سراب الرهان على الموقفين الاميركي والاسرائيلي

سراب الرهان على الموقفين الأميركي والإسرائيلي

صبري  جريس

    فيما تستمر، وتتشعب، الأنشطة المختلفة، على صعد عدة، لحل قضية الفلسطينيين بإعلان دولتهم وكسب أوسع مدى من الاعتراف الدولي بها، تتحرك أيضاً، أخيراً، القوى المعادية، وهي حصرياً الولايات المتحدة وإسرائيل، للإدلاء بدلوها، في محاولاتها الدائمة للتعطيل والعرقلة، من خلال سعيها لتمرير مخططاتها وفرض “حلولها”. ولهذا رحنا نسمع، كالعادة، عن خطابات أو مشاريع حلول يعدّها أوباما أو نتنياهو، لإلقائها أو تقديمها في هذه المناسبة أو تلك. ولهذا رحنا أيضاً، مرة أخرى كالعادة، نسمع التصريحات والتعليقات، المتفاوتة في درجات تشاؤمها أو تفاؤلها، وكل تدور في إطار تمنيات “لعل وعسى” التقليدية.

    غير أن نظرة سريعة إلى واقع الحال تُظهر بوضوح أن جديد هذه التحركات وأهدافها لا يختلف كثيراً عن قديمها. فكل من الطرفين، الامبريالي-الأميركي والصهيوني-الإسرائيلي لا يزال، كما كان عليه الحال سابقاً، متشبثاً بمفاهيمه القديمة ويسعى، دون تعب، إلى تجديد اللعبة القديمة إياها، وهي إعادة تنشيط “المفاوضات” بين إسرائيل والفلسطينيين، التي يفترض أن تكون، حسب مفاهيمهم، القاعدة التي يعمل على أساسها للوصول إلى أية حلول. وقد فات أصحاب هذه المواقف أن لعبة “المفاوضات” أصبحت بالية وسحبت من التداول، لأسباب وجيهة وواقعية للغاية. فما يقارب عقدين من التفاوض، بمختلف الأشكال، لم يؤد إلى نتيجة تذكر، عدا ربما عن ترسيخ الاحتلال وتقوية أخطبوطه. وفي ضوء هذه النتائج المأساوية نجد أنه حتى أولئك الذين خلقوا مصابين بمرض التفاوض، راحوا يتعافون منه، بعد أن ثبت انعدام جدواه على أرض الواقع. كما أن هنالك، من ناحية أخرى، في التطورات العالمية والإقليمية الإيجابية الملموسة ما يشير إلى مسالك أخرى يمكن إتبّاعها، وتبدو أكثر جدوى.

    ويقيناً أن التحركات الامبريالية-الصهيونية بشأن طريق “التفاوض”، باعتباره المسار الوحيد الذي يمكن سلوكه للوصول إلى حل عادل ودائم للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ليس، في أحسن حالاته، إلا كلام حق يراد به باطل؛ ولا تفسير غير ذلك في هذا المجال. ولسبب غير واضح لي، ما أن أسمع الأميركيون أو الإسرائيليون يتحدثون عن “مفاوضات” حتى تخطر على بالي تلك “المفاوضات” التي “رعاها” الجيش الإسرائيلي حين اجتاح بيروت في خريف 1982، وكان من بين ما قام به يومها فرض طوق محكم على مخيمي صبرا وشاتيلا، بحيث لا يتمكن أحد من الخروج منهما أو الدخول إليهما. ولكنه، مع ذلك، أبقى مدخلاً واحداً للمخيمين وسمح لعناصر القوات اللبنانية الفاشية بالدخول منه إليهما. وهناك راح أولئك، لمدة 3 أيام، “يفاوضون” الأهالي ويدققون في هوياتهم ويسحبون من “يستحق” ذلك منهم إلى الذبح، حيث أجهزوا بتلك الطريقة على المئات من سكان المخيمين، فيما عرف باسم “مجزرة صبرا وشاتيلا” سيئة الصيت. ويبدو أن الامبرياليين الأميركيين بتمسكهم المشكوك به بمبدأ “التفاوض”، الذي لا تنفك إسرائيل أيضاً عن علكه، لا يسعون، في حقيقة الأمر إلا إلى تدبير مجزرة مماثلة للفلسطينيين، ولكن هذه المرة سياسية.

