«من «ربيع عربي» إلى «خريف إسلاموي

«من «ربيع عربي» إلى «خريف إسلاموي  

 صبري جريس

     أقل من سنة مرت على اندلاع الثورات الشعبية في العالم العربي، التي أطاحت بأكثر من حاكم مستبد، في حركات من المد الجماهيري غير المألوف، عُرفت باسم “الربيع العربي”، حتى تحول هذا الربيع، بامتياز وعن طريق صناديق الانتخاب، إلى “خريف إسلاموي” يبدو جافاً وقاحطاً ومنذراً بأوخم العواقب.

     وحقيقة، لم يتوقع أي سياسي مطلّع غير هذه النتيجة. فحركات الاحتجاج الشعبي الواسع، التي فجرها الشباب قليل التجربة السياسية، وراحت تنتشر من بلد إلى آخر، تمكنت خلال فترة قصيرة فعلاً من إسقاط أكثر من نظام عربي، لكنها في الوقت نفسه خلقت بذلك فراغاً سياسياً لم يكن في قدرتها ملؤه بمضامين واضحة. كما لم تكن لتلك القوى الشعبية الأدوات الملائمة لذلك، من أحزاب أو تنظيمات سياسية مؤطرة وواضحة المعالم. ولذا بات الطريق مفتوحاً أمام القوى القديمة المنظمة، التي ما باتت تنخر في الجسم العربي، وأساساً الشق المسلم منه، منذ عقود؛ وفي طليعة أولئك حركة الإخوان المسلمين، لتنقض على تلك الثورات وتسرقها. ويصف بعضهم هذه الحركة، فيما يبدو أنه تعبير عن “الإعجاب” بها، كأول حركة عربية “عابرة للحدود”. وليس في هذا بحد ذاته، على أي حال، ما يدعو إلى الفخر. فحزب البعث، مثلاً، هو أيضاً حركة “عابرة للحدود”، إلا أن أداءه البائس، أو لنقل عبث البعث، أدى إلى تدمير البنى الأساسية في كيانين عربيين معتبرين وصل إلى الحكم فيهما، هما العراق وسوريا، وتسبب في أخطار فادحة، على أكثر من صعيد، تحتاج إلى عقود لتصحيحها. ولا يبدو أن وصول الإسلامويين إلى الحكم سيؤدي إلى نتائج تختلف عن ذلك. كما أن التخلف أيضاً، بكافة “نكهاته”, وخصوصاً الدينية منها، “عابر للحدود”.

     لا شك أن الجماهير المنتفضة، التي صنعت الربيع العربي، خرجت في حركات عفوية إلى الشارع للمطالبة بحقوقها في العيش الكريم، بحرية وبحبوحة، ولا حاجة لأي دليل على ذلك. فالمظاهرات الصاخبة المستمرة، التي شارك ويشارك بها ذلك المد البشري العظيم، والتي كثيراً ما سقط الشهداء خلالها، يوماً بعد يوم، والشعارات الواضحة التي تعلو بها أصوات الجماهير الثائرة، مطالبة بحقوقها المدنية والمعيشية، برهان ساطع على هذا التحول. ولم يستطع أي حاكم عربي، ولا كافة أبواقه الدعائية، التعتيم على ذلك.

“الإخوان” وجذورهم الإرهابية

     لا شك أن ثورات الربيع العربي، وفي مصر قبل غيرها، سُرقت من الجماهير الواسعة التي فجرتها من قبل الإسلامويين، اللذين يجيرون الدين لخدمة اهدافهم السياسية،  من إخوان وسلفيين ومن لف لفهم، بدهاء ومكر، وكذلك خداع وتلوّن سياسي لا مثيل لهما. فالإخوان المسلمون، تلك الحركة المشبوهة المنشأ، ذات جذور إرهابية واضحة المعالم. فخلال عهد الملكية في مصر، مثلاً، وما أن اشتد عددها، حتى أنشأت تنظيماً “أمنياً” إرهابياً، ارتأى أن تكون باكورة نشاطاته اغتيال رئيس حكومة مصر، لا غيره، فرد النظام عليهم بتصفية مؤسس الجماعة حسن البنا، الذي أطلقت النار عليه من قبل عملاء الشرطة وترك ينزف حتى مات. ولم يتعظ الإخوان من نتائج ممارساتهم تلك، إذا عاودوا الكرة بعد نشوب ثورة 1952 في مصر. وحين بدا لهم أن عبد الناصر راح يثبت أركان حكمه، ولا ينوي السير في ركابهم، لم يترددوا في السعي إلى محاولة اغتياله فقام نفر منه بإطلاق الرصاص عليه فيما كان يلقي خطاباً في إحدى المناسبات العامة، إلا أن الرصاص لم يصبه. ورد النظام على ذلك بإعدام “مفكر” الأخوة سيد قطب وقام بموازاة ذلك بحملة واسعة من البطش بهم، أدت إلى تفكيك تنظيماتهم وإيداع كافة قياداتهم السجن وحظر نشاطهم. وبعد وفاة عبد الناصر سار وريثيه أنور السادات وحسني مبارك على الطريق نفسه؛ وإن شهدت “المواجهة” بين الطرفين أكثر من “هدنة”، كان أجلها يطول أو يقصر حسب الظروف.

