“يهودية” اسرائيل ـ الخلية العنصرية في الفكر الصهيوني

«يهودية» إسرائيل

الخلية العنصرية في الفكر الصهيوني

صبري  جريس

     مطلب جديد راح الصهيونيون يثيرونه خلال السنوات الأخيرة في مفاوضاتهم مع الفلسطينيين حول حل المشاكل العالقة بين الطرفين، وهو الاعتراف من قبل الفلسطينيين بإسرائيل “دولة يهودية”. وكان أول من طرح هذا المطلب بطبعته الأخيرة المتجددة، وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، تسيبي ليفني، ثم تلقفه نتنياهو بعد أن أصبح رئيساً لحكومة إسرائيل الحالية، قبل ما يزيد على السنتين، وقام أيضا بـ “تطويره” بحيث أصبح الاعتراف بإسرائيل مطلوباً بصفتها “الدولة القومية للشعب اليهودي”.

     والواضح أن أصحاب هذه الأطروحات ينطلقون، بتوجهاتهم تلك، من افتراض مفاده أن عبارات مثل “قومية” و”شعب” و”يهود” تتجانس مع بعضها البعض، وهي ليست كذلك.

     بداية تجدر الإشارة، عند الحديث عن دولة يهودية، إلى أن مثل هذه العبارة، بمحتوياتها الفكرية العملية، تعتبر وفقاً للتعاليم الدينية اليهودية العرقية “غير يهودية” تماماً، بل نوعاً من الزندقة، لأنها تتعارض، من أساسها، مع المعتقدات اليهودية الدينية التي سادت خلال قرون وأجيال. فوفقاً لهذه المعتقدات غضب الله على اليهود بسبب خطاياهم فعمد إلى تدمير كيانهم المستقل، ثم شتتهم في أنحاء المعمورة. ولن يكون هنالك حل لمثل هذا الوضع إلا بإقامة الصلوات، دون توقف، والمثابرة على الابتهالات حتى يرضى الله عنهم ثانية، ويوعز بإرسال المسيح المخلص ليتولى إعادة إنشاء دولة اليهود، وجمع شتاتهم فيها، وذلك عندما يشرف الكون على نهايته. أما غير ذلك، أي الاتجاه نحو اتباع مسارات أخرى وخصوصاً السعي إلى إقامة الدولة اليهودية بقوى بشرية، كما يفعل الصهيونيون، فليس إلا الكفر بعينه، لأنه نوع من التدخل في مشيئة الله، ومحاولة لفرض تصرفات غريبة عليه.

    ويلاحظ مثلاً أن هذه المعتقدات، مع ما يتبعها من تقاليد ومواقف، لا تزال سائدة حتى اليوم، وإن كان ذلك فقط بالنسبة لمجموعات يهودية هامشية وقليلة العدد مثل ناتوري كارتا (حراس المدينة) الذين يرفضون، مثلاً، الاعتراف بإسرائيل، ومنهم من يمتنع حتى عن استخراج بطاقة هويتها. وكان الرئيس السابق لهذه الطائفة يعتبر الرئيس الراحل عرفات رئيساً له، وليس أي زعيم آخر في إسرائيل، بل إنه كان يصرح بذلك علناً.

     كذلك يلاحظ، كنوع من بينة أخرى ملموسة على عمق تلك المعتقدات، التي لا تزال سائدة حتى اليوم، أن التحرشات التي يقوم بها بعض غلاة الصهيونيين بحق الفلسطينيين، مثل محاولات اقتحام المسجد الأقصى، أو زيارته عنوةً، تتم عموماً من قبل صهيونيين متطرفين من الشباب، وإن كانوا يعتبرون أنفسهم من “المتدينين”. وفي مقابل ذلك يمتنع رجال الدين اليهود، ككل الحاخامين مثلاً، ابتداء من الحاخامين الأكبرين في إسرائيل السفاردي والاشكنازي، وحتى أصغر الحاخامات شأناً، عن القيام بمثل تلك الزيارات، أو حتى مجرد الاقتراب من مكان الهيكل المزعوم، لأن ذلك ممنوع دينياً، ويجر اللعنة الالهية على من يقوم به.

     أما الحديث عن كون اليهود “قومية”، أو “شعباً” قائمين بحد ذاتهما، كما يحلو للصهيونيين ان يدعوا، فليس إلا مجرد هراء تفضحه الوقائع البسيطة للغاية. أن مقارنة سريعة، مثلاً، بين أوضاع يهودي يقطن في الهند وثان يعيش في أوروبا وثالث يقيم في جنوب إفريقيا، تظهر ببساطة إنه ليس هناك من عامل مشترك يجمع بين هؤلاء إلا الدين، وما عدا ذلك من روابط، مثل تاريخ مشترك أو تطلعات متجانسة، غير موجودة. والواقع أن تاريخ اليهود، عبر العصور، وإن كان يحلو للصهيونيين عرضه كأنه تاريخ شعب واحد متماسك، فانه عملياً ليس إلا جزءاً من تاريخ الشعوب الذين كانوا يعيشون بينها. بل إن معظم التجمعات، أو الطوائف اليهودية، في أماكن تواجدها في أنحاء العالم كافة، طورت مفاهيم وأدوات خاصة بها تساعدها على الاستمرار في العيش والتأقلم مع الشعوب التي وجدوا بينها.

الصهيونية تقلب الموازين

     بقيت هذه الأوضاع سائدة، يهودياً، على المفاهيم التي ترسخت خلال قرون طويلة، ولم يطرأ عليها أي تغيير يذكر، حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر (1850-1900) مع ظهور الحركة الصهيونية، التي راحت تعمل جاهدة على تغييرها، خدمة لأهدافها. وقد نجحت في ذلك إلى حد كبير وان لم يتم هذا بفضل جهودها وحدها فقط .

