من مجلس الامن الى الجمعية العمومية

من مجلس الأمن إلى الجمعية العمومية

صبري  جريس

    طلب انضمام فلسطين دولة كاملة العضوية إلى الأمم المتحدة، التي تم تقديمه طريق مجلس الأمن، يتعثر ويواجه الصعوبات، ولا يبدو أنه سيسفر، في نهاية المطاف، عن نتيجة ايجابية تذكر. وليس في ذلك، على كافة الأحوال، أية غرابةً. فطريق المرور في مجلس الأمن، بالنسبة لفلسطين على الأقل، محفوفة بالمخاطر، إذ هناك تحاك المؤامرات وتخلق الأعذار وتوضع العراقيل، كما عهدنا خلال فترة طويلة، طويلة فعلاً، خصوصاً حين يتعلق الأمر بقرارات ذات علاقة بإسرائيل. وهناك أيضاً يفقد الإمبرياليون الأميركيون صوابهم، ولا يترددون في اللجوء إلى مختلف الأعذار والحيل، بما في ذلك الابتزاز والتهديد والخديعة، لحماية إسرائيلهم. وعندما لا يجديهم ذلك نفعاً يلجأون، بمنتهى الصلف الامبريالي، إلى استعمال الفيتو، وإجهاض أي قرار أو تحرك لا يعجبهم أو قد يزعج تلك الدولة الخارجة على القانون.

     وحتى إن صدر قرار ما فإن إسرائيل غالباً ما تتجاهله، وتمضي في غيّها ومخططاتها دون رادع. وقد قام مؤخراً، مثلا، رئيس وزراء تركيا إردوغان بإحصاء للقرارات التي لم يمتثل لها الكيان الصهيوني، فوجد أن عددها وصل، حتى الآن، إلى 89 قراراً.

     إنه من المؤلم، والمثير للغضب والإحباط كذلك، أن نرى تلك الجهود المبذولة في بازار عد الأصوات في مجلس الأمن، ومن ثم شحذ القوى لمعرفة موقف هذه الدولة العضو في المجلس حالياً أو تلك، لضمان الأصوات التسعة المطلوبة من بين أعضاء المجلس. وحتى إن تم ذلك فهناك الفيتو الأميركي الكفيل بإحباط تلك المساعي. والفلسطينيون، قطعاً، ليسوا بحاجة تحديداً إلى سلوك طريق مجلس الأمن دون غيره سعياً وراء حقوقهم، من خلال استجداء المواقف من هذه الدولة أو تلك، في الوقت الذي يستطيعون فيه القفز عن كل تلك المسرحيات والتوجه إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة مباشرة، حيث تبدو الأكثرية مضمونة لصالح الاعتراف بحقوقهم وتثبيتها.

     إن إصرار الرئيس عباس على تقديم طلب العضوية، رغم الضغوط الأميركية التي تعرض لها والفذلكة الأوروبية التي رافقتها، لا تترك مجالاً كبيراً للشك في مصداقية التوجه الفلسطيني وجدية التمسك به. كما أن المتابعة الدؤوبة للدول الأعضاء في المجلس، لحثها على تأييد الطلب الفلسطيني، تؤيد ذلك. إلا أن الأعمال بنتائجها وليس نياتها. فبعد وقت قصير، ومع الدخول في متاهات إجراءات مجلس الأمن، قد تتغير هذه الصورة وتسود العرقلة والتأجيل والمماطلة، وتمر الدولة الحالية للجمعية العمومية دون نتيجة تذكر. وحتى إذا لم يحدث ذلك، وتمكن الفلسطينيون فعلاً من تأمين الأصوات التسعة المطلوبة لتمرير طلبهم، فإن الفيتو الأميركي في الانتظار، كما أعلن الأميركيون أكثر من مرة. إن الولايات المتحدة لم تتوقف يوماً، رسمياً وعلناً، عن إدانة أي نشاط إسرائيلي استيطاني في الأراضي المحتلة وإعلان معارضتها له. ولكنها، بالرغم من ذلك، استعملت الفيتو لإجهاض مشروع قرار في مجلس الأمن يدين ذلك الاستيطان ودون تردد، بل كانت وحيدة في موقفها هذا. وإن كان هذا هو الحال بالنسبة لمسألة تحظى بتأييد عالمي، فلا شك أن طلب الاعتراف بدولة سيجابه بفيتو مماثل. وفي وضع كهذا ما الفائدة إذن من التوجه إلى مجلس الأمن وإضاعة الوقت والجهد في معركة تبدو دون كيشوتية ولا فائدة منها؛ بل أين الحكمة في الاكتفاء بذلك فقط؟

     لقد قيل أن الموقف الفلسطيني يتلخص، حالياً، في تقديم طلب العضوية، ومن ثم متابعته واتخاذ الخطوات الضرورية في ضوء النتائج. وإن كان الأمر كذلك، وما دامت النتائج معروفة مسبقا، في ضوء المواقف الأميركية والإسرائيلية الواضحة للغاية، لا ضرورة لانتظار تلك النتائج بل ينبغي الولوج في الخطوات المتوجب اتخاذها دون أبطاء.