     أما السلفيون، الذين يناصبون الإخوان العداء، فليسوا أحسن حالاً، إن لم نقل أنه قد يكون من المناسب بناءاً على أدائهم البائس وتخلفهم وضيق أفقهم وإغراقهم في الرجعية والعبثية، تغيير اسمهم إلى “المعتوهين” أو “المخبولين”. فالعصابات المحسوبة على هذا التيار الشيطاني “متخصصة”، مثلاً، في اغتيال المفكرين الذين لا يوافقونهم الرأي، والدعوة إلى حرق الكتب غير “المحتشمة” وتحطيم التماثيل وتدمير المتاحف وما إلى ذلك من البدع “الوثنية”، التي تخدش “طهارة” معتقداتهم الدينية أو، حقيقة، هوسهم. كما تقوم، مثلاً أيضاً، مجموعات أخرى منهم بتفجير حافلات السياح القادمين إلى مصر لحرمان النظام، أي عملياً البلد وسكانها، من مصدر دخل ضروري للغاية، ولو لإصلاح ناحية صغيرة في النظام الاقتصادي البائس. ومنهم، كذلك، من “احترف” تفجير الكنائس المسيحية، على مصليها، خاصة في أعياد الميلاد والفصح المسيحية (تماماً على غرار ما يفعل المستوطنون الصهاينة بإحراق المساجد)، دون أن يدرك أنه يرتكب عملياً معصية بذلك بمخالفة تعاليم الإسلام الذي أوصى بأهل الكتاب، من يهود ونصارى، خيراً.

     ولا يتوقف “الفكر” البائس لهذه المجموعات الشيطانية، في إفرازاته المريضة، عند هذا الحد، بل أنه يغرق في الغيبيات والشعوذة ليتجاوز حدود السخافة والتفاهة. فقد قررت، مثلاُ، مجموعة منهم من المقيمين في قطاع غزة، تحت حكم حماس، مقارعة العدو الصهيوني، بعد أن سئموا من مهادنة النظام الحمساوي له، فقرروا، سنة 2009، تشبهاً بمن يسمونه “السلف الصالح” إعداد مجموعة من الجياد، حمّلوها بالمواد المتفجرة واعتلوا ظهورها منطلقين صوب الحدود لمجابهة العدو، الذي أطلق النار عليهم فتفجروا مع جيادهم. وحتى بعملهم هذا ارتكبوا معصية أخرى، إذ أن “السلف الصالح” لم يكن يستعمل المتفجرات، التي لم تكن أساساً معروفة في عهده؛ وكان الأجدر بهم حمل السيف والترس، أو ربما القوس والنشاب، بدلاً عن المتفجرات، لمواجهة الآليات الإسرائيلية. وما دام الشيء بالشيء يذكر تجدر الإشارة، ولو من باب الفكاهة، إلى أخبار أخرى تم تسريبها مؤخراً ومفادها أن مجموعة من أولئك المهووسين تقوم بحياكة جلباب كبير لتمثال أبي الهول، يفترض مع استكماله أن يثبت في رأس الهرم الأكبر ويتدلى منه على التمثال لستر عورته. وسيبقى هذا الوضع على حاله إلى أن تتغير الظروف وتظهر الفرص المناسبة لتدمير ذلك التمثال ومعه الأهرام المحيطة به وباقي التراث الفرعوني “الوثني” في مصر. ولا يبدو أن جنوناً كهذا هو من باب الخيال فقط. فحركة طالبان المتخلفة قامت قبلهم بتدمير التماثيل البوذية البديعة في أفغانستان، والتي لم يشفع تدخل من أحد في العالم لإنقاذها.

عملاء الإمبريالية الجدد

     بدا واضحاً، خلال بداية نشوب الثورات الشعبية في العالم العربي، وفي مصر على وجه التحديد، أن الإسلامويين من إخوان وسلفيين وباقي الشلل التي تدور في فلكهم، لم يلعبوا أي دور يذكر في تلك الثورات أو يساهموا فيها. وفي ذلك السيل العارم من المحتجين والمتظاهرين، التي كانت صورهم تظهر على شاشات التلفزيون لساعات وساعات، يوماً بعد آخر، كان من الصعب أن تجد ولو ملتحياً واحداً. ولم يتم الأمر صدفة، فالإسلامويون لم يأخذوا الثورة، في بداية مراحلها، على محمل الجد، واعزفوا عن المساهمة فيها، فهم لا يؤمنون بالشعب أساساً، إذ أن “أمير الجماعة” هو الذي يقرر مصير الشعوب وليس أبناؤها. كما أنهم خافوا في الوقت نفسه، وهم الذين ذاقوا الأمرين من بطش السلطات بهم خلال عقود، أن تفشل تلك الثورة فتكون العواقب وخيمة بالنسبة لهم. ولذلك تأنوا حتى سقط مبارك فعلاً، ثم اتضح أنه لا عودة لنظامه، فراحوا يخرجون من جحورهم، محاولين رسم طريقهم الجديد – إلا أنهم كسروا عصاهم من أول غزواتهم.