     ويحلو للصهيونيين وصف أنفسهم بأنهم “الحركة القومية للشعب اليهودي” محاولين بذلك التمسح بحركات التحرر الأخرى، التي نشأت في العالم، خصوصاً بين شعوب آسيا وإفريقيا، إلا إن الواقع بعيد عن ذلك للغاية. فالصهيونية ليست إلا حركة استعمارية، قولاً وفعلاً، بل إنها كانت، عملياً، آخر الحركات الاستعمارية، التي نشأت في العالم، وتكاد تقترب من لحظة لفظ أنفاسها، وإن كان مناصروها يعملون جاهدين لإبقائها على قيد الحياة.

     طرحت الفكرة الصهيونية على الملأ، للتبادل بين اليهود أو غيرهم، في بداية الطريق، في كتب وكراسات نشرتهما بعض الشخصيات اليهودية في أوروبا، خلال الفترة التي أشرنا إليها (أي النصف الثاني من القرن التاسع عشر) في محاولة للترويج لفكرتهم. وتم ذلك في الوقت الذي تعاظم فيه نفوذ الاستعمار الأوروبي القديم، مما كان له تأثيره الواضح في الفكر الصهيوني، الذي تبلور في مثل تلك الأوضاع، من حيث التأثر بالفكر والممارسة الاستعماريين، والسير على خطاهما. ويبدو ذلك بوضوح في الدعوات إلى السيطرة على قطعة أرض في آسيا أو إفريقيا، وإقامة دولة لليهود عليها، تماماً كما كانت تفعل الدول الاستعمارية الأوروبية الأخرى وتقيم الكيانات التابعة لها في هاتين القارتين.

     لقد استشرى نفوذ الاستعمار الغربي خلال تلك الحقبة وتعاظم إلى حد لم يكن قائماً سابقاً، حيث تمكنت الدول الأوروبية بحلول العام 1900، من السيطرة في شكل أو آخر، على معظم أراضي قارتي آسيا وإفريقيا الشاسعتين، فسخرت شعوبها ومواردها الطبيعية لخدمة مصالحها. وفي خضم تلك الحقبة، بل في أوجها بالذات، زرعت البذور الفكرية للحركة الصهيونية، حيث بان في صورة واضحة تأثرها بالمفاهيم والقيم وطرق العمل الامبريالية، ومن ثم السعي إلى تقليدها، والسير في ركابها. ففي سنة 1862 مثلاً، أي في أوج فترة امتداد النفوذ الامبريالي وتعاظمه، نشر كتاب بعنوان “السعي إلي صهيون” لحاخام يهودي يدعى كاليشر، وفي سنة 1896 نشر كتاب آخر بعنوان “دولة اليهود” لهرتسل، مؤسس المنظمة الصهيونية. وعلى الرغم من أن كلاً من المؤلفين لم يكونا يعرفان بعضهما البعض، بل إن كلا منهما نشأ وعمل في بيئة تختلف كلياً، اجتماعياً وثقافياً وحتى جغرافياً، عن بيئة زميله، فإن توارد الأفكار والحجج المتماثلة في الكتابين، يكاد يكون مذهلاً. فكلا الرجلين يدعو إلى حل ما اصطلح على تسميته آنذاك بـ “المسألة اليهودية” بواسطة إقامة دولة يهودية، يتم تهجير يهود العالم اليها. وبالنسبة لكاليشر، رجل الدين، ستقام هذه الدولة في “ارض اسرائيل” بالطبع. اما هرتسل العلماني فانه لا يستعمل هذه العبارات، وبدا كانه لا يمانع في اقامة مثل هذه الدولة في إي مكان في العالم (وفيما بعد شكل احد المؤتمرات الصهيونية فعلاً لجنة لدراسة إمكانية إنشاء دولة يهودية في أوغندا بأفريقيا). ورغم هذا الفارق بين الرجلين على أي حال، إلا أن ما يتمناه كلاهما هو أن ينفذ مشروع إقامة دولتهم عبر التحالف مع القوى الامبريالية، عارضين عليها ان تكون تلك الدولة طليعة لها لبسط نفوذها على المشرق، بحيث تصبح رأس الحربة في خدمتها، وتتمتع بالتالي بحمايتها (ولا يزال هذا عملياً جوهر العلاقة بين إسرائيل والغرب حتى يومنا هذا). وللتسويق لهذا المشروع، وسوق المبررات له، لا يحجم كلا الرجلين عن توجيه أقذع الشتائم إلى العرب القاطنين في فلسطين وجوارها، بألفاظ عنصرية، عبر إلصاق أبشع الصفات بهم، داعين إلى ضرورة ترويض أولئك “المتوحشين” وتمدينهم.

     وقد سبق الرجلين في هذا المضمار، على أية حال، نابليون بونابرت الفرنسي، الذي دعا إلى إقامة دولة لليهود في فلسطين، تكون متحالفة مع الغرب، وذلك في خضم مساعيه الامبريالية لغزو الشرق وتوسيع حدود إمبراطوريته.

     لقد كان المشروع الصهيوني القاضي بإقامة دولة يهودية امبريالياً بامتياز، بل إن الامبرياليين أساسا هم الذين ساعدوا على تنفيذه، ولولاهم لما كانت لتقوم له قائمة، وذلك رغم تبجح الصهيونيين بأنهم هم الذين قاموا بذلك. والدلائل التاريخية على ذلك اكثر من ان تحصى. فالصهيونيون لم يستطيعوا إحراز إنجاز يذكر على طريق تحقيق خططهم، إلا عندما تقاطعت مصالحهم بالمخططات الإمبريالية، وبدا أنهم ملائمون ومستعدون لتقديم الخدمات لها. وقد قضى هرتسل، مثلا،ً معظم وقته، بعد تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية سنه 1897، ساعياً إلى مقابلة زعماء أوروبا، من ملوك وأمراء، عارضاً عليهم مشروعه في إقامة الدولة اليهودية، وطالباً الدعم والتأييد، دون أن يحصل في نهاية المطاف على أي نتيجة تذكر (ويروي في مذكراته إنه في مقابله مع البابا في هذا الشأن لم يبد الأخير اعتراضاً يذكر ولكنه تمنى على هرتسل إن يبلغه عندما يستكمل مشروع إقامة الدولة اليهودية تلك ويتم تجميع اليهود كافة فيها وذلك لكي يرسل لهم من الكهنة ما يكفي لتعميدهم جميعاً).