     لا يجوز، بلغة لا تقبل التأويل، السماح لمجلس الأمن ودهاليزه، باللعب كثيراً في طلب العضوية الفلسطيني ولا تأجيله أو ممارسة الابتزاز بشأنه. ولهذا ينبغي أن يعطى مجلس الأمن، فلسطينياً، فترة محددة وقصيرة لاتخاذ قراره. وإن لم يتم ذلك فينبغي القفز عن ذلك المجلس وإجراءاته والاتجاه مباشرة إلى الجمعية العمومية وطلب الاعتراف بفلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة، بحيث يتم ذلك قبل نهاية الدورة الحالية، المتوقع لها أن تستمر بضعة أسابيع أخرى. وإن لم يتم ذلك، وبأسرع ما يمكن، فالكوارث الحقيقية، وربما تكون هذه المرة نهائية، تتربص بالفلسطينيين وقضيتهم.

     لقد صدق الرئيس عباس، حقاً، بقوله في خطابه أمام الجمعية العمومية، أن السياسات التي تنتهجها حكومة إسرائيل حالياً كفيلة بتقويض حل الدولتين، وبالتالي القضاء على أي حلم فلسطيني بالاستقلال، كما أنها كفيلة أيضاً بتصفية النظام السياسي الفلسطيني شبه المستقل، على المدى البعيد. إلا أن مسار مجلس الأمن بالذات لن يساعد كثيرا في التصدي لمثل هذه التحديات أو العمل على إبطالها، أو على الأقل القفز عنها.

     من الواضح أنه ليس هنالك من شك في أن حكومة إسرائيل الحالية هي أشد حكومات الكيان الصهيوني تصلباً وعنصرية وعدوانية، كما أنه ليس هناك، أيضاً، أي شك في أنها تسعى جاهدة إلى تقطيع أوصال ما تبقى من فلسطين وضم مساحات أخرى منها إليها؛ ومن ثم تحويل ما تبقى إلى مستعمرة إسرائيلية. ومثل هذا التحدي الخطير يتطلب جرأة وإصراراً على مواجهته، دون تردد كبير.

     لم تعد هناك حاجة إلى اجتهاد أو تحليل أو تخمين للوقوف على أبعاد سياسة إسرائيل ومواقفها، في سعيها لإقامة “إمبراطورية” صهيونية في المشرق العربي، انطلاقاً – صدقوا أو لا تصدقوا – من أسس سلفية توراتية، تبدو كأنها جاءت من عالم آخر. ففي الخطاب الذي ألقاه في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بعد خطاب عباس بفترة قصيرة، والذي يبدو أن الكثيرين لم يعيروه الانتباه الضروري، يضع رئيس حكومة إسرائيل نتنياهو النقاط على الحروف توضيحاً لأسس سياسته السلفية. فالصهيونية، بالنسبة له، هي سعي اليهود لاستعادة كيانهم القومي في وطنهم التوراتي “أرض-إسرائيل”، وفلسطين ليست إلا الجزء الغربي منها. وعليه يتوجب على الفلسطينيين أن يتوقفوا عن إنكار العلاقة التاريخية بين اليهود ووطنهم القديم. وإذا ما أرادوا أن تكون لهم دولة فعليهم أولاً عقد سلام مع إسرائيل، والاعتراف والإقرار طبعاً بمتطلباتها مسبقاً، ومن ثم تقام دولة لهم، أي عملياً محمية، وفق الشروط الصهيونية. أما الاستيطان في الضفة الغربية فينبغي أن يبقى في مكانه، وهذا موضوع سيعالج في إطار “المفاوضات”، وفق الإملاءات الإسرائيلية بالطبع. أما القدس التي تضم حائط المبكى، أكثر الأمكنة قدسية لدى اليهود بحسب رأيه (والادعاء هذا، على أي حال، ليس صحيحاً وفق الشريعة اليهودية التي لا تعترف بقدسية المكان)، فلا حديث بشأنها وليست موضوعاً لأية مفاوضات. كما أن إسرائيل، للمحافظة على “أمنها”، تحتاج إلى الاحتفاظ بقوات لها على الحدود مع الأردن، لفترة طويلة للغاية، وربما بصورة دائمة. والكلام هذا لا يقال في غرف مغلقة، أو همساً، بل يطرح علناً على مندوبي دول العالم كافة وبصورة رسمية للغاية.