    ووفقاً للمعايير الامبريالية-الصهيونية لا حل للقضية الفلسطينية إلا طريق “المفاوضات المباشرة” بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، التي ينبغي أن تتم “دون شروط مسبقة”، ومن خلال الامتناع عن اتخاذ إجراءات “أحادية الجانب” ما دامت تلك المفاوضات مستمرة. ووفقاً لهذه المعايير ايضا لا يعتبر استمرار الاحتلال الجاثم على فلسطين، ولا حتى الإصرار على التوسع الاستيطاني “شروطاً مسبقة”، بل أن هذا “واقع” جديد ينبغي أخذه بالاعتبار. أما الحقوق الفلسطينية وحتى تلك منها التي تقرها الشرعية الدولية فيعتبر التمسك بها “عائقاً” أمام “عملية” السلام. والطرفان، أساساً، معنيان بـ”العملية” وليس “السلام”. والواضح أن “مفاوضات” في وضع كهذا، يتم معه تجريد الفلسطينذيين من معظم عناصر القوة التي يمتلكونها لن تكون حقيقة إلا نوعاً من الإملاءات التي تفرضها إسرائيل عليهم، خدمة لمصالحها، ولن تؤدي في نهاية الأمر إلا إلى استعباد الفلسطينيين وفرض السيطرة الإسرائيلية عليهم إلى أجل غير مسمى. وإذا كانت إسرائيل هي المنفذ الصغير، صاحب المصلحة المباشرة في تنفيذ مخطط كهذا فإن الولايات المتحدة هي المجرم الأكبر، الذي يقف وراء هذه التوجهات، والتي لولاها ما استطاع الكيان الصهيوني فعل الكثير. والولايات المتحدة، حقاً، لا تتنكر كثيراً لحقوق الفلسطينيين، كما أنها لا تتحدى قرارات الشرعية الدولية الأساسية، المتعلقة بالقضية الفلسطينية، ولمعظمها يد فيها، ولكنها تحاول، بمنتهى الوضوح، الالتفاف عليها؛ وذلك بتسليم الشأن الفلسطيني للمحتل الإسرائيلي للبت في مجمل قضاياه الأساسية. ويتم ذلك عن طريق حشر الفلسطينيين في مفاوضات غير متكافئة لن تؤدي، إذا لم يكن هنالك خيار آخر غيرها، إلا إلى التفريط بقضاياهم وتصفيتها؛ وعن طريق “موافقتهم” على ما تمن إسرائيل عليهم به، بينما تغسل الامبريالية الأميركية يديها من دمهم، فما حدث تم بناءاً على “موافقتهم” وفي “مفاوضات مباشرة”.

    ولا حاجة لإبداء الاستغراب من مثل هذا الموقف الأميركي أو التساؤل كثيراً بشأنه، فأسبابه واضحة وسره كامن في النفوذ اليهودي الواسع في الولايات المتحدة ونشاط اللوبي اليهودي، الدائم والواسع والمحموم، الهادف إلى اختطاف الموقف الأميركي، خصوصاً حين يتعلق الأمر بإسرائيل، ومن ثم حرفه عن مساره لمصلحة الكيان الصهيوني؛ وهو ما نلاحظه دائماً في السياسة الأميركية تجاه المنطقة. وليس هذا كلاماً يلقى على عواهنه أو أساطير مقتبسة من “بروتوكولات حكماء صهيون”، مثلاً، بل انه واقع سياسي ملموس، قائم على حقائق دامغة ودلائل واضحة، يستطيع كل مراقب سياسي، حتى وإن كان مبتدأً، الوقوف بسهولة عليها – ومن ثم التحسب من عواقبها.

    ففي المجتمع الأميركي، المكون أساساً من المهاجرين من كافة أنحاء المعمورة، يشكل اليهود، عملياً، أقلية ضئيلة، نحو 2 – 2,5 بالمئة (6 – 7 ملايين من بين نحو 200 مليون)، وأكثرية أولئك وصلت إلى أميركا خلال السنوات 1882 – 1914، في أواخر عهود الحكم القيصري في روسيا، قادمين بمعظمهم من بولونيا، التي كانت خاضعة آنذاك للحكم الروسي. وتم ذلك ضمن حملة هجرة كبيرة من روسيا والمناطق الخاضعة لحكمها آنذاك، نتيجة لتطورات اقتصادية جذرية حدثت هناك من ناحية، وكذلك بسبب حملات قمع شرسة تعرض لها اليهود خاصة، نظراً لوجود نسبة عالية منهم في الحركات الثورية المختلفة التي كانت تناوئ الحكم القيصري (والتي تمكنت أخيراً من القضاء عليه مع نهاية الحرب العالمية اأولى، عندما قام البلاشفة بثورتهم واستولوا على الحكم في البلد). ولذلك عمد الحكم القيصري إلى تشجيع اليهود على الهجرة من روسيا بأساليب مختلفة، وأحياناً “بواسطة الرفص” على حد تعبير وزير الداخلية القيصري في مقابلته مع هرتسل، مؤسس المنظمة الصهيونية العالمية، حين زاره طالباً المساعدة في إقامة دولة يهودية في فلسطين.