     وليس هنالك من غرابة في ذلك، إذ لم يكن الامبرياليون معنيون، آنذاك، بمثل تلك المشاريع. ولم يتغير هذا الوضع إلا عندما ظهر أن الصهيونية مفيدة لهم، ويمكن استغلالها لتنفيذ مآربهم، وكان ذلك واضحاً لأول مرة مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما أصدرت بريطانيا سنة 1917 ما عرف باسم “وعد بلفور”، وهو إعلان تعهدت بموجبه النظر بعين العطف إلى اقامة ما سمته “وطن قومي لليهود في فلسطين”. وعلى الرغم من أن الصهيونيين يزعمون أن هذا الإعلان صدر بفضل جهودهم الكبيرة، فإن الواقع يظهر عكس ذلك تماماً. فالدكتور حاييم وايزمان، الممثل الصهيوني المقيم في بريطانيا يومها (وفيما بعد رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، ومن ثم أول رئيس لإسرائيل) كان قد قضى أكثر من عشر سنوات، قبل ذلك التاريخ، وهو يحاول أن يقابل ولو مسؤولاً بريطانياً واحداً يستطيع أن يشرح له موقف حركته وتطلعاتها ولم يتسنّ له ذلك. ولكنه فجأة ومن دون أية مقدمات، بل حتى دون أن يعرف سبب ذلك، استدعي على عجل في أواخر سنه 1917 كي يتسلم نسخة من الوعد من وزير الخارجية البريطاني بلفور. وما إن مر وقت قصير على ذلك، حتى بانت أسباب تلك الخطوة واضحة للغاية، إذ عمدت بريطانيا إلى طباعة كميات كبيرة من نص ذلك الإعلان، وعملت على تسريبها إلى ألمانيا، وكذلك الى المناطق التي كانت خاضعة لها وتوزيعها هناك، عندما كانت تدور آخر مراحل الحرب العالمية الأولى، وذلك للتأثير في اليهود، والمتعاطفين معهم، وردعهم عن الاستمرار في دعم المجهود الحربي الألماني. وما أن انتهت الحرب حتى بان هدف آخر أكثر شيطانية، وهو كسب ثقة اليهود ومساعدتهم في المحافل الدولية، لدعم طلب بريطانيا في مؤتمر الصلح الذي انعقد بعد الحرب، بمنحها الانتداب على فلسطين وجوارها، وتحجيم نفوذ شريكتها ومنافستها فرنسا. فهي التي ستشرف على إقامة الوطن القومي وترعاه لتحظى بالمزيد من النفوذ في المشرق العربي وتتحكم بمصيره وموارده. وبحصولهم على وعد بلفور تمكن الصهيونيون من دق أول مسمار لتحقيق مشروعهم من خلال “التحالف” مع الاستعمار نظرياً، بينما الحقيقة هي الاحتماء به عملياً. ونظرة سريعة وسطحية للغاية إلى تاريخ الحركة الصهيونية، ومن بعدها إسرائيل، منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، تظهر بمنتهى الوضوح أن الصهيونيين بقوا خلال تاريخهم غير القصير عند تلك الأطر التي رُسمت لكيانهم – أي عملاء دائمين للاستعمار، مؤتمرين بأمره ومنفذين لرغباته ومخططاته ضد شعوب المنطقة ومصالحها. وفي مقابل ذلك حظوا بدعم لكيانهم وضمانات لمصالحهم. فلولا تبني الاستعمار البريطاني للصهيونيين، مثلاً، لما قامت لهم قائمة في فلسطين، خلال فترة الانتداب البريطاني عليها (1918-1948)، ولولا الدعم الأمريكي لإسرائيل، مثلاً أيضاً، وخصوصاً منذ حرب 1967 بعد ان أثبتت مهارتها في كبح جماح العرب وإذلالهم لما حظيت بذلك التأييد القوي الذي مكنها ولا يزال من العربدة في المنطقة طولاً وعرضاً لفترات طويلة.

الشعب غير متوفر

     وأيا كان مدى التأييد والدعم الذي حصلت عليهما الصهيونية من القوى الاستعمارية، في مختلف مراحل نشاطها، ومهما كان سبب ذلك، فإن حاجتها لمثل هذا الدعم الامبريالي للاستقواء به على شعوب المشرق، لم يكن المشكلة الوحيدة التي جابهتها عند تنفيذ مخططاتها. بل كانت هنالك مشكلة أخرى أكثر تعقيداً منها يكاد عدم إيجاد حل لها يكون مصيرياً لجهة نجاح المشروع الصهيوني أو فشله. وهذه المشكلة كانت واضحة و”بسيطة” للغاية، وتلخصت في إنه لم يكن هناك شعب أو جماهير أو يهود، أياً كانوا، على استعداد للقبول بالمشروع الصهيوني، أو السير في ركابه. ولهذا كان من الضروري إيجاد “شعب” لهذه الدولة، قبل الشروع في إقامتها، وخصوصاً وأن تمسك اليهود بمفاهيم شريعتهم، التي كانت تعود إلى ما قبل ظهور الصهيونية، منعهم من المشاركة في أي عمل سياسي هدفه إقامة دولة يهودية بقوى بشرية، وهو ما جعل الجماهير اليهودية تعرض عن الانخراط بإعداد ملحوظة في ركاب النشاط الصهيوني. وقد تنبه هرتسل العلماني لهذا الواقع أخيراً، ليصل إلى نتيجة مفادها أنه لن يكتب لمشروعه النجاح، ما لم تؤمن به عامة اليهود، أو على الأقل قطاعات منهم، ولا يتم ذلك إلا اذا كان هنالك رجال دين يهود يؤمنون بهذه الفكرة، ويعملون على ترويجها بين اتباعهم، فراح يفتش عنهم إلى أن وجد عدداً منهم، عرفوا فيما بعد في تاريخ الصهيونية باسم “حاخامي هرتسل”. واتجه هؤلاء، مع اعتناقهم للصهيونية، إلى إصدار الفتاوى الداعمة لها، بالتوضيح مثلاً انه حتى لو كان خلاص اليهود سينبع من إرادة الله الذي سيقرر عندما يرى ذلك مناسباً إرسال مسيحه وإعادة بعث اليهود، فإنه لا مانع رغم ذلك من مساعدته في البدء بإقامة مثل هذه الدولة، حتى قبل أن يحين ذلك الموعد. وفي أوائل القرن الماضي أقيمت حركة دينية صهيونية يهودية على هذه الأسس، عرفت باسم “المزراحي”، وكانت، في أيام الانتداب البريطاني على فلسطين، الحليفة الرئيسية لبن غويون، في إدارة الحركة الصهيونية. وقد عرفت هذه الحركة فيما بعد عقب قيام إسرائيل باسم “الحزب الديني القومي” (المفدال)، ثم غيرت طابعها وتحالفاتها فأصبحت تعرف باسم “حزب البيت اليهودي”. ويعتبر هذا الحزب، إضافة إلى حزب “إسرائيل بيتنا”، الذي يضم أساساً المهاجرين اليهود الجدد الذين جاؤوا من الاتحاد السوفييتي بعد انهيار الشيوعية فيه، برئاسة ليبرمان، وزير خارجية اسرائيل حالياً، من أكثر القوى السياسية في إسرائيل عنصرية ومعاداة للفلسطينيين داخل إسرائيل وخارجها. وهما رأس الحربة حالياً في حملة سن القوانين العنصرية المعادية للعرب .