     وفي مواقفه هذه يحظى نتنياهو بدعم نحو ثلاثة أرباع أعضاء الكنيست، والذين يبدو أن عددهم لن يقل عن ذلك لو جرت انتخابات جديدة في المستقبل المنظور. بل يبدو أن مثل هذه المواقف، أو بعضها على الأقل، يحظى أيضا بتأييد إطراف لم تكن على البال. فقبل فترة قصيرة جرت انتخابات لرئاسة حزب العمل فازت فيها شلي يحيموفيتش. وكانت هذه السيدة قد امتنعت، خلال فترة طويلة، عن الإفصاح عن أية مواقف سياسية خاصة بها على اعتبار أنها “متخصصة” في القضايا الاجتماعية. غير انه ما أن احتدمت المعركة الانتخابية حتى سارعت إلى الإفصاح عن بعض مواقفها بقولها أن حزبها هو الذي بدا الاستيطان في المناطق المحتلة، والكلام صحيح، ولذا فأنها تعارض الدعوات لمقاطعته أو إضفاء عدم الشرعية عليه.

     ويبدو أن تأييدا إضافيا كهذا شجع حكومة إسرائيل على الإغراق في المزيد من أنشطتها الاستيطانية،  فأعلنت مؤخرا عن إقامة لجنة لدراسة وسائل شرعنة الاستيطان القائم على أراض فلسطينية خاصة، كان قد تم في حينه الاستيلاء عليها عنوة، وذلك لتفادي تنفيذ قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية التي قضت بعدم شرعية ذلك الاستيطان وأمرت بإزالته. والأرجح أن توصي تلك اللجنة بمصادرة تلك الأراضي لقاء دفع “تعويضات” لأصحابها بابخس الأثمان. وكانت إسرائيل قد لجأت إلى أساليب مماثلة صادرت بموجبها، مع بداية الخمسينات، نحو مليوني دونم من أراضي عرب الداخل.

     ومما يزيد الطين بلة أن هذه التطلعات السلفية الصهيونية لم تبق حكراً على إسرائيل وساستها، بل حملت الامبريالية الأميركية أيضاً على تبنيها. ولا شك أن تلك الإمبريالية غارقة إلى ما فوق أذنيها في هذه المخططات التصفوية. فمن الواضح للعيان، وبما لا يدع مجالاً للشك أو الجدل، أن الرئيس الحالي لتلك الامبريالية، الآخذة في التراجع، رجل لا يتكل عليه وليس جديراً بأية ثقة، بعد أن لحس كافة مواقفه السابقة، التي حاول تضليل العرب وباقي الشعوب الإسلامية بها. لقد أثار أوباما، في بداية ولايته، حماس العرب والمسلمين بخطاباته الثورية في القاهرة واسطنبول، حتى كاد الكثيرون يعتقدون أن أميركا لن تفرز رئيساً أفضل منه تفهماً للقضايا العربية. ولكن عندما اتضح له أن تأييد اليهود له ضروري لإعادة انتخابه سارع الرجل إلى الرضوخ للوبي اليهودي وسار في ركابه دون خجل، وعلى رؤوس الأشهاد، متنكراً بصلف لكل مواقفه المعلنة السابقة تجاه القضية الفلسطينية. ولم يكتف بذلك، بل ألقى خطاباً في الأمم المتحدة يعتبر من أكثر خطابات الرؤساء الأميركيين صهيونية في تاريخ الولايات المتحدة؛ وذلك لكي يحصل فقط على شهادة حسن سلوك من اللوبي اليهودي قد تساعده على الفوز في الانتخابات لولاية ثانية. بل أن الولايات المتحدة، بقيادة هذا الرئيس بالذات، تبدو أكثر شراسة من إسرائيل نفسها في دفاعها عن الاستعمار الصهيوني، طارحة مواقف جديدة، صلفة واستفزازية، لم نكن حتى نفكر سابقاً أننا سنسمع مثلها يوماً ما؛ مضيفة إلى السلفية اليهودية سلفية أخرى مسيحية امبريالية خاصة بها. ويلاحظ أن خطاب اوباما في الأمم المتحدة، عند افتتاح دورتها الأخيرة، حظي برضى غلاة الصهيونيين، لدرجة قام معها وزير خارجية إسرائيل العنصري ليبرمان، الذي لا يعجبه العجب، بمديحه مطولا.