    ومنذ راحت موجات الهجرة اليهودية تصل إلى أميركا وحتى اليوم ازداد عدد اليهود في البلد، كما تغيرت، وهذا هو الأهم، أوضاعهم الاجتماعية الاقتصادية، ومن ثم السياسية، بصورة ملحوظة. فقد انتقلت تدريجياً أكثريتهم من طبقة عمالية غير ميسورة، كادت خلال النصف الأول من القرن الماضي، تسيطر على صناعة النسيج والملابس في الولايات المتحدة بأسرها، وتحولوا بمعظمهم إلى طبقة وسطى وما فوق، متجهين نحو اكتساب العلم على نطاق واسع. واليوم يشكل اليهود، مثلاً، نسبة ملحوظة للغاية بين الأساتذة الجامعيين ورجال الإعلام في الولايات المتحدة، تفوق أضعاف نسبتهم بين السكان. ولم ينسوا، بالطبع، كعادتهم مجال المال والاقتصاد. ويظهر من تقرير نشره أحدهم، قبل فترة، يحلل الأزمة الاقتصادية التي أصابت أميركا مؤخراً تواجداً يهودياً كبيراً في إدارة المؤسسات الاقتصادية، التي أدى خطأها أو انهيارها، إلى نشوب تلك الأزمة.

    وقد تنبه الصهيونيون في وقت مبكر لأهمية هذه الجالية، وكسب نفوذها ومن ثم السيطرة عليها لخدمة مخططاتهم، ويلاحظ أن القيادة الصهيونية، ممثلة ببن-غوريون رئيس الوكالة اليهودية، وفيما بعد أول رئيس حكومة في إسرائيل، لم تشأ الإعلان عن برامجها السياسية لإقامة دولة يهودية في فلسطين، بعد الحرب العالمية الثانية، إلا من أميركا بالذات، فيما عرف باسم برنامج بلتيمور. وكان هذا البرنامج قد أعلن سنة 1942، أي قبل نهاية الحرب العالمية بثلاث سنوات، فيما كانت بريطانيا لا تزال تصول وتجول في الشرق الأوسط، بما في ذلك فلسطين.

    إن نشاط اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة ونفوذه معروفين وملموسين للغاية. فهذا الأخطبوط يصول ويجول في عالم السياسة في أميركا، همه الأساسي دعم أية سياسة تنتهجها حكومة إسرائيل، من قبيل “أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”. بل انه، والأنكى من ذلك، يحظى حتى باحترام، أو خوف، من قبل العديد من السياسيين الأميركيين أو الطامعين في الوظائف العامة، القائمة على الانتخاب، وفي كل عام يعقد هذا الأخطبوط مؤتمره السنوي، حيث “يتشرف” عدد من السياسيين الأميركيين بالتملق له أو السير في ركابه، دون أن تكون هناك طريق ثالثة. فـ”الجماعة” تعمل، بصورة ثابتة، على محورين، هما الترغيب أو الترهيب. ويبدو واضحاً للغاية من متابعة نشاطها أن من يمشون في ركابها يحظون بدعم مالي وافر لحملاتهم الانتخابية، أما الذين يعارضونها، أو يستخفون بإسرائيلهم، فمصيرهم المقاطعة والتشهير والإفشال. ويبدو أن نشاطهم لا يستثني حتى كبار الشخصيات اليهودية من مثل هذه المعاملة. فالقاضي غولدستون اليهودي، مثلاً، صاحب التقرير المعروف باسمه عن الاعتداء على غزة، تعرض لحملة لا سابقة لها، قبيل “تراجعه”، ولو مواربة، عن بعض ما جاء في تقريره، اضطر على أثرها عن الامتناع حتى عن حضور حفل ختان حفيده، لأن شخصيات يهودية أخرى، كانت مدعوة للحفل، رفضت التواجد معه!