     ومهما كان، على كل حال، من أمر تلك الفذلكة والفتاوى الصهيونية الدينية والعلمانية، التي استمرت تتطور خلال عقود طويلة فإنها رغم ذلك لم تساهم في إيجاد أو خلق شعب أو جماهير لمشروع الدولة الصهيونية، بل إن التطورات التاريخية، الفكرية أساساً، من جهة، والمؤامرات لتهجيراليهود من بلدانهم، من جهة أخرى، هي التي قامت دون غيرها بذلك .

     ففي سنة 1880 أي قبل فتره قصيرة من إقامة أول مستوطنة يهودية في فلسطين، فيما اعتبر بادرة للنشاط الصهيوني في البلد قدر عدد اليهود في فلسطين بأسرها بنحو 22 ألف نسمة، وكانوا يشكلون آنذاك، نحو 0,8 في المئة، أي اقل من واحد في المئة، من عدد السكان الفلسطينيين، ولم ترتفع هذه النسبة خلال الأربعين سنه اللاحقة بل إنها قلت عن ذلك، رغم التغييرات الكبرى، بل المصيرية، التي شهدتها التجمعات اليهودية الكبيرة في العالم آنذاك، وكذلك رغم النشاط الصهيوني، على محدوديته وضعفه .

     قدر عدد اليهود في العالم سنه 1880 بنحو 7,5 مليون نسمة، كان نحو 55 في المئة منهم، أي ما يزيد على أربعة ملايين نسمة يعيشون في روسيا وبولونيا، التي كانت خاضعة آنذاك لحكم القياصرة الروس. وفي تلك الفترة، بل قبلها بسنين عديدة، اندلعت في روسيا ثورة صناعية خاصة بها، وإن جاءت متأخرة عن مثيلاتها في أوروبا الغربية. وقد أدت هذه الثورة الصناعية إلى تدمير الأسس الاقتصادية للمجتمعات اليهودية في تلك المناطق، وقلبها رأساً على عقب، بينما نشطت بموازاة ذلك الحركات الثورية المناوئة للحكم القيصري (والتي تمكنت أخيراً من القضاء عليه، قبيل نهاية الحرب العالمية الأولى). وكان للشباب اليهود، علي حد تعبير أجهزة الأمن القيصرية، نسبة عالية من الناشطين في تلك الحركات، تفوق نسبتهم بين السكان، ما أدى إلى اتخاذ إجراءات قاسية بحق اليهود عامة من قبل السلطات، بل وتدبير الاعتداءات عليهم هنا وهناك، والتي لم تخلُ من مذابح ارتكبت بحقهم لحملهم على الهجرة من مناطقهم. ويروي هرتسل في مذكراته أن الوحيد الذي استطاع التفاهم معه، من بين زعماء عصره الذين قابلهم لطلب تأييدهم لمشروعه الصهيوني، كان وزير داخلية روسيا، الذي أبلغه أن بلاده لا تعارض هجرة اليهود منها إلى أي مكان يريدونه، بل إنها عملياً تشجعهم على ذلك، وأحياناً “بواسطة الرفص”. ودفعت تلك المعاملة الوحشية المرتكبة على اراضي روسيا والأوضاع الاقتصادية المتردية أعداداً كبيرة من اليهود إلى الهجرة من تلك المناطق، في موجة واسعة استمرت حتى نشوب الحرب العالمية الأولى سنة 1914 .

     ويقدر عدد اليهود المهاجرين من تلك المناطق، خلال تلك الفترة، بما يزيد على مليونين ونصف المليون نسمة، اتجه مليونان منهم إلى الولايات المتحدة ما لبثوا أن اندمجوا هناك في حياة البلد، وحسنوا ظروفهم الاقتصادية. ومع مرور الوقت ازداد نفوذهم (وأحفاد هؤلاء هم الذين أقاموا اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة “المختص” بحماية الدولة الصهيونية). أما عدد الذين وصلوا إلى فلسطين من موجة الهجرة العارمة تلك فبلغ نحو 50 ألفاً فقط، وبالتالي مع الازدياد الطبيعي للسكان العرب في فلسطين قلت نسبة اليهود بينهم، لتصل إلى 0,7 في المئة من عدد السكان، بدلاً من 0,8 في المئة قبل ذلك.