     أدرك الإسلاميون جيداً، خصوصا في مصر،  في بداية هذا العهد الجديد، أن مشكلتهم الرئيسية تكمن في عدم القبول بهم من قبل أي طرف، وخصوصاً المحافل الدولية، وفي مقدمتها الإمبرياليين الأميركيين؛ ولذلك كان لا بد من حل هذه المشكلة أولاً. وساعدهم في ذلك أن أولئك الإمبرياليين، بدورهم، قدروا أيضاً لظروف خاصة بهم، أن مصالحهم قد تكون في خطر إذا وصل الإسلامويون إلى الحكم. ولذلك ما أن مرت فترة قصيرة حتى راحت المفاوضات تدور بين الجانبين، هذه المرة بصورة “رسمية”، بعد أن كانت تتم سابقاً في الخفاء. وسرعان ما توصل الطرفان إلى “تفاهم” فيما بينهما. فقد تعهد الإسلامويون بمراعاة المحافظة على المصالح الإمبريالية الأميركية في المنطقة، ومن ضمنها الالتزام باتفاق السلم مع إسرائيل، ودفعوا ضريبة كلامية عن تقيدهم بقواعد اللعبة الديمقراطية، التي كانوا قد “تعلموها” خلال سنوات نشاطهم الطويلة في الخفاء، وخصوصاً خلال تدبيرهم الاغتيالات والأعمال الإجرامية الأخرى. وفي المقابل أعلن الإمبرياليون، على لسان أكثر من متحدث رسمي وفي أكثر من مناسبة، عدم معارضتهم وصول الإسلامويين إلى الحكم، إن تم ذلك من خلال انتخابات ديمقراطية، قد تكون شبيهة بـ”الديمقراطية” الإمبريالية. وما أن تم ذلك حتى أعلن الإخوان أنهم سيلتزمون باتفاق السلام مع إسرائيل، الذي كان يعتبر في السابق “حراماً”، وربما يحيلون بعض بنوده إلى الاستفتاء العام، مقدمين مختلف الذرائع الواهية لتبرير مواقفهم الجديدة. أما السلفيون فقد كانوا أكثر صراحة، إذ أعلن متحدث باسمهم أن جماعته لا تعارض الاتصال بإسرائيل أو التفاوض معها، على عكس الإخوان، في محاولة للفذلكة، شرط أن يتم ذلك بمعرفة الخارجية المصرية، العاملة في خدمة كامب ديفيد. وستقوم هذه الوزارة بتزويدهم بـ”الفتاوي” الضرورية لذلك، وتكون بمثابة شاهد زور على لعب دور عمالة جديد، هذه المرة للصهيونية.

     وإذا كان إسلامويو مصر على هذا القدر من الحيطة والذكاء، في تعاملهم مع الأسياد الجدد ومحاولتهم حفظ ماء الوجه وادعاء الاستقلالية في سياساتهم، فإن إسلاموياً آخر، هو التونسي راشد الغنوشي لم يكن على هذا القدر من الذكاء. فهذا اللاجئ السياسي، الذي قضى السنين الطويلة في منفاه في باريس، هارباً من بطش زين الهاربين بن علي، وجد نفسه فجأة، ودون مقدمات، زعيماً لحركة قد تحكم بلاده، بعد تغيير الحكم فيها إثر اندلاع أولى ثورات الربيع العربي هناك. وما أن تم ذلك وفازت حركته “النهضة” في الانتخابات حتى قفل “الشيخ” حاجاً إلى باريس، ومنها إلى واشنطن، ليطمأن الأسياد الإمبرياليين بشأن “إسلامه المعتدل”، وبالتالي انعدام نشوء أي خطر على مصالحهم من قبل النظام الذي سيقيمه. ولم ينس أن يوضح خلال حجه هذا، أن قضية فلسطين، بالنسبة لنظامه، تعتبر مسالة ثانوية؛ ثم راح يمنح مقابلات للاذاعة الاسرائيلية. وقد يكون هذا هو موقفه بالنسبة للقضايا العربية الأخرى.

     وبلغة أخرى، ولهجة لا تقبل التأويل، يتم أمام أعيننا عقد حلف جديد بين الإمبرياليين ومن يعتبرونه صالحاً لأن يكون عميلاً لهم، وهذه المرة بينهم وبين الإسلامويين، على اختلاف “نكهاتهم”. ولا حاجة للتنويه أن مثل هذا الحلف غير المقدس، خاصة اذا تبلور واصبح واقعا سياسيا في مصر، سيعود بالوبال والثبور وعظائم الأمور على المنطقة وشعوبها كافة.