     في وضع كهذا ليس هناك من مفر إلا السعي إلى مجابهة الإمبريالية الأميركية، أو على الأقل القفز عن مخططاتها وتوجيه صفعة لها ولعملائها من المستعمرين الصهيونيين بطلب الاعتراف بدولة فلسطين، وإن كانت غير عضو، في الأمم المتحدة؛ ومن ثم السير قدماً في كافة المسارات الدولية المتاحة في ضوء وضع كهذا، وهي ليست هامشية.

     صحيح أن مثل هذا الاعتراف يبقى ناقصاً، ألا أنه لا ضير في ذلك في ضوء الأوضاع الراهنة؛ إذ ليس في الإمكان أحسن مما كان، خصوصاً وأنه حتى لاعتراف من هذا النوع فوائد جمة، يفترض ألا تخفى على أحد، خصوصاً لجهة ما يقدمه من أدوات لمقارعة الإمبرياليين وحلفائهم الصهيونيين.

     إن الاعتراف بفلسطين دولة، وإن كانت غير عضو في الأمم المتحدة، من قبل الجمعية العمومية للمنظمة الدولية، يمنح القضية الفلسطينية نقلة نوعية لم تعهدها حتى الآن، ويرمي بمخططات تمزيق ما تبقى من الأرض الفلسطينية أو محاولات السيطرة عليها في سلة المهملات. أن اعترافا كهذا يضع حدا للادعاءات الصهيونية بأن الاراضي الفلسطينية هي مناطق متنازع عليها، وبالتالي ينبغي “التفاوض” حول وضعها، ويحولها إلى دولة محتلة، تسري عليها الإجراءات والأحكام الدولية. ولا يعقل، بعد اعتراف كهذا، أن يقبل أحد بالتخرصات الأميركية والصهيونية والمخططات التصفوية التي تحاك للسيطرة على فلسطين؛ ولن يجرؤ أحد بعد اليوم على المطالبة بتقديم تنازلات مجانية أخرى، تحت السقف الذي أقرته الأمم المتحدة.

     كما أن مثل هذا الاعتراف يمنح فلسطين الحق في الانضمام إلى معظم، إن لم يكن كل، المؤسسات العالمية التابعة للأمم المتحدة، وما أكثرها، بحيث تعتبر فلسطين هناك دولة، مثل باقي الدول، تستطيع تأمين حقوقها والدفاع عنها. وليس في إنجاز كهذا ما يمكن التنازل عنه بسهولة. ومن هنا تسهل مقارعة الاحتلال الصهيوني بطلب اتخاذ الإجراءات العالمية بحقه، كالمقاطعة وفرض العقوبات المختلفة، سعياً للوصول إلى وضع تصبح إسرائيل واحتلالها معه مطاردة من قبل المجتمع الدولي، تماماً كما كان وضع جنوب أفريقيا أيام الحكم العنصري فيها.

     كذلك يسهّل وضع كهذا نقل معركة الاستقلال إلى المجال الدولي، بكافة أبعاده وتشعباته. بل ينبغي السعي بجد، ودون التفات إلى الوراء، إلى تدويل القضية الفلسطينية لإنقاذها من الصلف الإسرائيلي والهيمنة الأميركية. ومساراً كهذا يتطلب أيضاً إنهاء دور الرباعية الدولية، التي لم تكن عملياً إلا أداة لتنفيذ السياسات الأميركية، وإيجاد آلية بديلة، دولية، تضم أطرافاً أخرى لمتابعة تطورات القضية الفلسطينية.

     كذلك يمنح مثل هذا الاعتراف الحق لفلسطين في الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، المعنية بجرائم الحرب والمخولة بمحاكمة من يرتكبها – وهو إجراء تخشاه إسرائيل والعديد من الإسرائيليين. والمعروف ان الاحتلال، وخصوصاً ما يتبعه من استيطان ونقل سكان وسيطرة على الأراضي المحتلة، وهو ما تقوم به إسرائيل، هي جرائم حرب بامتياز ومن الدرجة الأولى.