العنصرية أوروبية المنشأ

     وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وتقسيم دول المشرق العربي عقبها، ومن ثم فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، الذي اعتمد وعد بلفور بشأن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين سياسة رسمية له، لم تتغير أوضاع الكيان الصهيوني في البلد في صورة ملحوظة. فخلال سنوات الانتداب الأولى، لم تدخل فلسطين أعداد كبيرة من المهاجرين اليهود، بل إنه في سنة 1927، مثلاً، زاد عدد النازحين اليهود من فلسطين على عدد المهاجرين القادمين إليها، وكاد يبدو أن المشروع الصهيوني يتجه نحو الإفلاس.

     إلا إن هذه الأوضاع بدأت تتغير في صورة جذرية، خلال الثلاثينات من القرن الماضي، خصوصاً في أوروبا. فقد شهدت هذه القارة، خلال تلك الفترة، تطورات ومسارات مصيرية تفجرت في نهاية الأمر وأطاحت بالنظام العالمي، الذي كان متعارفاً عليه حتى ذلك الوقت. فخلال سنوات الثلاثينات انهار النظام الأوروبي العام، الذي فرضه الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى، وتردت الأوضاع الاقتصادية وازدادت البطالة، وارتفعت حدة التناقضات والمشاحنات القومية الشوفينية بين مختلف شعوب القارة، ثم ظهرت النازية لتسرع في نشوب الحرب العالمية الثانية، مدمرة كل ما كان قبلها، وما وقف في وجهها.

     وفي ظل هذه التطورات بالذات، شهدت الحركة الصهيونية، أيضاً، عملاً وفكراً، تغيرات مهمة، لجهة إقامة الدولة اليهودية، واقعاً من جهة، وتعريف أو تحديد معانيها الفكرية، من جهة أخرى. وحتى في هذه الحالة، فإن الفكر والممارسة الصهيونيين تأثرا، في صورة ملحوظة، بالعنصرية التي سادت أوروبا في تلك الحقبة، تماماً كما تأثرت الحركة الصهيونية بالفكر الامبريالي، الذي كان سائداً عند تبلورها في نهاية القرن التاسع عشر.

     لقد قام الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى بتجريد أعدائهم، وخصوصاً الإمبراطوريتين الألمانية والعثمانية، اللتين خسرتا الحرب من البلدان والمناطق كافة، اللتان كانتا تسيطران عليها، ليس في آسيا وإفريقيا فحسب بل في أوروبا أيضاً، حيث عمدوا هناك بالذات إلى منح هذه الدول الاستقلال. ونتيجة لذلك شهدت مناطق البلقان وأوروبا الوسطى والشرقية، على وجه التحديد، نشوء العديد من الدول القومية الجديدة، التي كانت شعوبها خاضعة قبل ذلك لحكم الامبراطوريتين المنهزمتين. وشاءت عصبة الأمم، التي أنشئت بعد الحرب العالمية الأولى (وتعتبر بمثابة الأم لمنظمة الأمم المتحدة القائمة حالياً) أن تضمن قيام أنظمة ديمقراطية تراعي التعددية في تلك الدول الحديثة نظراً لتنوع وتداخل القوميات المختلفة، التي كانت تقيم فيها. ولذلك اشترطت على تلك الدول الحديثة، للاعتراف باستقلالها إقرارها لحقوق الأقليات، ومن بينها الأقلية اليهودية القاطنة فيها. وفي تلك الأوضاع الصعبة، وخصوصاً الاقتصادية منها، لم يؤد الاعتراف بحقوق الأقليات إلى تدجينها وعقلانيتها، بل على العكس دفعها نحو المزيد من العنصرية والتطرف، وكان لليهود قبل غيرهم نصيب في ذلك.

     وبموازاة تأزم الأوضاع في أوروبا، خلال سنوات الثلاثينات، ارتفعت حدة التوتر بين العرب واليهود في فلسطين، نتيجة للتطورات في أوروبا، وانعكست على الأوضاع في البلد. فمع ازدياد الأوضاع سوءاً في أوروبا، ارتفعت نسبة المهاجرين اليهود منها إلى فلسطين في شكل غير مسبوق. وخلال السنوات الأربع فقط، الممتدة من سنة 1935 حتى نشوب الحرب العالمية الثانية سنة 1939، زاد عدد السكان اليهود في فلسطين في صورة ملحوظة، ليصل فجأة إلى نحو ثلث عدد السكان فيها. وكان هذا سبباً رئيسياً في اندلاع الثورة العربية الكبرى في فلسطين (1936-1939) بعد أن لمس الفلسطينيون أن بلدهم راحت تتسرب تدريجياً من بين أيديهم، وقد لا يبقى فيها أحد لو دامت الأوضاع على هذه الحال. واستطرادا، لعله من المناسب الإشارة إلى إن القفزات النوعية الأخرى في زيادة عدد اليهود في فلسطين حدثت بعد إقامة إسرائيل في بداية الخمسينات، من خلال مؤامرات وصفقات عقدها الحكام العرب وأسفرت عن استقدام مئات الآلاف من المهاجرين اليهود من العراق واليمن والمغرب. ثم حدثت قفزة في أوائل التسعينات مع انهيار الاتحاد السوفييتي.

     وبموازة ذلك أيضاً، طرحت في تلك الفترة مشاريع تقسيم فلسطين، وإقامة دولة يهودية على جزء منها، ما أدى تلقائياً إلى احتدام حدة النقاش والخلافات داخل الحركة الصهيونية، لجهة تحديد هدفها النهائي، وأساليب عملها، خصوصاً تعريف اطر الدولة اليهودية ومضامينها واهدافها. فحتى ذلك الوقت كان نشاط الصهيونيين عموما خاضعا لتيار اليسار الصهيوني ممثلاٌ في اتحاد بوعالي تسيون (عمال صهيون) أجداد حزب العمل الإسرائيلي حالياً المتحالفين مع الصهيونيين المتدينين من اتباع حزب المزراحي والذين تزعمهم حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية آنذاك، وهو بريطاني الهوى والقالب. وكان هولاء من المتمسكين باقامة “الوطن القومي” دون الاهتمام بالحديث عن دولة يهودية، على الأقل قبل أن يحين الأوان لذلك، حتى لا يثيروا غضب العرب، وبالتالي المزيد من المعارضة لهم، إلى أن يزداد عدد سكان الكيان الصهيوني في فلسطين ويصبح بالإمكان المطالبة بإقامة دولة يهودية فيها.