عبد الناصر يحاول انتشال المنطقة …

     من الواضح للغاية أن العالم العربي يقاسي، عموماً، من معوقات ومشاكل مستعصية وضارة للغاية، على أكثر من صعيد، أبرزها الفقر والجهل وانعدام التنمية وقمع الحريات وتسلط الأنظمة الدكتاتورية بأشكالها المختلفة. ولم تتبلور مثل هذه الأوضاع صدفة، على أي حال، بل جاءت نتيجة لعقود من حكم الإمبراطوريات والمستعمرين الأجانب للشعوب العربية، في معظم أقطارها، كالإمبراطورية العثمانية في المشرق والاستعمار الفرنسي في المغرب.

     وقد حاولت الحركات الوطنية العربية، أو نواتها، خلال القرن الأخير على الأقل، ومنذ نشوب الحرب العالمية الأولى على وجه التحديد، إصلاح ذات البين، وذلك بسعيها إلى إقامة دولة عربية، عصرية ومتماسكة في المشرق العربي على الأقل، الذي عقد زعماؤه حلفاً مع الحلفاء الغربيين للتحرر من نير الإمبراطورية العثمانية. ولكن ما أن انتهت تلك الحرب حتى اتضح أن النير العثماني استبدل بآخر استعماري، بريطاني فرنسي، فقد اتجه أولئك المستعمرين المنتصرين في الحرب، مع نهايتها، وعندما راحوا يقيمون نظاماً عالمياً جديداً في أعقابها، بالتحديد منذ مطلع عشرينات القرن الماضي، إلى تقسيم المشرق العربي الذي كان رقعة جغرافية واحدة خلال العهد العثماني، إلى خمس دول أو كيانات إقليمية منفصلة، هي العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وأقاموا في كل منها نظام حكم منفرد وخاص بها، بما يكفل سيطرتهم عليها وضمان مصالحهم فيها. ولم تقبل الحركات الوطنية والقومية بهذا الوضع، بل راحت تعمل على تغييره، في أكثر من مناسبة وبأكثر من طريقة، ولكن دون أن تمنى بنجاح يذكر. بل أن الأوضاع ازدادت تدهوراً. فمع مرور الوقت نشأت في تلك الكيانات زعامات وفئات ومجموعات سرعان ما بلورت مصالحها ومفاهيمها الخاصة بها، فارتبطت بالأنظمة المختلفة والقوى الاستعمارية المسيطرة عليها، بل راحت تعمل على تقويتها، على حساب البلاد والعباد.

     وفي خضم المحاولات العديدة التي بذلت لتحسين تلك الأوضاع، ظهرت على الأقل محاولة واحدة بدت جدية، وذلك عندما قام الضباط الأحرار بثورتهم في مصر سنة 1952، وما تبع ذلك من إنشاء نظام حكم جديد بقيادة جمال عبد الناصر. والحقيقة أن هذا النظام، رغم ما اعتراه من شوائب في أكثر من مجال، كان ربما الوحيد الذي أدرك جيداً حقيقة الأمراض التي يعاني منها الجسم العربي، محاولاً علاجها وإن على طريقته، وحقق هنا وهناك إنجازات لا تزال تذكر له.

     فقد تمكن هذا النظام من إحداث تغييرات مهمة في الجسم المصري، بعد أن قضى على الإقطاع من خلال قوانين الإصلاح الزراعي التي نفذها، ودعم طبقة العمال والفلاحين. كما نفذ مشروعاً جباراً بإقامة السد العالي في أسوان، الذي حمى مصر من ويلات الجفاف منذ ذلك الوقت. أما على الصعيد الدولي فقد كان ذلك النظام من أوائل المبادرين إلى شق طريق سياسي دولي جديد، عرف باسم “الحياد الإيجابي” وضمت مجموعته مع مرور الوقت العشرات من دول العالم الثالث، التي حاولت إتبّاع سياسة دولية متوازنة لا تؤدي إلى سحقها وإخضاع مصالحها لمتطلبات الحرب الباردة، التي نشبت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية بين المعسكرين الأميركي-الأطلسي والسوفييتي-الشيوعي. كما أنه تصدى لمقارعة الاستعمار الفرنسي في المغرب العربي، بإمداد الثورة الجزائرية بمساعدات ملموسة أدت، في نهاية الأمر، إلى كسر شوكة ذلك الاستعمار وساهمت في انتزاع دول المغرب، تونس، الجزائر ومراكش استقلالها.

     ولم يفلت عبد الناصر من إجراءات امبريالية مضادة بسبب سياسته تلك. فقد قطعت عن مصر المساعدات الاقتصادية وتعرضت لضغوط سياسية كبيرة، وأخيراً عسكرية. فقد شنت عليها، خلال 11 سنة، حربان من قبل مخلب القط الإمبريالي في المنطقة، إسرائيل؛ الأولى سنة 1956 بتواطؤ إسرائيلي-فرنسي-بريطاني مكشوف والثانية سنة 1967 بتآمر إسرائيلي-أميركي مبطن.