     إن الاعتراف بأراضي فلسطين في حدود 1967 دولة، ومرة أخرى حتى وإن كانت غير عضو، في الأمم المتحدة، يحولها فوراً إلى دولة محتلة وفقاً لقواعد القانون الدولي، ويمنح بالتالي المحكمة الجنائية الدولية، حق اعتقال ومقاضاة كل من يساهم في دعم أسس ذلك الاحتلال أو يمارسه. وفي وضع كهذا يصبح كافة المستوطنين في الضفة الغربية، بما في ذلك قادة جيشهم العاملين هناك، بل أيضاً جنوده، بمثابة مجرمي حرب، يتوجب اعتقالهم حالما تسنح الفرصة لذلك، ومن ثم محاكمتهم. وهذا بحد ذاته كاف لمنع العديد منهم من الدخول إلى بلدان عديدة في أنحاء العالم، خوفاً من تعرضهم هناك للاعتقال.

     ولا ينبغي أبداً، وفي أي حال، التنازل عن أداة كهذه في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، أياً كانت النتيجة؛ بل قد آن الأوان لمواجهته بكافة أساليب القوة المتاحة لضعضعة مكانته ومن ثم دحره. وقد لا يفاجأ البعض إن رأى، في وضع كهذا، عدداً من المؤسسات الأهلية الإسرائيلية، المناهضة للاحتلال، تساهم في تزويد المحكمة الدولية بالوقائع والمعطيات عن الواقع ألاحتلالي، بكافة نواحيه، كما فعلت حين قامت بتقديم بيانات لا تقدّر بثمن إلى لجنة غولدستون، التي تولت التحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة.

     لقد اضطرت إسرائيل، على سبيل المثال، إلى الهرب من جنوب لبنان، وهي فعلاً هربت منه، بعد أن سادت هناك أوضاع لم يعد معها بقاؤها فيه مجدياً من أية ناحية، عسكرية كانت أم سياسية أم اقتصادية. وبالتالي لم يبق أمامها إلا الرحيل. والاعتبارات نفسها تنطبق على الانسحاب من قطاع غزة، الذي تم بعد أن انعدمت الجدوى من وجود الاحتلال فيه. وإذا لم يحدث مثل هذا في الضفة، مع تنوع أساليب المقاومة، فلن تتزحزح إسرائيل منها. ومن هنا لا بد من مواجهة الاحتلال، ولو بأساليب سلمية، على نطاق واسع.

     ويقيناً، أن أحداً لا يسعى، بمثل هذه الاقتراحات، إلى تحميل الآخرين ما ليس باستطاعتهم حمله. غير أن للضرورة أحكامها؛ وليس هذا إلا من واقع الحال. إن أوباما، الرئيس المستعد لبيع كافة مبادئه والارتماء عند أقدام اللوبي اليهودي، لكي يحظى بمساعدتهم في سعيه لولاية جديدة، لن يجرؤ على الإقدام على أي عمل يغضب الصهيونيين، بل على العكس من ذلك يبدو على استعداد لـ”بيع” الفلسطينيين إكراماً لهم. أما نتنياهو، المتعصب وضيق الأفق، فإنه أساساً لا يملك من زمام أمره الكثير، وهو ليس أكثر من أداة في أيدي غلاة الصهيونيين التوسعيين، لكي يبقى في الحكم. بل أن حاله، في هذا المضمار، لا تختلف عن حال شريكه و”حليفه” الأميركي. والأرجح أن لا يصدر عن هذين الرجلين إلا علك الدعوات إلى “مفاوضات” ستكون هذه المرة، إن عادت، أكثر عبثية وكذلك تدميراً.

     إن الدورة الحالية للجمعية العمومية للأمم المتحدة ينبغي ألا تمر، بأي شكل من الأشكال، دون إحراز تقدم ملموس ونوعي في وضع القضية الفلسطينية، أقله الاعتراف بفلسطين دولة، وإن كانت، مرة أخرى وأخرى، غير عضو في الأمم المتحدة، حالياً على الأقل. إن هذا، ويبدو انه متاح، أقل ما ينبغي الحصول عليه، للانطلاق منه إلى مراحل المواجهات القادمة – وهي عديدة ومتنوعة.

     وبدون ذلك، وإن فشل التوجه إلى أعلى المنابر الدولية، ولم تتم متابعة هذا المسار واستنفاذه، ستكون الكوارث متربصة بالفلسطينيين جميعاً عند أول منعطف يصلون إليه. فإسرائيل ماضية، دون تردد أو وجل، وكذلك دون أن تحسب حسابا لأحد، في تنفيذ مخططاتها. والقادم أعظم إن لم يتم ايقافها.

 

نشرت في جريدة “الايام” (رام الله)، 26/10/2011

الأرشيف