     غير أنه نشأ في مقابل ذلك تيار صهيوني آخر تفشى خصوصاً بين يهود أوروبا، وهو أكثر تشدداً وعنصرية، وفجأة راح يتحدى القيادة الصهيونية التقليدية، عبر اعتراضه الشامل على سياستها، ومن ثم سعيه إلى إعادة تعريف “هدف الصهيونية” وإنتهاج وسائل أخرى لتحقيقها. وتزعم هذا التيار ومناصريه الذين عرفوا فيما بعد باسم “الصهيونيين التصحيحيين” (إذ جاؤوا لتصحيح المسار الصهيوني) زئيف جابوتينسكي، الذي شق عصا الطاعة على القيادة الصهيونية الرسمية، وكذلك الانتداب البريطاني في الوقت نفسه.

     وقد دخل الصهيونيون التصحيحيون في صراعات عميقة مع التيارات الصهيونية المناوئة لهم، انتهت أخيرا في منتصف الثلاثينات بانشقاقهم عن المنظمة الصهيونية العالمية، وإقامة منظمة صهيونية خاصة بهم، سموها “المنظمة الصهيونية الجديدة”. وخلال صراعهم مع الصهيونيين التقليديين القدامى أرسو الأسس الجديدة ذات الطابع العنصري البحت لدولتهم اليهودية .

     ووفقاً لهذه التعاليم الصهيونية الجديدة لا توجد هناك فلسطين، بل “أرض إسرائيل”، التي تمتد من شواطئ البحر المتوسط حتى الصحراء شرقاً، لتضم فلسطين بأسرها والمناطق المأهولة كافة شرقي نهر الأردن. وهذه الأرض ملك لليهود دون غيرهم، بناء على وعد الله لهم، وفق الأساطير التوراتية. وعلى الرغم من أن معظم قادة وكوادر أولئك التصحيحيين كانوا من العلمانيين، فأنهم لم يترددوا في اللجوء إلى خرافات توراتية لدعم مصالحهم السياسية. كما لم يخطر على بالهم، مثلاً، أن الله ذا الصفات الحميدة العديدة، ومن ضمنها العدل، وان كان قد وعد اليهود فعلاً بهذه الأرض لأنهم يؤمنون به فلا شك أيضاً أنه خصص حصة منها لباقي المؤمنين من المسيحيين والمسلمين.

     لقد عارض التصحيحيون بشراسة متناهية مشاريع تقسيم فلسطين كافة إلى دولتين، عربية ويهودية، التي كانت خلال سنوات الثلاثينات، أو بعد ذلك، موضحين بمعارضتهم، أن تلك الأرض ينبغي أن تبقى بكاملها تحت السيطرة اليهودية، لأنها ليست فقط ملكاً لليهود القاطنين فيها حاليا،ً بل لأنها تعود أيضاً ليهود كافة العالم أين ومتى شاؤوا القدوم إليها، وهي بالكاد تكفي لاستيعابهم.

     أما العرب المقيمون في أرض إسرائيل، فإنهم مجرد سكان فيها، لا غير، لا يملكون إي حق من حقوق السيادة عليها، بل إنهم يفقدون حقهم في السكن فيها، ولا يحق لهم حتى العودة إليها، لمجرد تركها أو النزوح منها. ويلاحظ أن الصهيونيين كافة تعمدوا، خلال عقود طويلة، بأن لا يشيروا إلى فلسطين بهذا الاسم وأطلقوا على سكانها العرب اسم “عرب أرض إسرائيل”، ولم يغيروا موقفهم هذا ويبداوا باستعمال عبارة العرب الفلسطينيين الاً بعد توقيع اتفاقات أوسلو بناء على ما تضمنه من اعتراف بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني. وبموازاة ذلك، واستكمالاً له، وكنوع من حماية الذات الصهيونية، فرض اليهود على أنفسهم نظام الغيتو في تعاملهم مع الفلسطينيين، حتى وإن كانوا من مواطني إسرائيل، وذلك بالتمسك بتلك العقدة المتغلغلة في النفسية اليهودية. والغيتو كما هو معروف هو نظام فرض العزلة الذاتية على المجتمع والفرد على حد سواء، جغرافياً أولاً ومن ثم فكرياً. ولم يفرض أحد ذلك النظام على اليهود ولا مرة، بل ان رئاساتهم الدينية هي التي قامت بذلك، عندما طالبت سلطات البلدان التي كانوا يعيشون فيها، بدءاً بألمانيا مع بداية عصر النهضة في أوروبا، بالسماح لها بإقامة جدران حول الأحياء اليهودية، لمنع سكانها من الاختلاط بجيرانهم، وبالتالي حمايتهم من “مفاسد” الحضارة الجديدة، الآخذة في الانتشار. ثم تفشت هذه الأزمة لتصبح مرضاً نفسياً يهودياً صهيونياً مستعصيا.ً وهذا ما يفسر، مثلاً، إصرار الإسرائيليين على الاحتفاظ بدولة يهودية نقية قدر الإمكان، حتى لو اضطروا إلى إقامتها على أصغر مساحة ممكنة من الأرض، مفضلين ذلك على أي كيان ثنائي، أو تعددي مهما كان طابعه ديمقراطياً وعصرياً.