… والسادات يجرها إلى الحضيض …

     ولم يمهل القدر عبد الناصر طويلاً، إذ توفي بالسكتة القلبية سنة 1970، ليخلفه في الحكم نائبه أنور السادات. وكان هذا الحدث، بحد ذاته، نذير شؤم، انعكس وبالاً على مصر، وفيما بعد العالم العربي، وأدخل المنطقة في عهد من التقهقر والضياع والضعف، لا يزال مستمراً منذ أربعة عقود دون توقف، على الكوارث التي لحقت بالعرب عموماً خلاله.

     صحيح أن السادات حاول استعادة مكانة مصر وحل مشاكلها بعد تسوية الصراع العربي-الإسرائيلي. ولأجل ذلك تقدم في البداية بالمشاريع السلمية المختلفة في هذا الصدد. لكن كافة مشاريعه رفضت بسخرية وازدراء من قبل الصهيونيين، فقام في نهاية المطاف بشن حرب في تشرين أول 1972 على إسرائيل، ولقنها بذلك درساً لم تنساه حتى اليوم، بدلالة تلك المناحات التي يقيمها الإسرائيليون كل سنة في ذكرى الحرب، حتى بعد مرور أكثر من عشرين سنة على وقوعها. ولكن تلك الحرب، بحد ذاتها، كانت عذراً أو وسيلة للرجل لكي يقع في الردة. فالسادات أراد لتلك الحرب أن تكون حرب تحريك لا تحرير، بمعنى أنه خطط لها لأن تكون وسيلة لإجبار الإسرائيليين، ومن ثم الأميركيين، على التفاوض معه، بعد أن سخروا طويلاً من مقترحاته وخططه. وبان مخططه هذا بعد بضع ساعات فقط من نشوب الحرب. فقد تمكن الجيش المصري، كما هو معروف، من تحطيم الحصون الإسرائيلية، التي عُرفت بخط بار-ليف، على الشاطئ الشرقي لقناة السويس، خلال ست ساعات فقط من نشوب القتال، راحت بعدها دباباته تعبر القناة وتتمركز في سيناء المحتلة (ولهذا أطلق بعضهم على تلك الحرب إسم “حرب الساعات الست”، على وزن “حرب الأيام الستة” التي شنتها إسرائيل سنة 1967، وكثيراً ما تبجحت بها). وقد تنبهت قيادة الجيش المصري لهذا النصر الثمين وشبه المفاجئ وإمكانات استثماره لتغيير وجهة الحرب، فاقترحت تعديل الخطط الأصلية والاندفاع نحو وسط سيناء، بعد أن باتت الطريق مفتوحة أمامها، والتمركز في ممري الجدي والمتلا وإعداد “استقبال” هناك للجيش الإسرائيلي القادم من الشمال. إلا أن السادات رفض ذلك ودخل في خلافات حادة مع قيادة جيشه انتهت بعزل رئيس الأركان آنذاك، المرحوم الفريق سعد الدين الشاذلي، ومن ثم حتى سجنه بتهمة “إفشاء” أسرار عسكرته (!). وبذلك فتح السادات الطريق أمام الهجوم الإسرائيلي المضاد – وتغيرت بذلك وجهة الحرب، وبالتالي أهدافها.

     وعملياَ، لم تكن هنالك حاجة لبذل أي جهد للوصول إلى مثل هذا الاستنتاج. فبعد بضعة أيام فقط من نشوب الحرب، والقتال لا يزال مستمراً، ألقى السادات خطاباً دعا فيه إلى عقد مؤتمر للسلم في جنيف بين إسرائيل ومصر وباقي العرب. فراحت الأوضاع تتغير حتى كاد يبدو كأنه لم تكن هنالك حرب ولا تضحيات ولا إنجازات.

     أثارت خطوة السادات الانفرادية هذه ردود فعل متباينة، في حينه، ولو على الصعيد النظري. أما على الصعيد العملي فقد أدت إلى محادثات فض اشتباك بين إسرائيل ومصر، عادت بعدها الأوضاع لتبدو كأنها طبيعية. كما عقدت، لاحقاً، جلسة لمؤتمر صلح في جنيف لم تسفر عن نتيجة تذكر؛ وكل ذلك دون أن تظهر أية إشارات إيجابية لأي حل للصراع العربي-الإسرائيلي، إن على الصعيد المصري أو غيره. ولذلك لم يجد السادات من طريق أمامه إلا الاستمرار في بهلوانياته، فأطلق على نفسه اسم “الرئيس المؤمن” (بالتعاون مع الإمبريالية والصهيونية) وراح، ببساطة، يتعاطى الشعوذة، مستعيناً بقارئات الفنجان وفاتحي المندل (والكلام ليس مزاحاً)، ليهتدي إلى طريق لحل أزمات مصر، إلى أن قرر أخيراً زيارة إسرائيل، سنة 1977، وذلك لكسر “الحاجز النفسي” بين الطرفين، تمهيداً لعقد سلام بينهما.