    ويبدو أن شيئاً من هذا القبيل كان من نصيب السيد الرئيس أوباما. فقد أظهر هذا الرجل، بعيد انتخابه، انفتاحاً ملحوظاً تجاه القضايا العربية، فدعى، مثلاً، علناً، إلى التقارب بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي وأيد قيام دولة فلسطينية ثم دخل في مشاحنات حامية مع حكومة إسرائيل حول سياستها ونشاطها الاستيطانيين. غير أنه ما أن وصل إلى نصف فترة ولايته، عند ما مني حزبه بخسارة في الانتخابات النصفية لمجلس النواب الأميركي، حتى نسي الرجل دعواته إلى التقارب مع العالم الإسلامي وكذلك تأييده لقيام دولة فلسطينية؛ ثم أوعز أخيراً إلى مندوبته في مجلس الأمن بالتصويت ضد قرار يدين الاستيطان، بعد أن فشل في ثني الفلسطينيين عن تقديم مشروع ذلك القرار. وكانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي صوتت ضد ذلك القرار، مستعملة حق الفيتو، بينما أيدته كافة الدول الأخرى الأعضاء في مجلس الأمن.

    وقد سارع أوباما إلى إعلان ترشيح نفسه لفترة رئاسية ثانية، مؤخراً، وهو ما يعني أن مواقف الرجل ستزداد سوءاً تجاه القضايا العربية لفترة طويلة، أي نحو سنة ونصف السنة، حتى تعقد الانتخابات الرئاسية القادمة في أواخر سنة 2012. فخلال هذه الفترة لن تكون قدرة للرئيس الأميركي على اتخاذ مواقف حاسمة، خصوصاً وأن حزبه الديمقراطي يعج باليهود، والذين يقدّر أن نحو ثلاثة أرباعهم في أميركا يصوتون له. فكسب التأييد الانتخابي، لا غيره، سيكون الهدف الأول الذي سيسعى إليه كل مرشح، وفي أولهم أوباما.

    على خلفية كهذه رحنا نسمع مؤخراً أن هنالك “مشروعاً” للحل يعمل أوباما على صياغته؛ وأن هنالك أيضاً “مشروعاً” آخر ينوي نتنياهو تقديمه في خطاب دعي لإلقائه أمام الكونغرس قريباً. ألا أن هذا كله، في ضوء مواقف الطرفين المعلنة، لن يكون إلا من قبيل ذر الرماد في العيون. والأرجح أن لا تخرج محصلة مواقف الطرفين عن الدعوة مجدداً إلى إطلاق مفاوضات استسلام، يتوجب حتى على الفلسطينيين هذه المرة التخلي عن بعض حقوقهم الأساسية لكي “تنجح” مثل تلك التوجهات.

    في وضع كهذا، يبدو واضحاً للغاية أنه ما من طريق أمام الفلسطينيين إلا المضي قدماً في مشاريعهم الهادفة إلى عرض القضية الفلسطينية على الأمم المتحدة وطلب الاعتراف بدولة فلسطينية من المنظمة الدولية من جهة وكافة الدول المؤيدة لذلك من جهة أخرى. وبعكس ذلك، وإن حدث تراجع، قد تصاب القضية الفلسطينية بنكسة سياسية كبرى، ربما لا تستطيع أن تتعافى منها لفترة غير قصيرة.

    لقد تمت تجربة مشاريع الحلول الأميركية والإسرائيلية، مجتمعة أو منفردة، خلال ما يزيد على أربعة عقود، بأنشطتها المختلفة، ولم تسفر عن نتيجة إيجابية تذكر. وليس هنالك، في الأوضاع والمعطيات الراهنة، ما يمكن أن يشير إلى عكس ذلك. فالرهان على الموقفين، الأميركي أو الإسرائيلي، كان، ولا زال، سراباً لا غير. وآن الأوان لإتبّاع طرق ومسارات أخرى، إذ مهما كانت نتيجتها فلا شك أنها ستغير، نحو الأحسن، من الوضع الحالي. وإن حدث وكانت هنالك ضرورة لمفاوضات جديدة فينبغي أن لا تدور إلا حول تنفيذ قرارات الشرعية الدولية بشأن القضية الفلسطينية، ويستحسن أن يستبعد أي مبعوث أميركي من المشاركة المباشرة فيها.

نشرت في جريدة “الايام” (رام الله)، 27/4/2011
الأرشيف