     وكان اليهود قد انتهجوا نظام الانغلاق على الذات، العنصري الخطير، منذ بداية نشاطاتهم في فلسطين، إذ عملوا كل ما في وسعهم لأقامة نظام مغلق خاص بهم، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، منذ حقبة الانتداب، بل حتى قبل ذلك، ثم استمروا في نهجهم هذا بعد إقامة إسرائيل أيضاً. وفي مطلع الخمسينات سنّ الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي قانونين مهمين يعتبران أساساً لكيانية الدولة الصهيونية، هما قانون العودة وقانون الجنسية. وبموجب هذين القانونين يحق لكل يهودي، وله فقط، يعيش في أي مكان في العالم، الهجرة إلى إسرائيل متى شاء، ومن ثم الحصول على جنسيتها حال وصوله إليها. وتسري هذه الإجراءات، حصراً وقطعاً، على اليهود دون غيرهم.

     وعليه، لا يمكن، نظرياً أو عملياً، إلاّ ليهودي، أو من يتزوج مواطناً إسرائيلياً، أن يصبح إسرائيلي الجنسية، وفي هذه الحالة وفق الشروط التي يضعها قانون الجنسية، ومن بينها “الإلمام” باللغة العبرية وإعلان الولاء للدولة. وشذّ عن هذه القاعدة فلسطينيو 1948، اللذين بقوا في إسرائيل بعد إقامتها، والتي كانت قد اضطرت أساساً لقبولهم مواطنين فيها لتثبيت كيانها، وذلك بتسهيل التوقيع على اتفاقيات الهدنة مع الدول العربية المجاورة من جهة ومن ثم الحصول على اعتراف دولي بإسرائيل وقبولها عضواً في الأمم المتحدة من جهة أخرى.

     غير أنه على الرغم من ذلك ثابرت إسرائيل، وبعد إقامتها أيضاً، على التمسك بسياسة الغيتو اليهودي والانغلاق على الذات وطبقتها تجاه العرب الفلسطينيين من مواطنيها، حتى وإن كانوا أقلية فيها. كما أن هذا هو النظام السائد في إقامة المستوطنات في المناطق المحتلة أو الأحياء السكنية في القدس.

     أنها العنصرية بأجلى صورها، التي كانت إحدى مكونات الفكر الصهيوني منذ نشأته، ولا تزال ترافقه حتى اليوم. بل أن المطالبة بالاعتراف بـ “يهودية” إسرائيل ليست إلا ذريعة لتثبيت هذه العنصرية بصورة دائمة.

ما طار طير وارتفع …

     إن “حدوثة” الدولة اليهودية، وضرورة العمل على إقامتها، من جهة، والسعي لحمل الآخرين على “الاعتراف” بها، من جهة أخرى ما زالت ماثلة في الفكر الصهيوني، منذ أمد بعيد، بعد أن بدا وكأنها اختفت أو أرسلت إلى الأرشيف، خصوصاً بعد إن أخذ موقع إسرائيل يترسخ، وزادت ثقتها بنفسها إثر قبول العديدين بها، أو عقد سلام بينهم وبينها، أو التعامل معها. ولكنها على الرغم من ذلك عادت لتطرح بقوة من جديد، وبأسلوب لا يخلو من الهوس خلال السنوات القليلة الأخيرة .

     وترجع أسباب هذه العودة “الميمونة” إلى التعاطي مع هذه المنطلقات العنصرية، بل الطلب وبوقاحة من الضحايا الاعتراف بذلك قبل غيرهم، إلى عوامل عدة واضحة للغاية، ولعل أبرزها تعاظم نفوذ اليمين الصهيوني وانتشار الفاشية بتراكيبها المختلفة وفي صورة لم تعهدها سابقاً، إذ ان احفاد الصهيونيين التصحيحيين هم الذين يحكمون إسرائيل حالياً ويشكلون، مع المتحالفين معهم، الأكثرية الساحقة في الكنيست الإسرائيلي. فبعد إقامة إسرائيل شكّل الصهيونيون التصحيحيون حزباً سياسياً سموه حيروت (الحرية)، (وقبل ذلك كانوا هم الذين أنشأوا منظمتي الأرغون وعصابة شتيرن، الذين أمعنوا في إرهاب الفلسطينيين خلال حرب 1948). وقد تحول حيروت سريعاً إلى حزب المعارضة الرئيسي لتيار العمل، بل خاض الانتخابات العامة ليفشل مرات متتالية في الوصول إلى الحكم. ولم يتسن له ذلك إلا سنة 1977، بعد أن كان قد اتحد قبل ذلك مع مجموعات يمينية أخرى وأنشأوا تكتل الليكود. ومنذ تلك السنة والليكود في صراع على الحكم في إسرائيل مع القوى السياسية الأخرى، وذلك في سجال دائم، بدا معه كأن عوده يقوى ويشتد من سنة إلى أخرى. وقد انشق الليكود على نفسه، قبيل سنوات قليلة، أثر قرار شارون الانسحاب من غزة، حيث قرر الرجل ترك ذلك الحزب، الذي كان قد ساهم بشكل فعال في إقامته خلال السبعينات، وأنشأ حزب “كديماه”. وفي الانتخابات الأخيرة برز هذان الحزبان كأكبر حزبين في إسرائيل. وإذا أضفنا إليها الأحزاب الأخرى، التي لا تبتعد عنهما كثيراً في مواقفها السياسية، اليمينية أساساً، مثل “البيت اليهودي” و”إسرائيل بيتنا”، نجد أن اليمين، بمختلف تياراته، يشكل أكثر من ثلثي الأعضاء في الكنيست الحالي. ومن هنا فإن طروحاتهم واشتراطاتهم وطلباتهم الاعتراف بهذا أو ذاك تستند إلى قاعدة شعبية عريضة تدعمهم.

     إلا أن هذه الهجمة الصهيونية اليمينية في التركيز على “يهودية” إسرائيل والالحاح في الاعتراف بها لا تتوقف عند هذا الواقع فقط؛ إذ أنها تعود أيضاً لأسباب أخرى، لا علاقة لها بذلك، بل إنها تبدو متناقضة معها تماماً. ويمكن إرجاع هذه العوامل إلى التغيرات الاستراتيجية العالمية التي تبلورت خلال العقد الاخير، بما لا يصب بالذات في مصلحة إسرائيل؛ ما أدى إلى فقدانها ثقتها بنفسها وارتفاع حدة قلقها من المستقبل وخوفها على ذاتها في عالم متغير، لا يبدو انه سيعود إلى ما كان عليه.