     وبسذاجة ساداتية بدائية أعلن الرجل، محاولاً اللعب بعقول السذج، أنه ذاهب لأداء الصلاة في المسجد الأقصى في القدس وليس لزيارة إسرائيل. وهو فعلاً أدى الصلاة في المسجد ثم ذهب لإلقاء خطبته في الكنيست وبعدها راح يفاوض حكام إسرائيل – لإفهامك أن كل من يدعي إقامة الصلاة، حتى لو كان ملتحياً، لا ينبغي أن يكون، بالضرورة، تقياً وصالحاً. والواضح أن الله لم يقبل صلاة السادات ولم يبسط حمايته عليه، بدلالة أن الرجل اغتيل بعد بضعة سنوات من تلك الزيارة في حادثة بشعة للغاية، سنة 1981.

     ولكن قبل أن يقع ذلك ثابر السادات على جهوده “السلمية” إلى أن تمكن أخيراً من عقد صلح منفرد مع إسرائيل، “باع” بموجبه العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً وتخلى عنهم جميعاً، وجر مصر إلى عزلة إقليمية بعد أن ربطها بعجلة الإمبريالية الأميركية والصهيونية. وكان السادات قد أعلن مع بداية مفاوضاته الاستسلامية، أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، أن حرب تشرين هي آخر الحروب؛ وهي كانت بالفعل كذلك بالنسبة له ولمصر، ولكن ليس بالنسبة لإسرائيل. فقد استغل الإسرائيليون إخراج مصر من دائرة الصراع العربي-الإسرائيلي، بناء على اتفاق السلام معهم، ومن ثم تحييدها ووضعها على الرف لكي يعربدوا، طولاً وعرضاً، في المنطقة. فخلال تلك المفاوضات وبعدها قامت إسرائيل باعتداءات على العرب لم تكن لتجرؤ عليها سابقاً. فقد قامت، مثلاً، بقصف المفاعل الذري في العراق وتدميره، ثم سنت قانون ضم الجولان المحتل إليها، لتتبع ذلك بشن حرب مدمرة على لبنان سنة 1982، أدت إلى إخراج المنظمات الفلسطينية منه عن بكرة أبيها. كما أنها استمرت في حروبها بعد ذلك، كتلك التي شنتها في الضفة الغربية لاحقاً، ومن ثم على لبنان للمرة الثانية، وأخيراً قطاع غزة، قبل سنوات قليلة.

     أما التفكير السياسي “العميق” الذي كان في أساس فعلة السادات تلك فقد استند إلى “تخطيط” يقضي بإتباع مصر بعجلة السياسة الأميركية، دون قيد، على أمل أن يسعفها الأميركيون ويعملون على حل مشاكلها وإخراجها من ضائقتها. وفي النهاية لم يحدث هذا ولا ذاك.

     وإن كان هناك من تساؤل عن الأسباب أو الظروف التي يمكن أن تفرز “زعيماً” كالسادات فإن الجواب محصور، كما يبدو، في طبيعة هذا الرجل وصفاته وطريقة وصوله إلى الحكم. إذ يقال أن عبد الناصر، النرجسي والكاريزماتي والسلطوي، عندما أراد أن يعين نائباً له، من بين المحيطين به، راعى أن يكون ذلك النائب من بين أقل أولئك ذكاء وفطنة، وذلك كي لا يستطيع، مع مرور الوقت، إقامة مركز قوة قد يستطيع مناؤته. ويبدو أنه ليس هنالك من تفسير آخر لذلك الغباء السياسي الذي مارسه السادات وجر على مصر، ومعها العالم العربي، الكارثة تلو الأخرى.

… ومبارك يوصلها حد التفاهة

     ولم يكن حسني مبارك، نائب الرئيس الذي جيء به من قيادة سلاح الجو المصري، وأصبح رئيساً بعد اغتيال السادات، أحسن حالاً. فالرجل صاحب عقلية موظف صغيرة ومغلقة وجد نفسه فجأة رئيساً للبلاد فراح يدير شؤونها بتلك العقلية. وفي عهده الذي استمر ثلاثة عقود طويلة، ازدادت الأوضاع سوءاً وعم الفساد بأشكاله المختلفة. فقد انهمك الرجل، مثلاً، في توزيع ثروات البلاد، من عقارات أو مقاولات، خارجية كانت أم داخلية، على أتباعه. بل أن أبنه جمال، الذي كان يعده لأن يكون وريثه في الرئاسة، تورط في قبول الرشاوى المستديمة من إسرائيل، في صفقات توريد الغاز المصري إليها (ومن يريد معرفة المزيد من هذه الفضائح ما عليه إلا مراجعة بلاغات المدعي العام المصري وملفاته). ويقيناً أنه لو وصل الصبي جمال إلى الحكم في مصر لفعل فيها ما فعله الصبي بشار في سوريا.

