف عن إجراء أية “مفاوضات”، مهما كانت شكلية وفارغة المضمون، وتتجه بدلاً من ذلك إلى ممارسة سياسة الإملاءات والإمعان في فرض الأمر الواقع، ضاربة بأية مساع دولية أو إقليمية للوصول إلى اتفاق فلسطيني ـ إسرائيلي عرض الحائط؛ لتحكم بذلك سيطرتها على فلسطين وقضيتها في معظم نواحيها.

     إن أية مصالحة فلسطينية، إذن، إذا أُريد لها أن تكون ناجعة وفعالة ومعتبرة، لا بد وأن تراعي مثل هذه الأوضاع الدولية والإقليمية والمحلية، وتعمل على خلق الآليات المناسبة للتعامل معها ومواجهة التحديات التي تطلقها. ولا فائدة هناك، بل لا حاجة أساساً، إلى مصالحة تكون عملياً نوعاً من صلح عشائري أو “تبويس لحى”، تتحول إلى مناسبات تعرض فيها الطواويس الفلسطينية ريشها، وإن كان معظمه منتوفاً، فيما تستغلها الأبواق الرسمية، وما يتبعها من أخرى شعبية، فتنهمك في التطبيل والتزمير ورش أوراق الغار، وإن كانت جافة.

     والتحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية واضحة وخطيرة جداً، بل ليس في المبالغة القول أنها مصيرية. فأهل أوسلو في إسرائيل اختفوا من الحياة السياسية هناك، وحل محلهم الإخوان اليهود، بمختلف أصنافهم، وهم الذين لا يعترفون أساساً بوجود فلسطين ولا حقوق أهلها. والمفاوضات، بالنسبة لهم، ليست إلا وسيلة لكسب الوقت وتنفيذ مخططاتهم بالسيطرة على الأرض الفلسطينية تدريجياً. ولذلك فإن من يعلن، مثلا، أن خياره الأول هو المفاوضات، والثاني المفاوضات، والثالث المفاوضات سيكون نصيبه أولاً التجاهل، وثانياً النسيان، وثالثاً الاضمحلال، إذا ليس سراً أن إسرائيل لا تقيم وزناً كبيراً للسلطة ورموزها ومناطقها يمكن أن يزيد على ذلك التي درجت على إعطائه لجيب سعد حداد في جنوب لبنان.

     إن إسرائيل لم تنسحب من جنوب لبنان أو قطاع غزة طوعاً أومنة أو عن طيب خاطر، بل إن الأوضاع التي خلقت هناك وجعلت بقاءها مستحيلاً في تلك المناطق هي التي دفعتها إلى ذلك، بل حقاً أرغمتها عليه. وما لم يتم ذلك في الضفة، مع مراعاة أوضاعها وطرق النضال الخاصة بها، مثل إطلاق المقاومة الشعبية الحقيقية، لتصل إلى ما يشابه الانتفاضة الأولى من جهة، وتفعيل المسارات الدولية ومطاردة الاحتلال عالمياً من جهة أخرى، لن يحدث أي انسحاب من الضفة ـ شاء من شاء، وأبى من أبى.

     ولا حاجة للتنويه أن مثل هذه المسارات قابلة للتنفيذ سواءً كانت هنالك مصالحة أو لم تكن، وحتى إن تقاعست حماس عن الانخراط في أنشطة كهذه تحت حجج واهية مختلفة. ففي العام الماضي، مثلا، جرى ما جرى من حراك فلسطيني في مجلس الامن، وعلى جوانبه، ثم قبلت فلسطين عضوا في اليونسكو، رغم عدم اتمام “المصالحة”، بل حتى عمليا رغم اعلان بعض الحمساويين “معارضتهم” لذلك (ترى ما البديل الذي يقدمونه؟)، وبدا واضحا ان اية جهة اممية لم تقم وزنا لهم او لمعارضتهم. وليس هذا الا برهانا ساطعا على امكانية متابعة المسار الدولي، لمن يريد ذلك فعلا، سواء تمت مصالحة او لم تتم.

     ولعله من المناسب هنا، للدلالة على خطورة الأوضاع الحالية، ومن ثم انعكاساتها المأساوية، الإشارة إلى أن القضية الفلسطينية برمتها توقفت عن كونها مشكلة ينبغي حلها أو مسألة ينبغي التعاطي معها بالنسبة لأكثرية الإسرائيليين، على صعيد رجل الشارع، على الأبعاد الكارثية المترتبة على ذلك. فمنذ عقود طويلة، بل حقاً منذ راح النشاط الصهيوني يتبلور في فلسطين، قبل قيام إسرائيل، وعلى الأقل منذ أواخر عشرينات القرن الماضي، كانت مواقف اليهود من العالم العربي، وفيما بعد الفلسطينيين، الشغل اليومي الشاغل للمستوطنين الصهيونيين، الذين دأبوا، دائماً وأبداً، على تناول مواقفهم في هذا الشأن بالتحليل والتعليق وتقديم المقترحات والخطط، دون كلل. إلا أن هذا الاهتمام كله اختفى، منذ عقد على الأقل، ولم يتبق هناك إلا حفنة صغيرة، معظمها من القوى الهامشية، تُعنى بذلك.

     ففي الذهنية الإسرائيلية تم وضع الفلسطينيين، منذ حصار عرفات، في الجيب الأمامي الصغير للبنطلون الصهيوني، مع قضيتهم و”قياداتهم”، كل “قياداتهم” (تماماً كما يجري حالياً وضع الإسلامويون كافة، من إخوان وسلفيين، في الجيب الصغير للبنطلون الإمبريالي)، ولم يعد أمرهم يعني رجل الشارع الإسرائيلي كثيراً. ولذلك فإن إسرائيل مستمرة في سياسة الاستيطان والضم الزاحف دون اكتراث بأية مواقف فلسطينية، بل حقاً غيرها أيضاً. ولهذا يبدو واضحاً للغاية إنه إذا لم يتم لي رقبة الاحتلال، لا يده فقط، بحيث يرتخي حنكه وتسحب الحقوق الفلسطينية من بين أنيابه، فالكارثة قادمة لا محالة. اذ بعكس ذلك، ستقطّع فلسطين وحقوق أهلها، ولن يبقى منها إلا جيوباً شبيهة بالبنتوتسانات التي كانت قائمة في جنوب أفريقيا أيام سيطرة نظام الفصل العنصري. لقد وصلنا الدقيقة التسعين في لعبة المفاوضات والحل السلمي، ولم يبق من الوقت كثيرا.

     خلال الحرب الأهلية في لبنان، في منتصف السبعينات، التي فرضت على الفلسطينيين دون أن تكون لهم يد طويلة فيها، علق بيار الجميل، زعيم حزب الكتائب، على مواقف الفلسطينيين الذين عنوا بالحرب كثيراً وكادوا يتوهون في مساربها، فيما بدا كأنهم نسوا قضيتهم، بقوله “إن الفلسطينيين أسوأ مدافعين عن خير قضية”. ولا يبدو أنه ابتعد كثيراً عن الحقيقة في قوله هذا.

     فهل من سامع أو متعظ؟

الأرشيف