     لقد تغير وضع إسرائيل الاستراتيجي، في منطقة الشرق الأوسط بل والعالم بأسره أيضاً، نحو الأسوا بصورة واضحة للغاية. فعلى صعيد المنطقة تجد إسرائيل نفسها، بعد أن كانت تعربد وتتوعد، متبجحة بأنها تستطيع قصف أية نقطة في العالم العربي في أية لحظة يحلو لها ذلك، في وضع أصبحت معه كل نقطة فيها معرضة للقصف بعشرات بل بمئات الصواريخ التي تستطيع الوصول إلى كافة مرافقها الاستراتيجية وبناها التحتية. ويلاحظ، مثلاً، أن كافة مناورات الدفاع المدني الإسرائيلي، خلال السنوات الاخيرة، التي تتم على صعيد قطري أو محلي، تنطلق من افتراض أن شتاء من الصواريخ سينهمر على إسرائيل في حال نشوب حرب في المنطقة، مدمراً مرافقها الحيوية وضارباً قدراتها على أكثر من صعيد.

     يضاف إلى ذلك تضعضع مكانة إسرائيل الدولية، كما هو بائن للعيان، نتيجة للتعنت السياسي الذين تنتهجه، ومن المعروف للجميع انه لم تبق هناك إلا دولة واحدة في العالم هي الولايات المتحدة الأميركية لا تزال تؤيد السياسات الإسرائيلية. وحتى هذه الدولة تقوم بذلك على مضض. إلا انه حتى في مثل هذا الواقع ليس هناك ما يمكن الاتكال عليه لزمن طويل. فالولايات المتحدة تمر بسلسلة من الأزمات المستعصية، الاقتصادية أساساً، والتي تضعفها استراتيجياً يوماً بعد يوم. كما أنها تتعرض في الوقت نفسه لمنافسة حادة من قوى عالمية أخرى آخذة بالتبلور، مثل الاتحاد الأوروبي والصين والهند واليابان والبرازيل وغيرها وقد لا يمر وقت طويل حتى تؤدي إلى إزاحتها عن مركز الصدارة في إدارة شؤون العالم، مما لا يعود بنفع كبير على إسرائيل، ولا يساهم في دعم عدوانها وعربدتها .

    وإلى ذلك كله تضاف الطامة الكبرى الكامنة وراء بزوغ شمس ربيع الشعوب العربية. أن الربيع العربي لا يزال في بدايته، ولم تتضح معالمه ومساراته كافة حتى الآن. ولا شك في أنه سيكون هناك مد وجزر، وأخذ ورد لفترت قد تطول او تقصر. إلا أنه على الرغم من ذلك تبدو هناك نقطة وحيدة واضحة للغاية، وهي أن وضعاً كهذا، أيا كان مستواه، لا يصب في مصلحة إسرائيل مهما كانت الظروف. لقد اعتادت إسرائيل على التعامل مع العرب من خلال حكامهم، وذلك بأسلوب ترغيبهم من ناحية، وإرهابهم من ناحية أخرىأ، قافزة عن الشعوب العربية ومختزلة ارادتها. ولعل خير دليل على ذلك هو الدور المتواطئ، المتعاون مع الامبريالية، والسائر بأعين مغلقة في ركاب المنطق والمخططات الصهيونية، الذي لعبه نظام المخلوع حسني مبارك في مصر، بما قدمه من خدمات لا تقدر بثمن للصهيونيين والمتعاونين معهم، لقاء رشاوى حصل عليها أولاده وحاشيته. وفي الأوضاع الجديدة التي أخذت تسود في العالم العربي، يشك جدا في إمكانية ظهور زعيم عربي يجرؤ على انتهاج مثل هذه المسالك مرة أخرى. إن النهاية التعيسة لمثل هذه الاتجاهات أصبحت واضحة للغاية. ووضع كهذا لا يجعل إسرائيل تشعر بالراحة، ولا يساهم كثيراً في ترويج مخططاتها.

     ولهذه الأسباب مجتمعة ،الناجمة عن تطورات عالمية وإقليمية غير هامشية، ولا قدرة للكيان الصهيوني على إيقافها أو التأثير فيها كثيراً، تبدو إسرائيل قلقة وخائفة على نفسها وغير واثقة بمستقبلها. ومن هنا تلجأ إلى التمسكن وتطالب بمراعاة مطالبها الأمنية، التي تعني صهيونياً السماح لها بالسيطرة على المنطقة، والتحكم بشعوبها، من جهة، والاعتراف بيهوديتها، كعنصر مكمل لتلك المواقف، من جهة أخرى.

     إلا إن مثل هذه المراوغة لا ينبغي إن تنطلي على أحد. فالاعتراف بـ”يهودية” إسرائيل قد لا يقل خطورة، بل كارثية عن الاعتراف بوعد بلفور مثلاً، على الحقوق الفلسطينية سواء داخل إسرائيل، أو في المناطق المحتلة أوالشتات. إن مثل هذا الاعتراف يعني ضمناً الإقرار بحقوق اليهود في “أرض إسرائيل” وفق المفاهيم الصهيونية، والموافقة على مخططاتهم وقد يحوّل بالتالي الفلسطينيين كافة، في أحسن الأحوال، إلى مجرد سكان في بلدهم لا يملكون حقوق سيادة عليها، ولا يتحكمون بمصيرهم، وسيصبح ذلك كله خاضعاً وتابعاً للفكر الصهيوني بشعوذته المعهودة.

     ومن هنا، لا للاعتراف بـ”يهودية” إسرائيل، ولا حتى التعاطي مع مثل الفذلكة تحت أي ظرف، وبأي ثمن.

[ نشرت في مجلة “شؤون فلسطينية” (رام الله)، العدد 246، خريف 2011 ]
الأرشيف