     ولم تقف تفاهات مبارك ونظامه عند هذا الحد، بل تعدته لتغوص في مستنقع الخيانة القومية، مما جر على المنطقة ويلات ستعاني منها طويلاً. فالرجل، مثلاً، لشدة إفراطه في العمالة للأميركيين لم يبد أي معارضة على خططهم لضرب العراق، بل أنه حتى “ساهم” في ذلك العدوان وشجعه، وذلك بإرسال قوات مصرية، ولو رمزية، للانضمام إلى ذلك الحشد الدولي الذي تجمع في حفر الباطن في السعودية بقيادة الإمبرياليين الأميركيين. ومثله فعل حافظ الأسد، والد بشار، وعرب الخليج. أي أن كل هؤلاء، وهم حكام دول عربية، ساروا بأعين مغلقة نحو تدمير دولة عربية شقيقة، دون أن يدركوا عمق ذلك الدرك الذي انحدروا إليه. ولعل حوادث قليلة كافية للتدليل على ذلك. فقد بدأ الهجوم يومها على العراق من القوات البرية المتمركزة في السعودية، بينما أطلقت صواريخ توماهوك عليه من سفن حربية أميركية كانت متواجدة في قناة السويس، تحت “حماية” مبارك.

     وقد تمكن ذلك التحالف الشيطاني، بعد حربين شنا على العراق واعتداءات وهجمات وأنشطة عسكرية مختلفة استمرت ما يزيد عن عقد من الزمن، من تدمير ذلك البلد واحتلاله وأخيراً تفتيته، دون أن يدركوا أبعاد ذلك على المنطقة بأسرها مستقبلاً، إذ فيما كانوا يكيدون للعراق كان الله يكيد لهم أيضاً. فقد استغلت إيران ذلك الانهماك بالعراق وتوجيه الأنظار بعيداً عنها لتصقل قواها العسكرية التقليدية، ثم تتجه نحو النشاط الذري، فتصبح قوة إقليمية يحسب لها حساب. بل أنه بعد تفتيت العراق، “البوابة الشرقية” للعالم العربي، وقع البلد تحت النفوذ الإيراني، وعملياً فقد سيادته وقدرته على اتخاذ قرارات مستقلة أو حتى إقامة نظام حكم متماسك، بما في ذلك من تأثير سلبي على المشرق العربي بأسره. وبموازاة ذلك، أصبحت إيران القوة الإقليمية الأولى في المنطقة، فاحتوت إسرائيل وأوقفتها عند حدها، وراح الأميركيون يعيدون حساباتهم في التعامل معها. ولم تحظ بوضع كهذا مملكة الحضارة السعودية ولا مصر كامب ديفيد. ولا قطر أيضاً.

     ولم تتوقف “مآثر” نظام مبارك عند هذا الحد، بل أنه أمعن في توثيق عرى حلف كامب ديفيد مع إسرائيل، بحيث أصبحت مصر حارسة لحدود إسرائيل الجنوبية، فوفرت عليها بذلك جهوداً كبيرة، ساعدتها على دعم اقتصادها، بخفض نفقاتها العسكرية، بما مكنها من توجيه قوتها نحو الدول العربية الأخرى. واتصفت علاقات مبارك بإسرائيل بالتنسيق على أعلى المستويات، بل خلق علاقات شخصية ودية بين أركان شخصيات النظامين. وفي الاعتداء الأخير الذي قامت به إسرائيل على غزة كاد يظهر أن مبارك ينوي الهجوم على القطاع من الجنوب، دعماً للهجوم الإسرائيلي من الشمال.

     وقد بانت على إسرائيل، فعلاً، إمارات ذعر كبيرة مع بداية الربيع العربي في مصر وراحت تضرب أخماسها بأسداسها تحسباً من نتائج أي تغيير سينجم عن فقدان “الحليف” مبارك، مبدية تخوفاً كبيراً من تغيير نظام الحكم في البلد عامة ووصول الإسلامويين إلى الحكم خاصة. غير أن كافة هذه المخاوف راحت تتبدد، تدريجياً، بعد أن اتضح أن الإمبرياليين الأميركيين سيقومون بتدجين الإخوان والسلفيين على حد سواء، ويكفلون بذلك مصالحهم ومصالح إسرائيلهم. ويبدو أن مثل هذا الاتجاه لم يكن في غير محله.

الإسلامويون على خطى مبارك

     لقد أوصل السادات ومبارك، خلال حكم من أربعين سنة متتالية، مصر إلى وضع تبدو معه وكأنها فيل هرم، ضعيف، جائع وخائر القوى، تنتشر الجروح والأورام في جسمه. وهذه هي المشاكل الحقيقية التي تعاني منها مصر وثورتها وشبابها. وهذا هو بيت القصيد. فالبلد بحاجة ماسة إلى حل مشاكل الفقر والمرض والجهل والتنمية والحريات وما شابهها. وهذه تتطلب انتهاج سياسات مستقلة واعية تعيد لمصر دورها العربي والإقليمي، بما يعود بالنفع على كافة المستويات. وبدون ذلك لن تقوم لمصر، ومعها العرب، قائمة.

     إن سارقي الثورات من الإسلامويين، على اختلاف أصنافهم، الذين يعدون أنفسهم حالياً لاستلام الحكم في مصر، ليسوا ممن يتكل عليهم لمجابهة مثل هذه التحديات وليست لديهم الخبرة أو المنطق السوي أو العقل السليم للتعاطي معها. فما يهم هؤلاء حالياً هو الوصول إلى الحكم وتثبيت أقدامهم فيه ولن يتورعوا، لأجل ذلك، عن إتباع انتهازية لا مثيل لها، بل وتسخير الشرع، حسب مفاهيمهم بالطبع، لخدمة أهدافهم. إن الذي يبدأ مسيرته بالرجل الشمال، على حد تعبير الإسرائيليين، الأصدقاء الجدد للإسلامويين، بإظهار التزامه باتفاق الصلح مع إسرائيل، وإن لم نقل أنه يجب إلغاؤه غداً صباحاً، وبالتالي الاستمرار في الدوران في فلك الإمبريالية والصهيونية، ولو من خلال ذلك “الإلتزام” بمتطلبات ذلك الاتفاق فقط، يبتعد كثيراً عن لمس المشاكل الحقيقية التي تعاني منها مصر، من جراء تلك التبعية، وبالتالي لن يستطيع حلها. إنه من المحبط والمثير للكآبة فعلاً أن ترى أولئك الإسلامويون، القدامى الجدد، يقدمون أوراق اعتمادهم للإمبرياليين بإعلان “تفهمهم” للصهيونية، والتعهد بالحفاظ على الاتفاقات معها، بعد أن كانوا، خلال عقود مديدة، وحتى البارحة فقط، يعتبرون ذلك “حراماً”، بل حتى “منافياً للدين”.

     والأرجح أنه لو استقر الحكم لهؤلاء فإنهم لن يبتعدوا كثيراً، في أدائهم، عن ذلك الطابع الذي ميز حكمي السادات ومبارك، أو أي نظام عربي محافظ آخر، حتى وإن كان إسلامياً جداً، ويصلي كثيرا، وخصوصا اذا كان ملكيا، فيسيرون بصورة أو بأخرى على المنوال نفسه. ففي مصر سقط فقط راس النظام لا جسمه. وليس من المستبعد أن يشكل الاسلاميون رأسا جديدا، على شاكلتهم، لهذا النظام ويستمرون من حيث انتهى مبارك. ولكنهم اضافة الى ذلك سينهمكون ايضا، دون شك، في تعميم نعم اللحية والحجاب والنقاب والجلباب وباقي أصناف العذاب، ويقومون بكبت الحريات واستعباد البشر واضطهاد كل من ليس على هواهم من ديمقراطيين واشتراكيين وثوريين وقوميين وليبراليين ومسيحيين، ومن ثم “تأنيث المدارس”، الخ، ليصلوا أخيراً إلى حد “تطهير” مصر من آثار الحضارة الفرعونية “الوثنية” ومن طابع الدولة العصري ويعيدونها إلى ظلاميات العصور الوسطى. ومن قد يجد مبالغة في توقعات كهذه ما عليه إلا إمعان النظر في ممارسات طالبان في أفغانستان أو أنشطة “الشرطة الرذيلة”، التي تزعم الحفاظ على الفضيلة، في إمارة حماس في غزة.

     غير أنه من الصعب حقاً أن ترى هؤلاء، حتى إن استطاعوا سرقة أكثرية النواب في مجلس الشعب، قادرين فعلاً على إقامة جهنمهم وعالمهم الظلامي. ففي مصر قوى عديدة، قومية وليبرالية وعصرية وغيرها، تكونت خلال عقود، وهي ذات قدرة ونفوذ على أكثر من صعيد وليس من السهل الاستهانة بها أو القفز عنها. ومن الخطأ الاعتقاد أنه سيسمح للإسلامويين بالتصرف على هواهم، أو أن يكونوا قادرين على ذلك. إن ما جرى في مصر حتى الآن لا يعدو كونه الفصل الأول في كتاب الثورة الجديدة، الذي لا بد أن تتبعه فصول أخرى. فذلك السيل الجارف من القوى المتعطشة للتغيير، والساعية إلى حياة كريمة ومستقبل أفضل لا تستطيع، حتى إن شاءت، نظراً لحدة التحديات التي تجابهها، أن تقف في مكانها وتسمح للأوضاع أن تعود إلى ما كانت عليه، ولو بلباس آخر، وهذه المرة بلحية وجلباب أو حجاب ونقاب.

     إن الثورة لم تنته، كما أنها لا تستطيع التوقف؛ ولا بد أن نشاهد، عاجلاً أم آجلاً، فصولها التالية. 

تاريخ النشر: 1/2/2012
الأرشيف